- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
هاني المصري يكتب: لماذا لم تثر المعارضة الفلسطينية مثلما ثارت المعارضة الإسرائيلية؟
هاني المصري يكتب: لماذا لم تثر المعارضة الفلسطينية مثلما ثارت المعارضة الإسرائيلية؟
- 5 أبريل 2023, 3:50:07 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كما لاحظنا، نظمت المعارضة الإسرائيلية منذ أكثر من ثلاثة أشهر مظاهرات ضد الانقلاب التي تزمع الحكومة المنتخبة القيام به، ووصل الأمر إلى حد أن عصيانًا مدنيًا شاملًا كاد أن يقع لولا تراجع الحكومة مؤقتًا عن عزمها على إقرار قوانين في الكنيست من شأنها تحويل إسرائيل من ديمقراطية يهودية إلى ديكتاتورية ضد اليهود العلمانيين والأشكناز والليبراليين.
لا أخفي عليكم أنني شعرت بالإعجاب والغيرة مما يحصل عند دولة الاحتلال، ولاحظت أنني لست الوحيد الذي يشعر بهذا الشعور، بل هناك الكثير من الفلسطينيين الذين يغارون مما يجري داخل الخط الأخضر، مع أنه لن يصب في صالحهم، بل ضدهم، فالخلاف بين الفريقين لا يؤثر في إجماعهم ضد الفلسطينيين، مع أن نجاح الحكومة الكهانية في انقلابها سيؤدي إلى هجوم أكبر وأخطر ضد الفلسطينيين لتنفيذ "خطة الحسم" الهادفة إلى استكمال تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها.
السؤال الذي يطرحه المقال بكل جرأة
لماذا لم يثر الفلسطينيون وهم منذ النكبة يناضلون وقدموا التضحيات الغالية (100 ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى ومليون أسير)، وعانوا معاناة هائلة داخل الوطن وفي أماكن اللجوء والشتات، ومن الصحيح أنهم حافظوا على مقاومتهم وقضيتهم حية وبقاء نصف الشعب الفلسطيني على أرض الوطن، ولكن مع كل ذلك لم يحققوا أيًا من أهدافهم، ولا أي حق من حقوقهم، حتى تلك المتضمنة في برنامج الحد الأدنى الوطني، برنامج إنهاء الاحتلال وإنجاز حق تقرير المصير والعودة والدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67؟
ولماذا لا يثور الفلسطينيون على الرغم من تقزيم منظمة التحرير، وتجويف مؤسساتها، وإنهاء دور المجلس الوطني، المؤسسة الوطنية التي تشكل المرجعية العليا للفلسطينيين، عبر تحويل صلاحياته بشكل غير قانوني لا يستند إلى القواعد الحاكمة لأي شعب يمر بمرحلة تحرر وطني إلى المجلس المركزي، الذي عقد جلسة غير قانونية، ولا يُمثل فيه مختلف التجمعات والقطاعات والأجيال، وخصوصًا الشباب والمرأة، بصورة ديمقراطية أو عادلة، ويقاطعه أو لا يدعى إليه معظم الفصائل، وبعضها مؤسس في المنظمة؟ كل ذلك حصل على الرغم من أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين تعد المنظمة الممثل الشرعي والوحيد والكيان الوطني الجامع الذي يجسد الهوية الوطنية.
لماذا لم يثوروا على الرغم من عدم الشراكة وجمع كل السلطات بيد شخص واحد؟
لماذا لم يثر الفلسطينيون على الرغم من إعادة النظام السياسي إلى نظام رئاسي بعد أن جرى تحويله في العام 2003 إلى نظام مختلط رئاسي برلماني، من خلال تقييد صلاحيات الرئيس الراحل ياسر عرفات؛ لأنه انقلب على أوسلو بعد أن وجد أنه فخ وسجن وليس طريقًا لإقامة دولة فلسطينية، بحجة توسيع صلاحيات رئيس الحكومة بعد استحداث المنصب بذريعة إنهاء تفرد شخص واحد، أما الغرض فكان الاستمرار في المسار نفسه الذي من المفترض أنه وصل إلى محطته الأخيرة بفشل قمة كامب ديفيد في العام 2000؟
لقد وصلنا إلى وضع بائس يجعلنا نستطيع أن نقول بثقة على الرغم من كل الملاحظات "رزق الله على أيام أبي عمار"؛ حيث سيطرت بعده كما لم يحدث من قبل السلطة التنفيذية من خلال شخص واحد على كل السلطات، فهو الذي يتخذ كل القرارات المصيرية في كل المجالات، فهو على سبيل المثال لا الحصر، يشكل الحكومة، ويقيلها، حتى لو كانت جيدة، أو لا يقيلها، حتى لو وصل أداؤها إلى الحضيض، ويعين رؤساء الأجهزة الأمنية والسلطات والإدارات الحكومية بلا رقيب ولا حسيب ولا مساءلة، وهو الذي يسيطر على القضاء سيطرة كاملة تعيينًا وإقالات وإحالة على التقاعد المبكر، ويصدر القرارات الرئاسية بقوانين قبل وبعد حل المجلس التشريعي المنتخب.
