- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
ممدوح الولي يكتب: لماذا تراجع اهتمام المصريين بالموازنة الحكومية؟
ممدوح الولي يكتب: لماذا تراجع اهتمام المصريين بالموازنة الحكومية؟
- 22 مايو 2023, 4:02:24 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تمثل الموازنة الحكومية في أي بلد البرنامج المالي لإنفاق الحكومة خلال عام مقبل، وباعتبار الحكومة هي المستثمر والمشتري الأكبر في الدول النامية فإن الاهتمام بالموازنة يشتد، حيث تمثل قيمة الاستثمارات الحكومية بمجالات البنية التحتية والإسكان والمنشآت الصحية والتعليمية فرص تعاقدات جديدة لشركات المقاولات، سواء الكبيرة أو الصغيرة.
كما تمثل قيمة المشتريات الحكومية في عام الموازنة من مستلزمات طبية وأغذية وعدد وقطع غيار وأدوات كتابية وعمليات صيانة فرصا للتجار لتنشيط مبيعاتهم.
ويمكن تصور حجم الاستفادة مع بلوغ قيمة الاستثمارات في الموازنة المصرية الجديدة 587 مليار جنيه وقيمة شراء السلع والخدمات 139 مليار جنيه.
ومع أعمال المقاولات ونشاط التجار تستفيد العمالة لدى هؤلاء باستمرار عملها وتحسن مستواها المعيشي، كما تستفيد الجهات المنتجة لمواد البناء والورش والشركات المصنعة والمستوردة لكافة السلع والخدمات التي تشتريها الحكومة أو كما يقولون الجهات الخلفية.
وفي ضوء تدخل الجهات السيادية بالاستحواذ على النصيب الأكبر من الاستثمارات الحكومية فقد تحول دور كبار المقاولين إلى مقاولين من الباطن، حيث تتولى الجهة السيادية تنفيذ المشروع وتعيد توزيع مكوناتهم عليهم بعد أن تحصل على النصيب الأكبر من الربح، ويتكرر ذلك مع شراء الحكومة مستلزمات إدارة دولاب العمل الحكومي في الوزارات والهيئات بتوليها مهمة النصيب الأكبر للشراء، سواء من الداخل أو الخارج.
لا فرق هنا بين المستلزمات الطبية والأدوية للمستشفيات الحكومية التي أصبح شراؤها يتم من قبل جهة حكومية أو حتى طباعة الكتب المدرسية التي تأخذ مطابع الجيش ومطابع الشرطة والصحف الحكومية النصيب الأكبر منها على حساب نصيب مطابع القطاع الخاص، وحتى التغذية المدرسية التي كانت تمثل مجالا لمبيعات القطاع الخاص في المحافظات أصبح النصيب الأكبر منها يتم من خلال إحدى شركات الجيش التي أنشئت خصيصا لهذا الغرض.
أما المواطن المصري البسيط فإن اهتمامه بالموازنة الحكومية ينصب أساسا على مخصصات الدعم بالموازنة، والتي تتجه إلى السلع المجانية التي يحصل عليها شهريا من خلال نظام البطاقات التموينية المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
وهذا النظام هو الذي تم تعديله منذ عام 2014 ليصبح مبلغا نقديا محددا للفرد يقوم بشراء السلع التموينية في إطاره استجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي، بعد أن ظل النظام لسنوات طويلة يتمثل في صرف مقررات سلعية كمية محددة للفرد شهريا، وهي اثنان كيلوغرام من السكر ومثلهما من الأرز وكيلو ونصف من الزيت مقابل 10 جنيهات، فيما حدد النظام الحالي قيمة مالية للفرد والتي ظلت تتزايد من 15 جنيها حتى بلغت 50 منذ منتصف عام 2017 حتى 4 أفراد للأسرة، وتتم زيادة أسعار السلع المقررة دوريا، مما يؤدي عمليا لنقص الكميات التي يتم الحصول عليها.
هكذا يسمع المواطن عن بلوغ قيمة الدعم في الموازنة الجديدة 530 مليار جنيه، فيما المخصص لبطاقات التموين قد بلغ 36 مليار جنيه فقط، أي بنسبة أقل من 7% من قيمة الدعم الذي تتغنى بضخامته وسائل الإعلام.
