هل تصبح تركيا قوة عظمى؟

profile
  • clock 18 أكتوبر 2021, 3:57:41 م
  • eye 669
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يمتلك الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" رؤية ضخمة لأكبر مدينة في بلاده، تشمل بناء قناة ضخمة جديدة عبر إسطنبول. وإسطنبول هي موطن مضيق البوسفور، الذي تم خوض حروب عديدة حول تقسيمه بين أوروبا وآسيا على مر التاريخ. ومع ذلك، فإن خطط "أردوغان" تثير احتمالية إعادة صياغة الخارطة الجيوستراتيجية للبحر الأسود قريبا.

ولطالما طرح "أردوغان" فكرة إنشاء "قناة إسطنبول" لأعوام عديدة، وأطلق عليها لقب "المشروع المجنون". وفي أواخر يونيو/حزيران 2021، أقام حفل وضع حجر الأساس للمشروع، الذي تقدر تكلفته بما لا يقل عن 15 مليار دولار.

ويهدف المشروع ظاهريا إلى التخفيف من التأخير في الشحن عبر مضيق البوسفور وتوفير دفعة تشتد الحاجة إليها للاقتصاد التركي في هذه العملية. ولطالما اتهم منتقدو "أردوغان" وحزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية، باستخدام مشاريع البنية التحتية الحكومية لإثراء الحلفاء والداعمين. ومع ذلك، لا تزال هناك شكوك كبيرة حول جدوى القناة، حيث أشار العديد من المراقبين المتابعين للتطورات التركية إلى العقبات الرئيسية في تأمين التمويل والظروف الاقتصادية المتدهورة لأنقرة.

ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى القناة على أنها مشروع محلي في المقام الأول، بل هي مشروع ذو أهمية جيوسياسية بعيدة. وهو يمثل ذروة محاولات "أردوغان" لإعادة رسم ميزان القوى في البحر الأسود من خلال جهوده المستمرة لتأسيس أنقرة كقوة ناشطة.

وفي الأعوام الأخيرة، أعادت سياسة "أردوغان" الخارجية تشكيل المنطقة. ولقد تدخل في سوريا، وأقام بشكل فعال منطقة عازلة في شمالها. ولقد اقتحم الوضع الراهن في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث وقع أولا اتفاقية مثيرة للجدل مع حلفائه الليبيين لإعادة رسم الحدود البحرية للمنطقة، كما دعا إلى التقسيم الرسمي لقبرص، وكلاهما يمثل انعكاسا لمواقف تركيا القديمة.

ووسع "أردوغان" نفوذ أنقرة في أذربيجان، من خلال دعمها الحاسم في حرب 2020، حتى مع بقاء بقية أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي على الحياد. وكذلك لم يتردد "أردوغان" في بيع المعدات العسكرية، بما في ذلك الطائرات بدون طيار، عبر البحر الأسود إلى أوكرانيا.

وتعد تركيا قوة صاعدة في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا وأوراسيا. ويعد التحكم في الوصول إلى التقاطع بين هذه المناطق في البحر الأسود أمرا مهما بشكل خاص إذا كانت تركيا تريد الانتقال من قوة متعددة الأقاليم إلى قوة عظمى حقيقية.


قناة إلى القوة

وكانت منطقة البحر الأسود موطنا لكل من الحروب الأوروبية في القرن الـ21، حيث غزت روسيا جورجيا عام 2008 وغزا الكرملين أوكرانيا عام 2014، وضم شبه جزيرة القرم، مع استمرار الأعمال العدائية في دونباس.

ببساطة، لا يزال التحكم في الوصول من وإلى البحر الأسود يمثل خط صدع جيوسياسي رئيسيا. وتاريخيا، كان مضيق البوسفور وإسطنبول موقعا للعديد من التحولات التاريخية العظيمة في السلطة، من تحول الإمبراطورية الرومانية إلى سيطرة العثمانيين على القسطنطينية عام 1453.

ومع ذلك، لم تواجه تركيا تهديدا خطيرا على سيطرتها على المضائق منذ أن دفعت التوترات مع الاتحاد السوفييتي أنقرة للانضمام إلى حلف الناتو عام 1952. لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئا أن العوامل الجيوسياسية لعبت دورا رئيسيا، وربما حاسما، في مناورة القناة من "أردوغان".

ويعتمد مدى استعداد "أردوغان" للمخاطرة بهذا الاستقرار من خلال إعلان أن القناة لن تخضع لاتفاقية مونترو، ومعاهدة 1936 بشأن الوصول إلى مضيق البوسفور وبحر مرمرة والدردنيل، بالرغم من أن القناة ستحل محل السابقة فقط.

