محمد إبراهيم كامل.. من غرام الطفولة بالترام إلى «ماريو» (1-2)

الجاسوسية أسرار وألغاز (13)| الجاسوس الميكانيكي.. أسهل عميل للموساد في التاريخ

profile
مصطفي إبراهيم رئيس التحرير التنفيذي لموقع 180 تحقيقات ورئيس تحرير موقع 180ترك
  • clock 29 يوليو 2024, 12:07:39 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار وتغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.

ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطور الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..

 وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.

ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم

 

الحلقة 13

 

>> تزوج من تغريد.. وضم إلهيا الراقصة وجيدة.. وأدمن الملاهي وسهر الليل

>> أهمل عمله فسرق الصبية ورشته.. فقرر السفر إلى إيطاليا لتجارة قطع الغيار 

>> أوقعه حبه للثراء السريع في حبال صديقه اليهودي.. ومنه على الموساد 

>> "لابي" قاده إلى ضابط الموساد بزعم أنه خبير مكافحة الشيوعية 

>> حاول أن يتوب لكن بعد فوات الأوان.. ومصاريف وجيدة وتغريد باتت تمثل عبئاً ثقيلاً 

 

محمد إبراهيم كامل ميكانيكي سكندري.. شهرته ماريو.. يعد من أشهر عملاء إسرائيل في مصر الذين تم تجنيدهم بسهولة يكاد العقل لا يستوعبها أو يصدقها، حيث كانت قصة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية أكثر سهولة.. أما نهايته البشعة فلم يكن ليصدقها هو أو يتخيل مصيره الأسود.

منذ تفتحت عينا محمد على ضجيج الحياة في حي محرم بك المزدحم ذاب عشقاً في جرس الترام.. الذي كلما ملأ أذنيه خرج إلى الشرفة يبتسم في انبهار وحيرة.. فنشأت بينه- منذ طفولته- وبين الترام قصة غرام دفعته للهرب من مدرسته.. والسعي وراءه راكباً لجميع خطوطه المختلفة ومحطاته.

ولم يدم هذا الحب كثيراً إذ اندفع فجأة نحو السيارات فالتصق حباً بها.. والتحم عقله وقلبه الصغير بموتور السيارة مستغرقاً وقته كله.. حتى أخفق في دراسته الابتدائية.. وأسرعت به خطاه إلى أول ورشة لميكانيكا السيارات يمتلكها إيطالي يدعى الخواجة روبرتو الذي اكتشف هذا الحب الجارف بين الولد والموتور فعلمه كيف يتفاعل معه؟! ويفهمه ويستوعبه. ولم تكد تمضي عدة أشهر فقط إلا وكان محمد أشهر صبي ميكانيكي في ورشة الخواجة روبرتو، حيث كانت السيارات تقف موازية للرصيف بجوار الورشة بأعداد كبيرة.. تنتظر أنامل محمد الذهبية وهي تداعب الآلة المعدنية الصماء.. وتمر بين أجزائها في تناغم عجيب فتعمل بكفاءة ويتحسن صوت نبض الموتور.. ويزداد الصبي شهرة كل يوم. ورغم محاولات البعض استدراجه واستثمار خبرته وشهرته في عمل ورشة مناصفة بعيداً عن روبرتو، أجبروا على أن يتعاملوا معه كرجل لا كصبي في الخامسة عشرة من عمره. وكثيراً ما كان ينزعج عندما كان يخرج إلى الكورنيش مع أقرانه بسبب توقف السيارة ودعوة أصحابها له ليركب حتى منزله، فكبرت لدى الصبي روح الرجولة وارتسمت خطوطها المبكرة حيث كان مبعثها حبه الشديد للعمل والجدية والتفكير الطويل..وبعد عدة سنوات كانت الأحوال والصور قد تغيرت، فقد صار الصبي شاباً يافعاً خبيراً بميكانيكا السيارات، تعلم اللغة الإيطالية من خلال الخواجة روبرتو والإيطاليين المترددين على الورشة وأصبح يجيد التعبير بها كأهلها.. فأطلق عليه اسم ماريو.

وجيدة وتغريد

وعندما لسعته نظرات الإعجاب من وجيدة.. دق قلبه بعنف وانتبه لموعد مرورها أمام الورشة حين عودتها من المدرسة.. فواعدها والتقى بها ولم يطل به الأمر كثيراً.. إذ تقدم لأسرتها وتزوجها بعدما أقنعتهم رجولته وسمعته الحميدة وشقته الجميلة في محرم بك.

