نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (11)

profile
نصر القفاص كاتب وإعلامي
  • clock 8 يونيو 2021, 12:18:12 م
  • eye 872
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بنك الاعتماد

مطلع السبعينات ظهرت محاولة من جانب دولة "الإمارات" لدخول عالم "الأوف شور" وصادفها نجاحا مذهلا.. وكانت نهايتها كارثة بكل المقاييس!!

عنوان المحاولة هو اسم بنك "الاعتماد والتجارة الدولى"

عمر هذه المحاولة استمر لنحو عشرين عاما.. كانت ترعاها "لندن" و"واشنطن" ولحظة أن أصبحت خطرا على الدولتين, تقرر تنفيذ حكم الإعدام فى هذا البنك!!

قبل أن نخوض فى التفاصيل, يجب الإشارة إلى أن تأسيس هذا البنك سبق حرب اكتوبر 1973 بعدة أشهر.. فقد تم تأسيس البنك منتصف عام 1972, بمبادرة – مغامرة – من اقتصادى هندى إسمه "أغا حسن عبدى" فهم مبكرا أن منطقة الخليج ستكون "الكنز" الذى يتسابق العالم على غرف ثرواته.. فقدم عرضه بإنشاء "بنك الاعتماد والتجارة الدولى" ليباركه الشيخ "زايد بن سلطان" رئيس دولة الإمارات وقت أن كان حاكم "أبو ظبى" وتعامل مع البنك عدد كبير من أمراء السعودية وشيوخ دول الخليج.. بل أن الرئيس العراقى "صدام حسين" كان أحد داعميه قبل توليه الرئاسة فى العراق وبعدها.. وكان "أبو نضال" أحد أبرز قيادات حركة "فتح" من الذين اعتمدوا على البنك بحسابات متعددة, ثم جذب عددا من كبار الأثرياء فى "كولومبيا" وبعض دول آسيا.. توسط البنك فى صفقات بين دول, كانت تحتاج إلى غطاء يؤمن سريتها.. إجتذب البنك عملاء من باكستان وأفغانستان وإيران والهند وتايلاند وبورما, وكلهم كانوا يمارسون أعمالا غير مشروعة بينها تجارة الأسلحة والمخدرات.

نجحت إدارة بنك "الاعتماد والتجارة الدولى" فى اختراق قيادات عليا بكل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.. بسبب قدرته على تأمين أكبر قدر من السرية لعملائه, وبالتالى كان يضمن للمرتشين عدم افتضاح أمرهم.. أصبح له عملاء من كبار المسئولين فى بريطانيا وعدد من كبار رجال المخابرات المركزية الأمريكية, وكل هؤلاء أصبحوا يؤمنون له غطاء سياسيا.. وامتلك البنك قدره على تجنيد عدد من الصحفيين, كانوا يقدمونه على أنه نموذج للتطور الاقتصادى والنجاح الإدارى.. وأقام البنك مقرا فاخرا فى قلب "لندن" وأصبح يقدم دعما لحزب "المحافظين" ثم مارس اللعبة ذاتها داخل الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الحزبين "الجمهورى" و"الديمقراطى"!!

إبتكر القائمون على البنك رسائل جديدة بالنسبة لنظام "الأوف شور" جعلت رأسماله الذى بدأ بمبلغ 2,5 مليون دولار يقفز إلى 850 مليون دولار, وتضخم عدد مودعيه ليتجاوز 80 ألف عميل – ثمانون ألفا – من الطبقات المتوسطة.

فى عام 1988 فتح "جاك بلوم" المحامى ملفات هذا البنك, بإيعاز من لجنة العلاقات الخارجية التى كان يتولاها "جون كيرى" وزير الخارجية فيما بعد.. وكان "جاك بلوم" معروف عنه أنه مقاتل عنيد.. يصعب إيقافه إذا قرر أن يمضى فى طريق.. يحارب الفساد ويشتعل إذا كان هذا الفساد فى مستويات عليا.. وتصفه "النيويورك تايمز" بأنه عدو الفساد الأول فى هذا التوقيت, وكشف العديد من القضايا الكبرى وفجرها وانتهى إلى ما يريده من تفكيك شبكات فساد ضخمة.. قام بزيارة إلى جزر "كايمان" لتعقب بنك "الاعتماد والتجارة الدولى" وهناك فهم أن الموضوع تفوح منه روائح كريهة.. لدرجة أنه قال: "كل من كان يسمع ما يدور داخل هذا البنك يأخذه دوار, ويكاد يتقيأ"!! والمدهش أن جيشا من النافذين فى "واشنطن" يدافعون عنه ويرونه بنكا رائعا.. ووصلته تحذيرات بالتوقف عن تقليب أوراق هذا الملف.. جمع "جاك بلوم" ما يملكه من أوراق ومستندات وذهب إلى "روبرت مورجنتاو" المدعى العام فى "مانهاتن" الذى وجد أن البنك يمثل "أكبر احتيال مصرفى فى تاريخ العالم المالى"!