ومكنت الاتفاقية أنقرة من إعادة تسليح المنطقة، على عكس ما جاء في معاهدة لوزان، مقابل وعد شامل بالمرور الحر للسفن التجارية وكذلك معظم السفن الحربية. بعبارة أخرى، الاتفاقية هي التي تمكن "الناتو" من إرسال سفنه للدفاع عن مصالحه في البحر الأسود، أو على الأقل الإشارة إلى نيته القيام بذلك.

كما تتيح الاتفاقية لروسيا الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط من موانئها التجارية الجنوبية المهمة، مثل روستوف أون دون، ولأسطولها في البحر الأسود، الذي قد يكون معرضا لخطر التقيد بسواحله مثل الأسطول الروسي الأقل شهرة في بحر قزوين إذا ما نفذت تركيا خطتها.

توترات الناتو

ولا تعد سيادة تركيا على مضيق البوسفور العامل الوحيد الذي يجعلها لاعبا هاما. فتركيا هي موطن ثاني أكبر جيش في الناتو. وتستضيف قاعدة "إنجرليك" الجوية التركية جزءا من الردع النووي الاستراتيجي للولايات المتحدة وأوامر رئيسية للعمليات في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، بينما الدول الأعضاء في "الناتو" على ساحل البحر الأسود، وهي رومانيا وبلغاريا، فلا تملك أي قدرة بحرية كبيرة.

ولدى "الناتو" مخاوف أمنية حقيقية للغاية في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بالدول الساحلية التي اشتبكت مع موسكو بسبب رغبتها في توثيق العلاقات مع الغرب. وبالرغم من أن أوكرانيا تواصل السيطرة على موانئ دونباس، في جزء كبير منها، فلا يزال وصولها إلى البحر الأسود خاضعا لسيطرة روسيا على مضيق "كيرتش"، وتفتقر إلى القدرة البحرية للدفاع عن موانئها في أوديسا وميكولايف ضد روسيا. ويستضيف الأخيران، كما هو الحال مع موانئ جورجيا في باتومي وبوتي، زيارات "الناتو" وجهود التدريب. ولا يمكن لحلف "الناتو" أن يقدم الأمل في بديل إلا إذا تمكن بالفعل من الحضور.

وبينما عززت روسيا سيطرتها على الجانبين الشمالي والشرقي للبحر الأسود، أصبحت علاقات تركيا مع "الناتو" باردة بشكل متزايد. وكان الفتور في العلاقات التركية الغربية، إلى حد كبير، مدفوعا بزخم "أردوغان"، الذي يسعى إلى إعادة تشكيل تركيا باعتبارها القوة العالمية التي كانت عليها في أوجها العثماني.

وتساعده تركيا الحازمة دوليا على الترويج لصورته كزعيم تاريخي محليا. ولا يقتصر هذا على الاعتبارات العسكرية البحتة أيضا. ويدرك "أردوغان" مركزية تركيا لمسارات النفط والغاز الطبيعي من أذربيجان. ولقد أوضح أن تركيا تسعى إلى دور أكبر في جيوسياسية الغاز الطبيعي في الآونة الأخيرة من خلال الخلاف مع اليونان وقبرص حول حقوق التنقيب في بحر إيجه.

وبالرغم من مجموعة المواضيع متزايدة الاتساع التي توجد فيها خلافات كبيرة بين تركيا والغرب، يبدو أن الغرب ليس لديه موقف حازم بشأن الكيفية التي سيتكيف بها مع دور تركيا الأكثر نشاطا على الساحة الدولية.


الطريق إلى القناة

ولا تعد مناورة القناة سوى أحدث خطوة في تطوير أنقرة لسياسة خارجية توسعية بشكل كبير على مدى الأعوام الـ5 الماضية. ولا يمكن فهم مدى هذه المغامرة إلا من خلال مقارنة هذه الفترة بالعقد الأول لـ"أردوغان" في السلطة، عندما لم يكن لدى أنقرة سياسة خارجية نشطة.

وبدلا من ذلك، وكما أوضح وزير الخارجية آنذاك "أحمد داود أوغلو" لمجلة "فورين بوليسي" عام 2010، فقد طبقت أنقرة سياسة "صفر مشاكل تجاه الجيران"، بنجاح ثابت إلى حد ما؛ حيث تجنبت الوقوع في شرك الحرب الجورجية الروسية، والقيام بحملات لدعم استفتاء على خطة سلام لإعادة توحيد قبرص عام 2004، وإحراز تقدم في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والمساعدة في تقدم العلاقات مع كل من إيران وخصومها العرب، وحتى التوسط في عدد من جهود السلام الإقليمية حتى لو ثبت في النهاية أنها فاشلة.

