منذ أكثر من عامين، تبدو هذه الرؤية مهددة بالانهيار أمام أعيننا.

يتسحاق زامير يكتب: ثلاثة أطراف ما زالت قادرة بقواها المشتركة على تغيير الوضع القائم ومنع الكارثة

profile
  • clock 20 أبريل 2025, 4:31:28 م
  • eye 456
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

هذا الأسبوع،أتممتُ الرابعة والتسعين من عمري، وعلى مرّ السنين، اعتبرتُ نفسي محظوظاً، وكنتُ أحتفل بعيد ميلادي كلّ عام في حفل عائلي متواضع، لكن هذا العام (نظراًإلى الضربات القاسية التي تلقّتها إسرائيل)،لا أرى سبباً للاحتفال.

 

أنا أنتمي إلى الجيل المؤسس للدولة في سنة1948. كنا بين السابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر، طلاب الصف الثاني عشر في المدرسة الثانوية، وتوقفت دراستنا في شهر آذار/مارس 1948، لكي نلتحق بقوات الأمن في الحرب التي كانت اشتعلت فعلاً في البلد، وفي ظل الاستعداد للغزو المتوقع لجيوش الدول العربية مع قيام الدولة.


كانت الحرب دامية. وكان جيلي والأجيال التي سبقته بمثابة "صينية الفضة" التي قُدمت عليها الدولة، لكننا كنا مستعدين لأيّ تضحية، لأننا حملنا رؤية: إقامة دولة قومية يهودية وديمقراطية، مستنيرة ومزدهرة. حاربنا قلّةً في وجه الكثرة، لكن الرؤية انتصرت. أردنا أن نكون شعباً حراً في وطننا: الحرية من حُكم أجنبي... وكذلك،الحرية من حُكم داخلي يمنع تحقيق الطموحات الشخصية، إذ لا معنى للحرية القومية من دون حرية شخصية. الحرية الشخصية، بمعنى الخروج من العبودية إلى الحرية، هي المعنى الحقيقي لعيد الفصح...


من حُسن حظنا أننا شهدنا تحقُّق الرؤية أمام أعيننا. لقد تطورت الدولة بسرعة وبشكل مذهل لم نتخيله حتى في أحلامنا، وحققت إنجازات مثيرة للإعجاب، حتى على الصعيد الدولي. كنا سعداء بالعيش في هذا البلد، وكنا فخورين بالدولة.


لكن الآن، ومنذ أكثر من عامين، تبدو هذه الرؤية مهددة بالانهيار أمام أعيننا. أينما وجّهتُ نظري، أرى الخراب والانهيار. فحكومتنا تقود إسرائيل من نظام ديمقراطي إلى حُكم الفرد، ولم نعد بعيدين عنه اليوم. ومثلما تعلّمنا من التجربة التاريخية العالمية، فإنها مسألة وقت، وليس وقتاً طويلاً، قبل أن يتحوّل حُكم الفرد إلى نظام استبدادي وفاسد على حساب الحريات الشخصية. نحن لم نصل إلى هناك بعد، لكننا نسير على الطريق المؤدية إلى ذلك. هذا هو الواقع اليوم، وهو أمر محبِط، وبشكل خاص لجيلنا.


لكنني لا أكتب لأزيد الاكتئاب اكتئاباً، فالاكتئاب سيقودنا إلى الجلوس مكتوفي الأيدي، نتابع الأخبار السيئة على شاشة التلفاز كلّ مساء، ونسمح للحكومة بتحقيق مخططها التدميري بالكامل. بل بالعكس، أكتب لأشجّع نفسي، وربما أيضاً آخرين. إن الوضع الراهن يشكل تحدياً لا بدّ من مواجهته، ومن الممكن الانتصار فيه. علينا أن نمنح الأمل فرصة، وألّا نُسهِم في الفشل.


إن تغيير الوضع أمر ممكن؛ أولاً، بفضل تطوُّر غير متوقع،قد يكون مثل هذا التطور نتيجةً لانحلال داخلي، أو لضغط دولي، أو لتورُّط جنائي، أو لعامل آخر، إذ لا شيء أكثر توقّعاً من حدث غير متوقّع:لقد أدّى مثل هذه التطورات، مثلما تعلّمنا من التجربة التاريخية، إلى انهيار إمبراطوريات وتغيير أنظمة حُكم. هذا ما حدث، على سبيل المثال، في الاتحاد السوفياتي الذي انهار بسبب الانحلال الداخلي، وعلى نحو مختلف، حدث ذلك مؤخراً أيضاً في ألمانيا وفرنسا، في إثر تحالفات غير متوقعة بين أحزاب مختلفة، نجحت في منع إشراك اليمين المتطرف في الحكومة، ولا يمكن استبعاد احتمال حدوث تطوُّر غير متوقع من هذا النوع أيضاً في إسرائيل.