حاول "مورجنتاو" تفحص أوراق البنك.. لم يتمكن.. رفضت سلطات "كايمان" التعاون معه باعتبار أن معاهدة تبادل المعلومات بين "كايمان" و"الولايات المتحدة" تمنع ذلك.. وقد يذهلك أن تلك الجزيرة التى لا يسمع عنها أغلبية سكان الكرة الأرضية, ترتبط بمعاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية – العظمى – والأمر هنا جائز حينما يتعلق بنهب ثروات طائلة.. إتجه المدعى العام الأمريكى إلى البنك المركزى البريطانى.. لم يجد أى تعاون ورفضوا طلباته.. فجر "جاك بلوم" الموضوع فى الصحافة وانفجرت عاصفة فى "الكونجرس" بقيادة "جون كيرى" وتطاير الشرر إلى مجلس العموم البريطانى.. تحولت القضية إلى اهتمام كونى فى أوروبا وآسيا وإفريقيا.. هنا لم يجد صناع القرار المالى والمصرفى فى بريطانيا, أى مخرج يسمح لهم بالالتفاف على العاصفة التى لا تهدأ.. قرروا إعلان إغلاق بنك "الاعتماد" وأعلنوا أنهم لم تكن لديهم براهين قاطعة على الاحتيال.. لكن الاتهام الأبرز قبل الغلق كان أن هذا البنك يعتبر أكبر ماكينة غسيل أموال – آنذاك – وتكشف بعد ذلك أن المخابرات البريطانية كانت قد رصدت تحكم "أبو نضال" فى أكثر من أربعين حسابا.. وأفاد بنك التسويات الدولية فى "بازل" بسويسرا أن البنك يتفشى داخله الاحتيال ويحمى شركات وهمية.. إضافة إلى قائمة طويلة من الاتهامات.

تحدث بعد ذلك "روبين لى" محافظ البنك المركزى البريطانى عن أسباب غض الطرف عن لا أخلاقيات العمل داخل مثل هذه البنوك – أوف شور – فقال: "لقد خدم المجتمع.. وإذا أغلقنا بنكا كلما اكتشفنا حالة احتيال, سيقل عدد البنوك التى تعمل عندنا"!!

أنهى "مورجنتاو" قضية بنك "الاعتماد والتجارة الدولى" بإغلاقه وخسر آلاف المودعين مدخراتهم.. لكن هؤلاء لا تمثل أموالهم سوى قشرة من المليارات التى تبخرت.. لدرجة أن التقرير الكامل الذى تم إغلاق البنك بموجبه, مازال سريا لعدم تخويف شركاء بريطانيا الدوليين!! وتقلصت المساحات التى تتناول قصة هذا البنك فى الصحف ووسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية.. فقد كان مطلوبا دفن "الجثة" وذكر محاسن الموتى!! حتى لا تعرف شعوبا بأكملها, كيف تم إفقارها.. ولا كيف تم نهب ثرواتها!!

هناك أكثر من 2500 معاهدة ضريبية فى العالم.. منها واحدة بين "كايمان" و"الولايات المتحدة الأمريكية"!! وهناك كيانان يقومان بوضع الأحكام والمعايير التى تنظم حركة المال فى العالم.. الأول "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية", وهى أشبه ببناء يضم فى عضويته الأمم الغنية.. والثانى فى الأمم المتحدة التى تسمح للدول الفقيرة أن تتكلم.. لكن الفعل والكلمة الفصل يقولها الأغنياء ويفرضونها على الفقراء.. وسنجد أن "البنك الدولى" يرى أن الآثار الجانبية لما يحدث فى عالم "الأوف شور" يمكن علاجه بإسعافات أولية!! وهم يناقشون بوضوح أن أصحاب النفوذ المالى فى بلادهم لا يخضعون للقوانين, لذلك سنجدهم يحرصون على أن تكون ثرواتهم خارج حدود الدولة التى يحملون جنسيتها.. وهؤلاء يمكن جذبهم للاستثمار بتقديم ما يلزم من تسهيلات وقوانين تحمى أموالهم!! أى أن هؤلاء "الأثرياء الجدد" أصبحوا يرهنون حكومات ودول, لكى يقومون بضخ أموال فى شرايين هذا الاقتصاد و ذاك.. وقد تم رصد قيمة ثروات نخب مالية فى المكسيك والأرجنتين وفنزويلا, وكلها أموال غير مشروعة تنام فى بنوك وشركان "أوف شور" فتلاحظ أن 1% "واحد بالمائة" فقط يملكون ما بين 70% و90% من ثروات بلادهم المالية والعقارية عام 2003