تعديل قانون المخابرات نموذج صارخ
كان آخر هذه القرارات تعديل قانون المخابرات؛ حيث رقي مدير جهاز المخابرات إلى رتبة وزير، وبقي في منصبه بعد أن بلغ الستين لكي يبقى في مكانه إلى الأبد، أو إلى أن يقرر صاحب الأمر تقاعده أو تكليفه بمهمة أخرى، مع أن تعيين رئيس جهاز المخابرات من قبل الرئيس مخالف لقانون السلطة الأساسي الذي يضع هذه المسؤولية على الحكومة التي وضعت رقبتها وكل شيء في يد الرئيس؛ ما يجعل منصب رئيس الحكومة بلا معنى؛ ما فتح الطريق عمليًا لعودة النظام الرئاسي، فالرئيس صاحب القرار، وهو الذي يسيطر على الخارجية والإعلام والأمن والمال والداخلية ... إلخ، وهو الذي أنشأ محاكم غير دستورية، أهمها المحكمة الدستورية التي حلت المجلس التشريعي، وجاهزة لتبرير كل ما يفعله الرئيس.
لم تندلع الثورة على الرغم من عدم تحقيق البرنامج السياسي وإعادة إنتاجه باستمرار
لماذا لم يثر الفلسطينيون على الرغم من فشل المشروع السياسي الذي طرحته القيادة الرسمية منذ عشرات السنين، ولم تتبن مشروعًا آخر، بل تعيد إنتاجه باستمرار، وتتعاطى مع الحقائق التي يفرضها الاحتلال، وأهمها أنه فرض التعامل مع الفلسطينيين بعد أن قتل ما سميت "عملية السلام"، ضمن سقف أمني اقتصادي في ظل سيادة إسرائيل إلى الأبد على "أرض الميعاد" التي تشمل حتى الآن فلسطين من النهر إلى البحر، ومفتوحة من النيل إلى الفرات؟
والأنكى من كل ما تقدم، أن القيادة الرسمية استمرت في تنفيذ التزاماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على اتفاق أوسلو، مع أن مدة الاتفاق انتهت منذ العام 1999، ومع أن الحكومات الإسرائيلية تخلت عن الالتزامات الإسرائيلية في الاتفاق منذ اغتيال إسحاق رابين الذي خرقت حكومته هي الأخرى الالتزامات والوعود، وكلنا نذكر جملة رابين الشهيرة "لا مواعيد مقدسة".
...وعلى الرغم من عدم عقد الانتخابات منذ العام 2006؟
لماذا لم يثر الفلسطينيون وهم منذ 17 عامًا لم يشهدوا انتخابات للسلطة (رئاسية وتشريعية) ولا للمجلس الوطني، التي من المفترض أن تعقد بشكل دوري كل أربع سنوات، مع أنهم لا يصدقون - كما تشير الاستطلاعات - الذريعة التي تقدمها القيادة لإلغاء الانتخابات التي كانت على الأبواب في العام 2021، ومع أن الدولة الفلسطينية حصلت على اعتراف أممي بها بوصفها عضوًا مراقبًا، وعلى اعتراف 140 دولة؟
…وعلى الرغم من الانقسام البغيض؟
لماذا لم يثر الفلسطينيون من أجل فرض الوحدة وهم منذ 16 عامًا يعانون من انقسام بغيض من خلال وجود سلطتين متنازعتين تشير الاستطلاعات أن معظم الفلسطينيين (أكثر من 80%) يريدون إنهاءه، ولكن معظمهم لا يعتقد أنه سينتهي قريبًا على الأقل؟
لماذا لم يثر الفلسطينيون على الرغم من تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتهميش القضية الفلسطينية، وفوز حكومة في إسرائيل، تتبنى بشكل رسمي ومعلن برنامج الضم والتهجير والتهويد والفصل العنصري عبر القوة والعدوان العسكري بكل أشكاله؟
ولماذا لم يثر الفلسطينيون مع أن السلطة، بل السلطتين، لم تقيما سلطة رشيدة تحتكم إلى القانون، وتفصل بين السلطات، وتحترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتوفر مقومات الحياة الكريمة للمواطنين، في ظل انتشار الفساد، وسوء الإدارة والتوزيع للموارد، الذي يظهر بشكل جلي فاضح في بنود الموازنة؛ حيث يحتل الأمن حصة كاملة لا تقل عن 20%، ووصلت أحيانًا إلى أكثر من 30%، بينما حصص التعليم والصحة والإنتاج والاستثمار في كل قطاعاته، لم تنل الحد الأدنى من حاجاتها، وهذا أدى إلى إضرابات لا تنتهي، أهمها الآن إضراب المعلمين المستمر منذ أكثر من 50 يومًا بسبب أن الحكومة نكثت بالتزامها، ولم تطبق الاتفاق الذي وقعته والمفترض تنفيذه منذ بداية هذا العام.