من المؤكد أن كثيرين سيقولون إنّ تطوراً كهذا في إسرائيل سيكون بمثابة معجزة، لكن يجب أن نتذكر ما قاله ديفيد بن غوريون، الأب المؤسس للدولة: "في إسرائيل، مَن لا يؤمن بالمعجزات ليس واقعياً"، وهذا يجب أن يكون كافياً لكي لا نرفع أيدينا استسلاماً ونتقبل انتحار الديمقراطية، ومع ذلك، من الواضح أنه لا يجب الاتكال على المعجزات وحدها...


هناك ثلاثة أطراف في إسرائيل، ما زالت قادرة، بقواها المشتركة، على تغيير الوضع القائم ومنع الكارثة: المستشار القانوني للحكومة، والمحكمة، والجمهور.


الهيئة الاستشارية القانونية للحكومة، والتي تتألف من المستشارين القانونيين في وزارات الحكومة، وعلى رأسهم المستشارة القانونية للحكومة، تُعتبر من حرّاس البوابة، فهُم خط الدفاع الأول عن سيادة القانون. كل سلطة حاكمة، وعلى رأسها الحكومة، مُلزمة بتطبيق القانون، وهذا هو أساس الديمقراطية. لا يملك الحاكم تفويضاً من الشعب للتصرّف بما يخالف القانون. من الواضح أن القانون ليس أداة تلعب بها الحكومة، وتسمح لها بتفسيره كيفما تشاء، وبناءً على ذلك، تفعل ما يحلو لها. وما هو القانون من وجهة نظر الحكومة؟ هو الرأي القانوني للمستشارة القانونية للحكومة. هذا الرأي مُلزِم للحكومة، ما لم يقرّر القضاء خلاف ذلك. كان هذا الأمر واضحاً ومقبولاً من جميع الحكومات في إسرائيل، من اليمين واليسار، حتى قيام الحكومة الحالية.


في سنة 1958، أوضح رئيس لجنة الدستور في الكنيست أمام الهيئة العامة، أنه لا حاجة إلى النص في القانون أن الحكومة مُلزمة بتنفيذ الأحكام القضائية، وقال حينها: "نحن نعتقد أن الدولة تفي بالتزاماتها، ولا يمكننا أن نتصوّر حكومة لا تحترم أحكام المحاكم في الدولة. أظنّ أن لا أحد يمكنه، حتى في كوابيسه، أن يتخيل وجود حكومة كهذه لدينا".


والآن، ها هو "الكابوس" يتحقق أمام أعيننا: الحكومة تتّخذ قرارات، المرة تلو الأُخرى، ترى المستشارة القانونية للحكومة، وفقاً لرأيها القانوني، أنها مخالِفة للقانون. ومع ذلك، لا يزال جهاز الاستشارة القانونية في وزارات الحكومة، وفي الحكومة نفسها، ينجح في كثير من الأحيان في تقييد ومنع اتخاذ قرارات غير قانونية داخل الوزارات، بل حتى في الحكومة ذاتها. فلو لم يكن الأمر كذلك، إذاً، لماذا تسعى الحكومة لإقالة المستشارة القانونية للحكومة؟ لذلك، من الأهمية البالغة الدفاع عن جهاز الاستشارة القانونية للحكومة ودعمه.


في الواقع، تُعتبر المحكمة، وخصوصاً المحكمة العليا (باغاتس)، خط الدفاع الأخير عن سيادة القانون، وفعلياً، عن الديمقراطية في الدولة، وأثبتت ذلك من خلال أحكامها، مراراً وتكراراً، منذ قيام الدولة. صحيح أنه سُمعت في الآونة الأخيرة أصوات من وزراء وأعضاء كنيست تدعو إلى عدم الامتثال لأحكام المحكمة، لكن حتى الآن، لم تحدث أيّ حالة امتنعت فيها الحكومة، أو أحد الوزراء، من تنفيذ حُكم قضائي،وحتى عندما أبطلت المحكمة القانون الذي كان سيسمح للحكومة والوزراء بالتصرف بدرجة قصوى من اللامعقولية، تقبّلت الحكومة الحكم؛ وعندما أمرت المحكمة وزير العدل بعقد اللجنة الخاصة لاختيار القضاة من أجل تعيين رئيسٍ للمحكمة العليا، امتثل الوزير لحكم المحكمة.