وبدأ نهج السياسة الخارجية لـ"أردوغان" يتغير في ضوء الربيع العربي. وبينما تسببت حركة الاحتجاج في علاقات باردة بين إدارة "أوباما" والعديد من الحكومات العربية، التي شعرت بالقلق من أن تنقلب واشنطن عليها وتحتضن الشارع كما فعلت في مصر، فبالنسبة لـ"أردوغان"، قدم الربيع العربي إمكانية وصول مجموعة من الحكومات على غرار حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه أتباع الإسلام السياسي. ورأت السعودية والإمارات والعديد من الدول الأخرى في إضفاء الشرعية على جماعة "الإخوان المسلمون" في المنطقة وعلى الصعيد الدولي تهديدا لشرعيتها.

ووجدت أنقرة نفسها بعد ذلك في منطقة معادية بشكل متزايد، حيث كان يُنظر إلى نموذج "أردوغان" على أنه تهديد أكثر من كونه نموذجا للجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. وزادت الأعوام اللاحقة من سوء الأمور، حيث بدا أن الغرب يدعم التدخلات المدعومة من الخليج في الصراع السوري، لكنه عارض قيام تركيا بذلك. وأثبتت أزمة المهاجرين اللاحقة نقطة الانهيار مع الكثير من المؤسسات السياسية الأوروبية. وجاءت نقطة الانهيار مع واشنطن بعد محاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016، التي ألقى فيها "أردوغان" باللوم على رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة والحليف السابق "فتح الله جولن". وتفاقم الأمر بسبب فشل إدارة "أوباما" في البداية في وصفها بأنها محاولة انقلابية، حيث أصبح "أردوغان" مقتنعا بأنه لم يعد بإمكانه الاعتماد على واشنطن لدعم تركيا ضد التهديدات الخارجية أو المحلية.

نتيجة لذلك، شعر "أردوغان"، ولا يزال يشعر، بأن أنقرة معزولة نسبيا على الشواطئ الجنوبية للبحر الأسود.

البحر الأسود ثنائي القطب

ومهد غضب "أردوغان" تجاه الغرب بعد محاولة الانقلاب الطريق لتقاربه السريع مع روسيا. وذلك في الوقت الذي كانت فيه العلاقات التركية الروسية قد تراجعت إلى الحضيض بعد إسقاط طائرة روسية من طراز "سو-24" في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 من قبل طائرة مقاتلة تركية من طراز "إف-16".

وبحلول أغسطس/آب التالي، بعد وقت قصير من محاولة الانقلاب الفاشلة، كان "أردوغان" يسافر إلى روسيا لعقد مؤتمر ثنائي مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين". وبدأت القمة بشراء تركيا نظام الصواريخ "إس-400" الروسي الذي أدى في النهاية إلى فرض عقوبات أمريكية على تركيا.

وليس من قبيل المصادفة أن نهج تركيا المتجدد تجاه موسكو بلغ ذروته بصدى الانقلاب الفاشل على علاقتها مع الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة. وتمكنت أنقرة من تحسين العلاقات مع موسكو بشكل كبير، حتى أثناء تصعيد تدخلها في سوريا بشكل كبير خلال عملية "درع الفرات" في أغسطس/آب 2016.

وبالرغم من هذا التنسيق المتسارع، لم تنتقل العلاقات الروسية التركية إلى مستوى جديد بعد. ولا تزال المنافسة بينهما كبيرة، عبر عدد من النزاعات. وبالإضافة إلى سوريا، دعم "أردوغان" و"بوتين" أطرافا متعارضة في الصراع الليبي. وكانت روسيا ظاهريا حليفا لأرمينيا في اندلاع الصراع حول "ناغورني قرة باغ"، بينما كانت تركيا حليفة صريحة لأذربيجان، حيث زودتها بتكنولوجيا الطائرات بدون طيار التي قلبت المعركة بشكل حاسم لصالح باكو، وأثارت بدورها احتمالية أن تكون أول دولة دائمة الوجود العسكري في جنوب القوقاز غير روسيا منذ معاهدة "قارص" عام 1921. كما تهدد تصرفات "أردوغان" الأخيرة في قبرص بزعزعة استقرار أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي القلائل حيث سعت موسكو إلى أن تكون قوة استقرار، بسبب الدور الذي تلعبه قبرص في الاقتصاد "الكليبتوقراطي" الروسي.