ثمانية أعوام من زواجه وكانت النقود التي يكسبها تستثمر في ورشة جديدة أقامها بمفرده، ومنذ استقل في عمله أخذ منه العمل معظم وقته وفكره حتى تعرف على فتاة قاهرية كانت تصطاف مع أهلها بالإسكندرية وأقنعها بالزواج.. ولأنها كانت ابنة أسرة ثرية فقد اشترى لها شقة في الدقي بالقاهرة وأثثها.. وأقام مع عروسه تغريد لبعض الوقت ثم عاد إلى الإسكندرية مستغرقاً في عمله متنقلاً ما بين وجيدة وتغريد ينفق هنا وهناك.. وعندما توقف ذات يوم على الطريق الصحراوي بالقرب من الرست هاوس بجوار سيارة معطلة.. أعجبته صاحبة السيارة ودار بينهما حوار قصير.. على أثره ركبت معه السيارة الرائعة إلى القاهرة.. وفي الطريق عرف أنها راقصة مشهورة في شارع الهرم.. سهر معها في الكباريهات وتنقل معها هنا وهناك.. ثم جرجرته معها إلى شقتها.. واعترف ماريو أن هذه الراقصة كانت أول من دفعه والخطوة الأولى نحو حبل المشنقة..

يقول: في تلك الليلة شربت كثيراً وكلما رأيت جسد الراقصة المثير يرتعش أمام الزبائن ترتعش في جسدي خلجات الرغبة، وبعدما انتهت من فقراتها الراقصة في أربعة كباريهات.. عدنا إلى شقتها في المهندسين وبدلاً من أن أنام أو أذهب لشقتي حيث تنتظرني تغريد.. قضيت بقية الليل مع الراقصة، وبعد ذلك استعنت ببعض الصبية الذين دربتهم على القيام بالعمل بدلاً مني، فكنت أتغيب لعدة أيام في القاهرة وأعود لأجمع ما ينتظرني من مال لديهم.. وسرعان ما أرجع لأنفقه على الداعرات والراقصات.

الرصيد صفر

ولأن للمال مفعول السحر فقد كنت أعامل كملك.. لأنني أصرف ببذخ على من يحطن بي من فتيات ونساء أشبعنني تدللاً.. وصورنني كأنني الرجل الأول لديهن، فأطلقت يدي ومددتها إلى مدخراتي في البنك شيئاً فشيئاً حتى أصبح رصيدي صفراً وتحولت الورشة إلى خرابة بعدما سرق الصبيان أدواتها وهرب منها الزبائن. حاولت أن أثوب إلى رشدي وكان الوقت قد فات، وخسرت سمعتي بعدما خسرت نفسي.. وأصبحت مصاريف وجيدة وتغريد تمثل عبئاً قاسياً على نفسي وأنا الذي لم يعضني الجوع أو تثقلني الحاجة من قبل.. فتألمت لحالي وقررت أن أخطو خطوة سريعة إلى الأمام وإلا.. فالمستقبل المجهول ينتظرني والفقر يسعى ورائي بشراسة ولا أستطيع مجابهته.

كان السفر إلى إيطاليا هو الخطوة إلى الأمام التي اخترتها..فاستخرجت جواز سفر وحصلت على عناوين لبعض زبائني القدامى في إيطاليا وركبت السفينة الإيطالية ماركو إلى نابولي.. وبعدما رأيت أضواء الميناء تتلألأ على صفحة المياه صحت بأعلى صوتي تشاو.. تشاو نابولي.

استقبال سيئ

في بنسيون قديم حقير وقفت أمام صاحبه العجوز أسأله هل زرت مصر من قبل؟ فقال الرجل لا.. ضحكت وقلت له أنني رأيتك في الإسكندرية منذ سنوات فجاءتني زوجته تسبقها حمم من الشتائم قائلة: ماذا تريد أيها المصري من زوجي؟ أتظن أنك فهلوي؟ انتبه لنفسك وإلا.. ففي نابولي يقولون: إذا كان المصري يسرق الكحل من العين.. فنحن نسرق اللبن من فنجان الشاي.. وكان استقبالاً سيئاً في أول أيامي في إيطاليا.