ومعظم قيمة الدعم تتجه إلى مجالات عديدة لا صلة لها بالفقراء، كدعم المصدّرين وأصحاب الشركات الصناعية والزراعية والسياحية وهيئة السكك الحديدية ومرفق النقل العام وشركات مياه الشرب والإنتاج الحربي ونوادي الشرطة ونوادي الجهات التابعة لوزارة المالية ومبادرة حوض النيل لتقديم المساعدات لدول حوض النيل.
كما تم إدراج 135 مليار جنيه ضمن الدعم كمساهمات للخزانة العامة في هيئة التأمينات الاجتماعية، فيما تمثل تلك القيمة جزءا من القسط السنوي البالغ 202 مليار جنيه للدين الخاص لهيئة التأمينات على الخزانة العامة نظير استيلائها على أموال التأمينات قبل سنوات، حيث إن المكان الطبيعي لتلك القيمة هو الباب الخاص بأقساط الديون الحكومية، لكن صانع السياسة المالية يضعه ضمن الدعم لتضخيم الرقم.
وتتحدث وسائل الإعلام عن نمو قيمة الدعم في الموازنة الجديدة مقارنة بالموازنة السابقة، فيجد المواطن أن قائمة السلع المتاح له الشراء منها بقيمة الدعم التمويني البالغ 50 جنيها للفرد قد زادت أسعارها جميعا بحجة زيادة الأسعار العالمية، فيما زادت أسعار المنتجات المستوردة والمحلية في القائمة حتى الملح المنتج محليا، الأمر الذي قلل الكميات التي يمكن الحصول عليها والتي كانت تخفف عنه جزئيا، حيث لا تكفي الكميات المقرر استهلاكها الشهري، خاصة مع وضع حد أقصى لشراء السلع الأساسية وهي الزيت والسكر والأرز، مما يعني شراء الفقراء بعضا مما يستهلكونه بأسعار السوق.
شريحة أخرى مجتمعية تهتم بالموازنة وهي فئة العاملين في الحكومة والبالغ عددهم نحو 4.5 ملايين شخص، حيث ترتبط الموازنة الجديدة عادة بإقرار علاوة تزيد أجورهم الشهرية، لكن معدلات التضخم المرتفعة أصبحت تفوق معدل الزيادة بالأجور، مما يجعل القيمة الحقيقية للأجور تتناقص رغم زيادتها الاسمية، ولا يهتم عموم الموظفين بالرقم الإجمالي للأجور في الموازنة الجديدة البالغ 470 مليار جنيه، لأن المخصص للأجور الأساسية 102 مليار، والباقي مكافآت وبدلات ومزايا يحصل الكبار على معظمها.
ولأن الموازنة عادة تتكون من جانبين هما الإنفاق والموارد حيث تنفق الحكومة في إطار ما تحصل عليه من موارد فإن عدم كفاية الموارد للنفقات المقررة تدفع الحكومة إلى فرض المزيد من الضرائب والرسوم، وهو ما يزيد الأعباء على المواطنين ورجال الأعمال.
كما أنه يدفع الحكومة إلى المزيد من الاقتراض، ومع استمرار العجز في الموازنة تستمر الحكومة بالاقتراض من خلال طرح أدوات دين حكومية تقبل البنوك على شرائها كوسيلة لتوظيف جانب من أموالها.
لكن هذا يأتي على حساب إقراض البنوك الشركات الإنتاجية والخدمية، حيث تفضل البنوك إقراض الحكومة الزبون المضمون عدم إفلاسه، فيما تزداد إمكانية تعثر الشركات في حالة إقراضها بسبب حالة الركود المهيمنة على الأسواق منذ سنوات، والتي أدت إلى تراجع مبيعات كثير من الشركات.
الأكثر تأثيرا أن استمرار الحكومة في الاقتراض لسد العجز السنوي في الموازنة قد أدى إلى تخصيص مبالغ محددة سنويا بالموازنة لنفقات أقساط وفوائد هذا الدين، ومع استمرار الاقتراض زادت مخصصات أقساط وفوائد الدين الحكومي حتى أصبح لها النصيب الأكبر من الإنفاق في الموازنة.