كل هؤلاء "الأثرياء الجدد" يستخدمون سلاحا واحدا ضد دولهم.. يقولون أن "الدولة تعادى الاستثمار ولا توفر المناخ المناسب له" وذلك كفيل بأن يجعل الحكومات تسترضيهم وترضخ لمطالبهم وشروطهم, لكى يشاركوا فى تحقيق "التنمية" التى تصعد ثمارها دائما لأعلى ولا تنزل على الفقراء.. فهؤلاء الفقراء يكفيهم أن يلتقطوا كالعصافير ما تبعثره الأحصنة حين تأكل!! لأن "الأوف شور" أصبح منهج لا يسمى بالصناعات المالية.. وذلك جعل أصواتا لخبراء اقتصاد ومالية تتعالى بين حين وآخر, لتحذر من النهاية الكارثية لهذا النظام الذى يجرى بسرعة وينهب الثروات بصور مختلفة ومذهلة.. ففى إبريل عام 2010 فتحت "بورصة الأوراق المالية" بالولايات المتحدة تحقيقا بشأن احتيال مؤسسة "جولدمان ساكس" المالية متهمة إياها أنها ضللت المتعاملين معها.. فوافقت المؤسسة على دفع 550 – خمسمائة وخمسين – مليون دولار لتسوية الاتهام!!

فالمهم دائما هو الإسراع بدفن "جثة"  الفضيحة, والعبور على الأزمة مما يدفعه أولئك الذين يمارسون الاحتيال والنهب.. ولا يمثل قشور مما يحصدونه مهما كانت الأرقام المطلوب دفعها كبيرة.. ولعلنا نذكر فيلم "البيضة والحجر" الذى قام ببطولته الفنان "أحمد زكى" حين جمع حوله الفاسدين ليقول لهم: "إذا سقط منكم لهفورى.. فكلكم لهفورى"!! وذلك يفسر لك قضايا الفساد التى يتم الكشف عنها, لتشغل الرأى العام فى هذه الدولة أو تلك.. ثم تتكرر بعدها بالأسلوب نفسه.. بل أن بعض القضايا يمكن أن يظهر فيها فاسد, ثم يخرج بالقانون.. ليعود بعد ذلك ويكرر جريمته ذاتها.. والقوانين تجعله نجم مجتمع وكاتب صحفى.. بل يمكن أن يكون "زعيم ميليشيا" إعلامية يهرول خلفها وزراء ونواب.. ذلك يجعل البعض يبدى دهشته.. لكنهم إذا أدركوا أن تلك هى ملامح تحول بلادهم إلى مجتمعات "أوف شور" سيفهمون أن ما يشاهدونه هو بداية على طريق طويل ينتهى مرة أخرى إلى ما كنا نسميه قبل ثورة 23 يوليو 1952 بمجتمع النصف فى المائة!! وبمجرد أن تذكر تلك الإشارة, تنفجر فى وجهك "ميلشيات" الفساد والنفاق.. لا يناقشون الموضوع.. لا تهمهم خطورته.. كل ما يهمهم هو أن يأخذونك إلى حفلة سباب ضد "جمال عبد الناصر" الذى ناقشت تجربته اقتصاديا أكثر من ألفى رسالة ماجستير ودكتوراه.. ولأن نظام "الأوف شور" قام للالتفاف على تجربة مصر فى الخمسينات والستينات.. وتطلب تفكيك هذه التجربة نصف قرن بدأت بعد حرب اكتوبر ومازالت مستمرة!!

تقدر "منظمة النزاهة المالية" قيمة ما يتم نهبه من دول نامية إلى خارجها بترليون دولار سنويا, كلها تذهب إلى نادى الأغنياء واسمه دول "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" التى تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا.

أظن أن معنى التعاون والتنمية الاقتصادية أصبح واضحا!

الحكاية باختصار أن الحرية للمال.. تعنى أن تفقد الدولة حريتها فى اختيار القوانين التى تناسبها.. فقد تم تسليم الحرية لرجال المال مقابل أن يستثمروا أموالهم.. هذا ما يريده الاستعمار الجديد عبر رجاله!!.. يتبع


التعليقات (0)