في اليوم التالي حاولت أن أتعرف على السوق وبالأخص أماكن بيع قطع الغيار المستعملة.. ولكن صديقاً إيطالياً توصلت إليه أخبرني أن في ميلانو أكبر أسواق إيطاليا للسيارات القديمة والمستعملة.. وثمنها يعادل نصف الثمن في نابولي، فاتجهت شمالاً إلى روما وقطعت مئات الكيلو مترات بالقطار السريع حتى ميلانو.. وبالفعل كانت الأسعار هناك أقل من نصفها في نابولي.. والتقيت في ميلانو بأحد زبائني القدامى الذي سهل لي مهمتي.. ولفت انتباهي إلى أماكن بيع منتجات خان الخليلي في ميلانو بأسعار عالية.

ابتعت طلباتي من قطع غيار سيارات الفيات 125 غير المتوافرة في السوق المصرية وعدت إلى الإسكندرية وخرجت من الجمرك بما معي من بضائع بواسطة زبائني الذين يعملون في الدائرة الجمركية.. وقمت ببيع قطع الغيار بأضعاف ثمنها وذهبت إلى خان الخليلي واشتريت بعضاً من بضائعه وسافرت مرة ثانية إلى إيطاليا.. واعتدت أن أنزل ببنسيون بياتريتشي في روما ثم أتجه إلى ميلانو لعدة أيام.. أنجز خلالها مهمتي وأعود ثانية إلى روما ونابولي ثم إلى الإسكندرية.. اعتدت السفر كثيراً وبدأت الأموال تتدفق بين أصابعي من جديد.. واتسعت علاقاتي بإيطاليين جدد بالإضافة للأصدقاء القدامى الذين يكنون لي كل الود. وفي ذات مرة وبينما كنت في خان الخليلي أنتقي بعض المعروضات التي أوصاني صديق إيطالي بشرائها.. سألتني فتاة تبيع في محل صغير عما أريده.. وساعدتني في شراء بضائع جيدة بسعر رخيص وتكررت مرات الذهاب للشراء بواسطتها ولما عرفت أنني أسافر إلى إيطاليا بصفة مستمرة عرضت على أن تسافر معي ذات مرة.. لتشتري سيارة فيات مستعملة لتشغيلها تاكسياً في القاهرة. واطمأنت زينب وهذا هو اسمها- عندما أخبرتها أنني أعمل ميكانيكياً وأقوم بالاتجار في قطع الغيار. وتركتها لتجمع المبلغ المطلوب ثم أرسل لها من إيطاليا لأنتظرها هناك. أراد أصدقائي الإيطاليين أن أظل بينهم وأمارس عملاً ثابتاً أحصل بمقتضاه على إقامة في إيطاليا... وقد كان.. إذ سرعان ما وجدوا لي عملاً في شركة راواتيكس.. وبعدما حصلت على تصريح عمل وإقامة.. لم تتوقف رحلاتي إلى الإسكندرية.. فالمكسب كان يشجع على السفر بصفة مستمرة لكي أعرف احتياجات سوق قطع غيار السيارات في مصر.. والذي كان يمتصها بسرعة فائقة.

معرفة قديمة

وفي إحدى هذه السفريات وبينما كنت في مطار روما تقابلت بالصدفة مع صديق إيطالي قديم- يهودي- كانت بيننا عشرة طويلة واسمه ليون لابي فتبادلنا العناوين، وبعد عدة أيام جاءتني مكالمة تلفونية منه وتواعدنا للقاء في مطعم مشهور في ميلانو.

أشفق لابي كثيراً على حالي بعدما شرحت له ظروفي وتعثراتي المالية وزواجي من امرأتين.. وسألته أن يتدبر صفقة تجارية كبيرة أجني من ورائها أموالاً طائلة.. فضحك لابي وقبل أن يقوم لينصرف ضربني على ظهر يدي وقال لي: لا تقلق ماريو.. غداً سأجد لك حلاً، لا تقلق أبداً. وبعد ذلك جمعته سهرة حمراء في شقة لابي، وقضى الليلة مع رفيقة صديقه اليهودي، وفي الليلة الثانية يقول في اعترافاته التفصيلية: في اليوم التالي أخبره لابي أن عليه انتظار مندوب من رجل أعمال إيطالي سيشاركه في صفقة كبيرة يربح منها المال الوفير الذي يحلم به ، وأعطاه العنوان الذي سيقابل فيه مندوب رجل الأعمال الذي سيأخذه إلى مقر الشركة.. ويقول ماريو عن ذلك: في الثامنة مساء من مساء اليوم التالي وقفت مرتبكاً للحظات أمام الباب المغلق.. ثم نزلت عدة درجات من السلم وأخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة، وعندئذ سمعت وقع خطوات نسائية بمدخل السلم فانتظرت متردداً.. وعندما رأيت الفتاة القادمة كدت أسقط على الأرض.. كانت هي نفسها الفتاة التي واقعتها في شقة لابي لكن ابتسامتها حين رأتني مسحت عني مظاهر القلق وهي تقول: بونجورنو.. فرددت تحيتها بينما كانت تسحبني لأصعد درجات السلم ولا زالت ابتسامتها تغطي وجهها وقالت في دلال الأنثى المحبب: أنا لم أخبر سنيور لابي بما حدث منك..قلت في ثقة الرجل: لماذا؟ ألم تهدديني بالانتحار من النافذة؟