وها هي موازنة العام المالي المقبل 2024/2023 التي قدم وزير المالية بيانها المالي للبرلمان تشير إلى بلوغ مخصصات أقساط وفوائد الدين الحكومي تريليونين و436 مليار جنيه من إجمالي إنفاق بلغ 4 تريليونات و349 مليار جنيه، أي أنها استحوذت على نسبة 56% من إجمالي الإنفاق موزعة بين 30.3% للأقساط و25.8% للفوائد.
وتلك نسبة لا يستفيد أحد من المواطنين منها لتتبقى نسبة 44% من الإنفاق تم توزيعها على باقي أبواب الموازنة الستة بواقع 13.5% للاستثمارات الحكومية من مشروعات طرق وصرف صحي ومياه شرب ومدارس ومستشفيات، و12.2% للدعم الذي تم تضخيمه، و10.8% لأجور العاملين في الحكومة، و3.3% لنفقات الجيش والبرلمان ومجلس الشيوخ والاشتراك في المنظمات الدولية تحت عنوان مصروفات أخرى، و3.2% لشراء السلع والخدمات للجهات الحكومية، و1% للمساهمات الحكومية في الهيئات والشركات القابضة المتعثرة.
ويلاحظ بوضوح عدم كفاية باقي المخصصات للإنفاق على الاحتياجات السنوية، خاصة في ما يخص شراء السلع والخدمات، مما يدفع المستشفيات الحكومية إلى أن تطلب من أسر المرضى شراء بعض المستلزمات الطبية على نفقتها الخاصة، كما تدفع جهات حكومية عديدة لأن تطلب من المترددين عليها تصوير المستندات على نفقتهم خارج الجهات الحكومية لعدم توافر الورق اللازم للتصوير.
أيضا يتسبب نقص المخصصات للمشروعات الاستثمارية في إطالة مدد تنفيذها، فبدلا من أن يتم تنفيذ المشروع خلال فترة زمنية معينة تطول المدة لنقص قيمة المخصصات السنوية، مما يربك حسابات تنفيذ المشروع في ضوء ارتفاع أسعار مواد البناء، ويعطل على الجانب الآخر تحسين مستوى معيشة المواطنين المنتظرين لتلك المشروعات لسنوات.
أيضا تعطي الحكومة الأولوية دائما لأقساط وفوائد الدين حتى تستطيع أن تواصل الاقتراض من الجهات المقرضة داخليا وخارجيا، خاصة أن زيادة مخصصات تلك الأقساط والفوائد تزيد عما كان مقررا من قبل، ففي موازنة العام المالي الحالي كان مقررا بلوغ مخصصات فوائد الدين الحكومي 690 مليار دولار، فيما تم تعديل الرقم حاليا إلى 251 مليون دولار، الأمر الذي أدى إلى زيادة العجز الكلي في الموازنة إلى 628 مليار جنيه بعد أن كان مقررا له 558 مليارا.
هكذا تأتي زيادة مخصصات الدين الحكومي وإعطاء الأولوية لها على حساب خفض المقررات لبنود إنفاق أخرى في الموازنة، وأبرزها الاستثمارات الحكومية وشراء السلع والخدمات الحكومية، وهو ما أشار إليه وزير المالية بتوقع بلوغ مخصصات شراء السلع والخدمات الحكومية 108 مليارات جنيه خلال العام المالي الحالي بعد أن كان مقررا له ببداية العام المالي 126 مليارا.
الأمر نفسه لمخصصات الاستثمارات الحكومية التي توقع الوزير بلوغها 343 مليار جنيه بعد أن مقررا لها في بداية العام المالي 376 مليارا رغم أن الطبيعي أن تزداد المخصصات لها كي تستطيع مجاراة الزيادة في أسعار مواد البناء ومستلزمات إنشاء المشروعات، وما حدث من نقص لمخصصات الاستثمارات الحكومية عما كان مقررا لها أمر غير قاصر على العام المالي الحالي وحده، ولكن هذا الأمر متكرر منذ العام المالي 2014/2013 والمواكب لتولي الجيش السلطة وحتى العام المالي الحالي.
لم يحدث في أي من تلك السنوات المالية التسع أن تحقق رقم الاستثمارات الحكومية الذي ورد في قانون الموازنة عند بداية تنفيذها، وهو ما ساهم أيضا في تراجع الاهتمام بالموازنة الحكومية لدى الكثيرين وضعف مصداقية ما يرد فيها من أرقام لديهم.