للإجابة عن هذه الأسئلة، نحن بحاجة إلى ورشة وطنية كبرى فكرية وبحثية وسياساتية، يشارك فيها الخبراء والمختصون والسياسيون والفاعلون في مختلف المجالات، ومفترض أن ترعاها المؤسسات الوطنية، ولكن غيابها وعدم استعدادها للاضطلاع بهذه المسؤولية يفتح الطريق لمبادرة أو مبادرات للقيام بالتمهيد لإنجاز هذه المهمة، والضغط من أجل تحقيقها، وسأحاول في هذا المقال أن أضع بعض العلامات لعلها تساعد على تقديم الإجابة.
مأزق المشروع السياسي
إن مفتاح الإجابة على هذه التساؤلات يكمن في أزمة، بل مأزق المشروع السياسي المعتمد، وفشل مختلف الإستراتيجيات المعتمدة لتحقيقه، ومأزق القيادة الانتظارية المترهلة والمؤسسات الوطنية الجامعة المجوفة وغير الفاعلة والقيادات الفصائلية والنخب على اختلاف أنواعها. وبعبارة أخرى، مأزق الحركة الوطنية وانهيارها المتزايد منذ توقيع اتفاق أوسلو، وتآكل شرعية المؤسسات التي أقامتها الوطنية (المنظمة) والانتخابية (السلطة)، فلا يوجد برنامج وطني قيد التنفيذ، بل فشل البرنامج المعتمد، وهناك سياسة ردود الأفعال، والرد يوم بيوم، والارتجال، ولا توافق وطنيًا يوفر نوعًا من الشرعية ويسد مسد عدم إجراء الانتخابات، فضلًا عن عدم عقد انتخابات منذ فترة طويلة ولا يبدو أنها ستعقد في القريب العاجل.
الحركات الإسلامية لم تقدم بديلًا
تعمق المأزق من خلال عجز الحركات الوطنية الإسلامية، التي ولدت قبل أوسلو بقليل ونهضت بعده بشكل كبير عجزت، عن تقديم بديل؛ لأن الجهاد وحده، وهدف التحرير وحده لا يكفي بديلًا، واختارت بعد فشلها في إقامة بديل عن المنظمة لأسباب ذاتية وبسبب المعارضة العربية والدولية، الانضواء في النظام السياسي الفلسطيني، والعمل من داخله، على أمل التمكن من تغييره من الداخل، ولكن عملية التكيف معه كانت أقوى من العمل لتغييره، وساهم ذلك في وقوع الانقسام، هذا من جهة، والصراع معه من جهة أخرى، وعدم طرح برنامج سياسي ملموس يتصدى لمهمات المرحلة الراهنة من جهة ثالثة.
"حماس" بين الموالاة والمحاصصة والمعارضة
جعل هذا الوضع العمود الفقري لهذه الحركات، وهي حركة حماس، تتذبذب ما بين الموالاة والمحاصصة والمعارضة، والعجز عن تقديم البديل، والغرق في فخ السلطة، وهذا ساهم في حدوث الانقسام، وطغيان الصراع على السلطة، مع أنها تحت الاحتلال، على أي شيء آخر. فتارة الرئيس و"فتح" شريك وطني يجب العمل معه وتحت قيادته وتفويضه بالتفاوض وبالدعوة لعقد الإطار القيادي المؤقت وبكل شيء، وتارة هو منحرف وخائن يجب إسقاطه أو انتظار وفاته أو استقالته.
طريق ثالث ضعيف ومنقسم
أما الطريق الثالث، سواء كان يساريًا أو ليبراليًا، فلم يستطع أن يتوحد أو ينسق عمله، ولا بلورة قطب ثالث قوي يكسر الاستقطاب الثنائي الحاد، ويحدث التوازن المطلوب وظل أسير ماضيه المجيد بانتظار المستقبل الوعيد، أو انهيار نظام " قطبي الانقسام" الذي يتحكم في الحياة السياسية الفلسطينية.