واللافت للنظر أنه وسط كل هذه الخلافات، كانت العلاقات التركية الغربية هي التي تضررت في المقام الأول، بينما لم تتضرر العلاقات التركية الروسية. وغالبا ما يكون نهج الغرب تجاه أجندة السياسة الخارجية لـ "أردوغان" رافضا أو حتى عدائيا. ولقد "ذهبت أنقرة بمفردها" في سوريا وليبيا وأذربيجان، في كثير من الأحيان في معارضة مباشرة لمسار العمل المفضل لأعضاء الناتو الآخرين.

ومع ذلك، لم يعارض "بوتين" صعود أنقرة كقوة ناشطة، وهو أمر يستحيل تصور قيام الكرملين بفعله مع أي عضو آخر في "الناتو"، وذلك على وجه التحديد لأنه أدرك أن إبعاد أنقرة عن "الناتو" هدف أكثر قيمة من أي مجال للنفوذ في هذه الصراعات.

ولقد واجه "أردوغان" روسيا التي "يمكنه التعامل معها"، لأن روسيا لا تخفي حقيقة أنها ترى أن دور تركيا يقدم المزيد لتوتير العلاقات داخل الحلف أكثر مما يجلب تهديدا أمنيا على عتبة موسكو. ويشعر "أردوغان" بالثقة في أن "بوتين" قد يكون على استعداد لقبول مناورة أخرى. ولم يخجل من إظهار رغبته في إثارة المزيد من التوسع في العلاقات في آخر لقاء له مع "بوتين" في 29 سبتمبر/أيلول.

وفي ضوء ذلك، تشير مناورة القناة والتهديدات بتعطيل اتفاقية مونترو إلى مدى استعداد "أردوغان" لتجاهل الأعراف والتحذيرات الدولية، لا سيما تلك الصادرة من الغرب.

استنتاج

وبالطبع، لا يحتاج "أردوغان" فعليا إلى بناء قناة إسطنبول للتنصل من اتفاقية مونترو. ولا توجد مجموعة من النتائج المحددة لتعطيل مثل هذه الاتفاقية. وقد يؤدي تعطيل الاتفاقية إلى المخاطرة بجعل أنقرة منبوذة دوليا، حيث سيُنظر إليها على أنها تلعب بالنار ليس فقط فيما يتعلق بأمن الدول الأخرى المطلة على البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط ولكن أيضا فيما يتعلق بالتجارة الأوروبية والوصول إلى الطاقة.

ومن المؤكد أن تعطيل اتفاقية مونترو، سواء مع وجود القناة الجديدة أو بدونها، سيثير غضب "الناتو". حتى أنه قد يخاطر بإلغاء ارتباط أنقرة بالتحالف بالنظر إلى دعم إدارة "بايدن" ودعم الاتحاد الأوروبي المعلن للمؤسسات والأعراف الدولية. ومن المؤكد أن هذا سيغضب موسكو، لكن لدى "أردوغان" سبب للاعتقاد بأنه يستطيع عقد صفقة جديدة أكثر ملاءمة لموقفه مع موسكو.

ونظرا للتكلفة الباهظة للقناة والشكوك حول اكتمالها في نهاية المطاف، قد يكون المشروع يهدف إلى لفت الانتباه إلى ادعاء "أردوغان" بأن التأثير الجيوسياسي والقوة التي جمعها في الأعوام الأخيرة أكسبته مقعدا بين اللاعبين الرئيسيين في العالم.

ولقد أثبتت تركيا في عهد "أردوغان" نفسها بوضوح كقوة صاعدة، مع تطلعات لأشياء أكبر في الأفق. وسواء أثبتت القناة جدواها أم لا، فهي ترمز إلى رغبة تركيا في أن تُعامل كقوة جيوسياسية ثقيلة وأن يكون لها مقعد على طاولة المناقشات حول مستقبل أوراسيا والشرق الأوسط وأوروبا وشمال أفريقيا.

وبالنظر إلى أن هذا يعكس بالفعل الحقائق الإقليمية، فمن التهور للغرب أن يستمر في معاملة تركيا كمجرد قوة إقليمية ثانوية تكتفي بدورها في "الناتو".


المصدر | ماكسيميليان هيس - معهد دراسات أبحاث السياسة الخارجية

التعليقات (0)