بهمس كأنه النسيم يشدو: أيها الفرعوني الشرس أذهلتني جرأتك ولم تترك لي عقلاً لأفكر.. حتى أنني كنت أحلم بعدها بـ أونالترا فولتا، لكنك هربت!.

قلت لها: ياليتني فهمت ذلك.

وانفتح الباب وهي تقول: هل ترفض دعوتي على فنجان من القهوة الايطالية؟

بداية الخديعة

ووجدت نفسي في صالة القنصلية الإسرائيلية والفتاة مازالت تسحبني وتفتح باب حجرة داخلية لأجد لابي فجأة أمامي، قام ليستقبلني بعاصفة من الهتاف: مسيو أميتشو.. ماريو.. أهلاً بك في مكتبك.

وهللت الفتاة قائلة: تصور.. تصور سنيور لابي أنه لم يسألني عن اسمي؟

قهقه لابي واهتز كرشه المترهل وهو يقول بصوت جهوري: شكرية..شكرية بالمصري سنيور ماريو تعني: جراتسيللا.

واستمر في قهقهته العالية وصرخت الفتاة باندهاش: أيكون لاسمي معنى بالعربية؟ اشرحه لي من فضلك سنيور ماريو..وأخذت تضحك في رقة وهي تردد: شوك.. ريا.. شوك.. ريا. جراتسيللا شوك.. ريا.

ولم يتركني لابي أقف هكذا مندهشاً فقال للفتاة: أسرعي بفنجانين من الـ كافي أيتها الكافيتييرا جراتسيللا.

واستعرض لابي في الحديث عن ذكرياته بالإسكندرية قبل أن يغادرها الى روما في منتصف الخمسينيات.. وأفاض في مدح جمالها وشوارعها ومنتزهاتها.. ثم تهدج صوته شجناً وهو يتذكر مراتع صباه وطال حديثنا وامتد لأكثر من ساعتين بينما كانت سكرتيرته الساحرة غراتسيللا لا تكف عن المزاح معي وهي تردد: شوك.. ريا.. سنيوريتا شوك.. ريا.

وعندما سألتني أين أقيم فذكرت لها اسم الفندق الذي أنزل به.. فقالت وكأنها لا تسكن ميلانو: لم أسمع عن هذا الفندق من قبل.

رد لابي قائلاً: إنه فندق قديم غير معروف في الحي التاسع الشعبي.

قالت في تأفف: أوه.. كيف تقيم في فندق كهذا؟

قال لابي موجهاً كلامه إليها: خذيه إلى فندق ريتزو وانتظراني هناك بعد ساعتين من الآن.

وربت لابي على كتفي في ود وهو يؤكد لي أنه يحتاجني لأمر هام جداً لن أندم عليه وسأربح من ورائه الكثير.

الوحش الضاري

وركبت السيارة إلى جوار غراتسيللا فانطلقت تغني أغنية بالوردو بيلفا أي أيها الوحش الضاري وفجأة توقفت عن الغناء وسألتني: هل تكسب كثيراً من تجارتك يا ماريو؟

قلت لها: بالطبع أكسب.. وإلا..ما كنت أعدت الكرة بعد ذلك مرات كثيرة.

- كم تكسب شهرياً على وجه التقريب؟

- حوالي ستمائة دولار.

- قالت في صوت مشوب بالحسرة:

- وهل هذا المبلغ يكفي لأن تعيش؟ إن لابي يشفق لحالك كثيراً سنيور ماريو.

- سنيور لابي صديقي منذ سنوات طويلة.. وأنا أقدر له ذلك.

- إنه دائماً يحدثني عن الإسكندرية.. له هناك تراث ضخم من الذكريات..!!