مأزق عدم قيام القيادة بالتغيير وعدم تقديم المعارضة لبديل
إذا أردت صياغة ما سبق بعبارات أخرى أوضح، أقول: إن عدم تغيير القيادة المتنفذة لمسارها، وعدم تقديم معارضيها لبديل قادر على إحداث التغيير هو الذي يفسر قبل كل شيء لماذا لم نشهد الثورة أو الثورات التي نحتاج إليها؟
لا يمكن تجاهل تأثير العامل الخارجي
طبعًا، هذا يتعلق بالعامل الذاتي الوثيق الارتباط بالعامل الخارجي، فالاحتلال لاعب رئيسي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة لضرب قوى المقاومة وحركات التغيير وحتى الإصلاح، والحفاظ على السلطة بوصفها وكيلًا له. كما أن ارتهان الأطراف الفلسطينية ورهاناتها على المحاور الإقليمية والعربية والدولية يؤدي دورًا أساسيًا لا يمكن تجاهله في الحؤول دون القدرة على إحداث التغيير، فالعامل الخارجي مهم لإحداث التغيير ومنع حدوثه، ولكن التغيير يبدأ من العامل الذاتي. أما العامل الخارجي فيعمل أساسًا على تحقيق أهدافه ومصالحه؛ إذ يريد اللاعبون فيه الاحتفاظ بأوراق التأثير الفلسطينية في أيدهم، وهو يميل في محصلته إلى الحفاظ على استقرار الوضع على سوئه، بما فيه استمرار الوضع على حاله والقيادة بكل تشكيلاتها؛ لأنها تساهم في الاستقرار وخفض التصعيد، وهناك خشية من الذي يمكن أن يحل محلها في حياتها أو يخلفها بعد رحيل الرئيس.
لا تثق الجماهير بقدرتها على التغيير والأمل محرك الثورات
من ضمن أهم العوائق التي تحول دون اندلاع ثورات ضد الاحتلال، أو لتصحيح الوضع الداخلي، أن الجماهير لا تثق بقدرتها على التغيير في ظل العراقيل والعقبات الضخمة الذاتية والخارجية التي تقف أمامه.
هناك نقطة في منتهى الأهمية، تفيد أن أي ثورة كبيرة حتى قادرة على الانتصار، ولا تكون مجرد ردة فعل عفوية مؤقتة، بحاجة إلى أمل كبير يحركها، والأمل بحاجة إلى وضع أهداف يشعر الناس بأنها قابلة للتحقيق، فوضع أهداف كبيرة جدًا للتحقيق الفوري وتكبير الحجر يساهم بشدة في عدم تحقيق ما يمكن تحقيقه، بل في عدم تحقيق أي شيء.
وهذا يفسر لماذا الحراكات المطلبية قادرة على الحشد؛ لأنها أولًا تمس حياة الناس، ولأنها ثانيًا قادرة على تحقيق أهدافها أو جزء منها. أما الحراكات السياسية، فهي بحاجة إلى ثقة الناس بها مثلما يثقون بأي حراك شبابي يجسد المقاومة، مثل عرين الأسود، لذا لا تحشد حشدًا يذكر، وهذا بحاجة إلى مقال آخر، ولكن حتى تنجح هي تحتاج ومفترض أن تجد الصلة الوثيقة وإقناع الشعب بها، بين الوطني والديمقراطي، وما بين تحقيق المصالح الخاصة بالقطاعات المختلفة والتغيير البنيوي الشامل في المؤسسات السياسية التي من دون تغييرها لا يمكن ضمان الإصلاحات ولا تحقيق التغيير.
ما لا يدرك كله لا يترك جله
على سبيل المثال، هناك قطاعات كبيرة ومتزايدة تعتقد أنه يجب قبول أي شيء فهو أفضل من لا شيء، وهناك قطاعات كبيرة ترى أنه من دون تغيير فوري شامل والإطاحة بما هو كائن لا يمكن تحقيق أي شيء، وبما أن إمكانات تحقيق ذلك بعيدة أو ليست باليد؛ إذ لا توجد الأدوات القادرة على تحقيقها، فيترك الأمر حتى تتحقق أو تكتفي بنضال رمزي أو لقول كلمتها للتاريخ، وهذا يمدّ في عمر الأمر الواقع، ويصعّب تغييره.