إذا قررت الحكومة (لا قدّر الله) عدم تنفيذ حُكم قضائي، فقد يكون ذلك الشرارة التي تفجّر برميل البارود. حتى قبل كارثة السابع من أكتوبر، كان هناك مؤشرات تحذّر من احتمال حدوث تطوُّر كهذا، ومن بين هذه المؤشرات، أعلن طيّارون ومقاتلون آخرون، أُعفوا من خدمة الاحتياط في الجيش، قانونياً، أنهم لن يتطوّعوا للخدمة، كذلك، أعلنت الهيئات الاقتصادية المركزية (الاتحاد العام للعمل ورؤساء القطاع الخاص) أن رفض الحكومة تنفيذ حُكم قضائي سيكون الخط الأحمر الذي سيؤدي إلى شلّ الاقتصاد الوطني بأسره. يجب أن نأمل بألّا يتحقق هذا "الكابوس".


ومع ذلك، فإن المحكمة التي تجلس في قلب مجتمعها، وكذلك جهاز الاستشارة القانونية للحكومة، يحتاجان إلى ثقة الجمهور من أجل أن يتمكنا من أداء مهماتهما كما يجب، ويجب أن تُترجم ثقة الجمهور إلى دعم فعلي للمحكمة والاستشارة القانونية حين تتعرضان لتهديد من الحكومة. فعلاً، لم يتأخر الجمهور في التعبير عن دعمه لجهاز القضاء ضد خطة الانقلاب القضائي منذ كانون الثاني/يناير 2023، من خلال احتجاج جماهيري واسع، وحازم، ومتواصل.


ومع ذلك، يبدو في الوقت الراهن كأن الحكومة غير مستعدة لتغيير نهجها في مواجهة هذا الاحتجاج، وفي مثل هذا الوضع، قد تتحوّل الاحتجاجات الاجتماعية إلى عصيان مدني، وقد حدث ذلك من ذي قبل، حتى في إسرائيل. ومؤخراً، أقرّ الكنيست قانون أساس يُغيّر تركيبة لجنة اختيار القضاة، بطريقة تمكّن الحكومة، باستخدام الحِيَل التي تعتمدها، من تعيين قضاة تراهم مناسبين لها. بعد سنّ هذا القانون، قُدّمت التماسات إلى المحكمة العليا (باغاتس) لإبطاله، ومن المفترض أن تعرف المحكمة، كما في السابق، كيف تؤدي دورها على النحو المطلوب، بما يتماشى مع جوهر إسرائيل، كدولة يهودية وديمقراطية.


النضال ضد خطة الانقلاب القضائي التي تتبنّاها الحكومة هو الحرب الثانية لإقامة دولة إسرائيل... وبخلاف الحرب الأولى، فإننا هذه المرة، لسنا قلّة في مواجهة كثرة. فالأغلبية في المجتمع، حسبما تُظهر الاستطلاعات، مراراً وتكراراً، تُعارض السياسات الحالية للحكومة، بما في ذلك الانقلاب على النظام. في حرب 1948، قلنا لأنفسنا إننا سننتصر لأن بحوزتنا سلاحاً سرّياً، وهو أنه لا مفرّ لنا، وهذا السلاح السرّي ما زال في أيدينا اليوم، وسينتصر هذه المرة أيضاً.


نحن، أبناء جيل إقامة الدولة، لم يتبقَّ منّا إلّا قلّة، جيل آخذ في التلاشي، لكن صوتنا لم يُسمع حتى الآن،وحان الوقت لنُسمعه، وهذه هي وصيّتنا: استمروا في النضال بكل ما أوتيتم من قوة، بإصرار ومثابرة، من أجل تحقيق رؤية إسرائيل، كدولة يهودية وديمقراطية، مستنيرة ومزدهرة.

المصادر

المصدر: هآرتس

التعليقات (0)