- وفي فندق ريتز.. صعدنا الى الطابق الثاني حيث حجزت لي جراتسيللا جناحاً رائعاً وبينما أرتب بعض أوراقي فوجئت بها تقف أمامي في دلال وبإصبعها تشير لي قائلة: أونالترا فولتا أيها المصري وهذه المرة للإيطاليا نيتا.. محبة الوطن الإيطالي.

وأكملت :ليوباردو..ليوباردو.. ماريو إيجتسيانو.

وعندما جاء لابي كان من الواضح أننا كنا في معركة شعواء انتهينا منها تواً.. أخرج من جيبه مظروفاً به خمسمائة دولار وقال لي إنه سيمر علي صباح الغد..

وأوصاني أن أنام مبكراً لكي أكون نقي الذهن، وانصرفا بينما تملكتني الأفكار حيرى.. ، ترى ماذا يريد مني؟ وما دخلي انا فيما يريده لابي؟؟

مكافحة الشيوعية

وفي العاشرة والنصف صباحاً جاء ومعه شخص آخر يتحدث العربية كأهلها اسمه إبراهيم.. قال عنه لابي إنه خبير إسرائيلي يعمل في شعبة مكافحة الشيوعية في البلاد العربية. رحب إبراهيم بماريو وقال له بلغة جادة مفعمة بالثقة: إسرائيل لا تريد منك شيئاً قد يضرك..فنحن نحارب الشيوعية ولسنا نريدك أن تخون وطنك.. مطلقاً.. نحن لا نفكر في هذا الأمر البتة. وكل المطلوب منك.. أن تمدنا بمعلومات قد تفيدنا عن نشاط الشيوعيين في مصر وانتشار الشيوعية وخطرها على المنطقة. وأردف ضابط المخابرات الإسرائيلي: كل ذلك لقاء 500 دولار شهرياً لك. وعندما أوضحت له أنني لا أفهم شيئاً عن الشيوعية أو الاشتراكية، وأنني أريد فقط أن أعيش في سلام، ذكرني لابي بأحوالي السيئة بالإسكندرية والتي أدت إلى تشتتي هكذا بعدما كنت ذا سمعة حسنة في السوق. واعتقدت أنني يجب ألا أرفض هذا العرض.. فهي فرصة عظيمة يجب استغلالها في وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى التي لازمتني منذ أمد.. وتهدد استقرار حياتي.

الحصار في روما

بالفعل تعاون ماريو مع الصهاينة وأرسل لزينب خطاباً.. لم تصدق نفسها عندما تسلمته ، لم تكن تصدق أن يهتم بها هذا العابر المجهول إلى هذا الحد..كانت قد نسيته بعدما مرت عدة أشهر منذ التقت به في خان الخليلي حيث تعمل بائعة في محل للأنتيكات والتحف. وبعدما تردد عليها عدة مرات عرضت عليه السفر معه إلى إيطاليا لتشتري سيارة لتشغيلها سيارة أجرة في القاهرة.. فوعدها بأن يساعدها ثم اختفى فجأة ولم يعد يذهب إليها.. حتى جاءتها رسالته تحمل طابع البريد الايطالي وعنوانه وتليفونه هناك.

أسرعت زينب بالخطاب إلى خالها الذي يتولى أمرها بعد وفاة والديها، ولكنه عارض الفكرة وعندما رأى منها إصراراً رضخ للأمر ووافقها..

سنوات وزينب تحلم بالسفر إلى الخارج للعمل، وقد بلغت الرابعة والعشرين من عمرها، ولم ترتبط بعد بعلاقات عاطفية تعوق أحلامها. لذلك تفوقت في دراستها بكلية الآداب- جامعة عين شمس وعشقت اللغة الإنكليزية عشقاً كبيراً.. والتحقت بعد الجامعة بالعمل في خان الخليلي بالقرب من بيتها في شارع المعز لدين الله بحي الجمالية.. حيث مسجد الحسين ورائحة التاريخ تعبق المكان وتنتشر على مساحة واسعة من الحي القديم العريق.

حجزت زينب تذكرة الطائرة ذهاباً وإياباً على طائرة مصر للطيران.. وبحقيبتها كل ما لديها من مال وفرته لمثل هذه الفرصة، وفي مطار روما كان ماريو بانتظارها يملأه الشوق لأول الضحايا الذين سيجندهم للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية

 

التعليقات (0)