سحر التراكم التدريجي إلى حين نضج الأوضاع للثورة
نحن بحاجة إلى إدراك عميق ووعي بأن التراكم التدريجي المنظم له سحر، إلى حين نضج الوضع للثورة، وهو الذي يمكن أن يقربنا من تحقيق التغيير الشامل، وما لا يدرك كله لا يترك جله، شريطة عدم وضع الأهداف على أساس ما يمكن تحقيقه فقط، ومن دون وضع الأحلام والأهداف الكبيرة ضمن الرؤية والبرامج منذ البداية؛ لأن التركيز على تحقيق أي شيء مثله مثل التركيز على تحقيق كل شيء أو لا شيء، بحجة شيء أفضل من لا شيء، وعدم خسران كل شيء يؤدي إلى ما هو أسوأ من خسارة كل شيء.
وحتى نوضح المقصود نورد أن عدم اندلاع انتفاضة شاملة منذ توقف انتفاضة الأقصى وأخذ المقاومة شكل الهبات والموجات الانتفاضية، يعود إلى أسباب كثيرة لا مجال لإيرادها هنا، ولكن أهمها أن الشعب يريد أن يفهم: لماذا يقدم تضحيات وأثمانًا غالية جدًا ولا يحقق أهدافه أو إنجازات تتناسب معها؟ لا توجد إجابة عميقة وشاملة ودقيقة عن هذا السؤال، وعندما توجد سيساهم هذا بقوة في اندلاع انتفاضة شاملة قابلة للانتصار.
مقارنة ما يجري في إسرائيل بما يجري في فلسطين
إذا قارنا بين ما يجري في إسرائيل بما لم يجر في فلسطين، سنجد أن المعارضة الإسرائيلية التي هي أسست إسرائيل وتتحكم في الكثير من مصادر القوة فيها، بما فيها دعم ما يسمى "الدولة العميقة" لها، ومن معظم الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، وضعت هدفًا واقعيًا، وهو وقف الانقلاب على الديمقراطية، وعندما طرحت بعض أوساط المعارضة ضرورة إسقاط الحكومة لم يتم التجاوب الواسع معها، مع أن وقف الانقلاب بشكل دائم غير ممكن من دون إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة أخرى، أو التوجه إلى إجراء انتخابات مبكرة جديدة، ولكن وقفه سيؤدي إلى سقوط الحكومة وتشكيل حكومة جديدة.
أما عندنا، فالقيادة هي التي قادت المنظمة، وأنشأت السلطة، والكثير من مصادر القوة في يدها، ومع ذلك لم تتوحد المعارضة - مع أنها تحوز أغلبية سياسية وشعبية أكثر من واضحة - على هدف واحد وأشكال مناسبة لتحقيقه، بل هناك من ينتظر أن يتحقق المراد وحده بقدرة قادر، أو نتيجة أسباب خارجية، أو بسبب التناقضات الداخلية الإسرائيلية، تحقيقًا لوعد الآخرة أو لنبوءات وتوقعات عن زوال إسرائيل نتيجة قراءة تستند إلى حساب الجمل والإعجاز العددي للقرآن، أو لعنة الأجيال، فهذا وهم مع أن الله سبحانه وتعالى قال "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فما يجري بقدر ما يوضح ضعف إسرائيل من جهة، غير أنه يجسد قوة نظامها وتحالفاتها من جهة أخرى.
طبعًا، هناك إصرار ومثابرة من المعارضة الإسرائيلية، فهي تتظاهر أسبوعًا وراء أسبوع، ونظمت تحركاتها ووضعت شعاراتها، على الرغم من التنوع الواسع والاختلافات الكبيرة فيما بينها، فما يجمعها وقف الانقلاب وإسقاطه، فما الذي يجمع المعارضة الفلسطينية؟
هناك الكثير الكثير مما يجمع المعارضة والفلسطينيين عمومًا، ويجمع ما بين الموالاة والمعارضة، باستثناء شرائح وأفراد مرتهنين للاحتلال كليًا، خصوصًا في ظل المخاطر الوجودية المتفاقمة، وعدم وجود أي أفق سياسي، وهناك تداخل وترابط جدلي ما بين المهمات الوطنية ضد الاحتلال وما بين إنجاز المهمات الديمقراطية الرامية إلى إحداث التغيير الداخلي المطلوب، ويجب إتقان عملية الربط بينهما؛ حيث لا يكون الواحد منهما على حساب الآخر، مع أن الأولوية للقضية الوطنية، ولكن ما الحلقة المركزية والشعار الناظم القادر على الحشد والقابل للتحقيق؟ هذا السؤال بحاجة إلى وقفة أخرى.