- ℃ 11 تركيا
- 7 نوفمبر 2024
ممدوح الولي يكتب: غياب الاستقرار يفاقم المشكلات المزمنة للاقتصاد السوداني
ممدوح الولي يكتب: غياب الاستقرار يفاقم المشكلات المزمنة للاقتصاد السوداني
- 19 أبريل 2023, 3:48:58 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
جاء تفجر الوضع في السودان خلال الأسابيع الماضية ليزيد من أزمة الاقتصاد السوداني المتداعي، منذرا بأزمات إنسانية واجتماعية خطيرة ما لم يتم التوصل إلى حل ينهي الصراع، ويهيئ الأجواء لبدء رحلة نقاهة طويلة.
ولم تكن أحوال الاقتصاد السوداني بحاجة إلى ما يزيدها سوءا، فعلى مدى سنوات أو عقود، يعاني ذلك الاقتصاد من مشكلات قد يكون أبرزها العجز المستمر في الميزان التجاري منذ انفصال الجنوب عام 2011 بموارده البترولية، والذي توقع صندوق النقد استمراره إلى عام 2028 أو بعد ذلك.
وهناك النقص الحاد في العملات الأجنبية، إذ لم يزد الاحتياطي عام 2021 على 1.85 مليار دولار ما يؤدي إلى الانخفاض المتكرر لقيمة الجنيه السوداني أمام الدولار، وضعف في معدلات النمو الاقتصادي في السنوات الست الأخيرة، والتي هيمن الانكماش على 4 سنوات منها (2017-2022).
وقد بلغت معدلات التضخم 63% في فبراير/شباط الماضي، بعضه بسبب السلع المستوردة وبعضه بسبب عوامل محلية، وزادت قيمة الدين الخارجي إلى 62.2 مليار دولار عام 2021، والدين الداخلي إلى 12.5 مليار دولار في نفس العام حتى بلغت نسبة الدين الحكومي 128% العام الماضي، وارتفعت معدلات البطالة إلى 19.8% والفقر إلى 46.5%، وارتفعت معدلات الجوع مع استمرار الصراعات القبلية وكثرة عدد اللاجئين من دول الجوار.
وتسبب الحصار الدولي والعزلة السياسية والاقتصادية التي بدأتها الولايات المتحدة منذ سبتمبر/أيلول 1983، مع إعلان الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري قوانين الشريعة الإسلامية، وكذلك الحظر التجاري والاستثماري الذي فرضته الولايات المتحدة على السودان منذ 1997 وحتى 2020، وتكرار الحروب الأهلية لسنوات طويلة بين الشمال والجنوب من 1955 حتى 1972، ثم من 1983 وحتى بداية 2005 الدور الأبرز في أزمة السودان الاقتصادية.
كما لعب تكرر الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال عام 1956 دورا مهما في التراجع الاقتصادي متسببا في حالة من عدم الاستقرار، وكان أول تلك الانقلابات ما قاده إبراهيم عبود عام 1958 واستمر 7 سنوات، وانقلاب جعفر نميري الذي استمر 16 عاما، وانقلاب عمر البشير عام 1989 الذي استمر 30 عاما، ثم تجربة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع منذ عام 2019 وحتى الآن، وتخللها انقلاب على الحكومة المدنية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قبل أن تندلع المواجهات بين الطرفين العسكريين؛ أي أنه خلال 67 عاما مضت منذ الاستقلال، عاش السودان 58 عاما تحت الحكم العسكري.
وحاول الاقتصادي عبد الله حمدوك الذي تولى الوزارة في أغسطس/آب 2019، تنفيذ "روشتة" صندوق النقد المعروفة للحصول على دعم دولي، فقام بالخفض الجزئي لدعم الوقود في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ثم أعلن توحيد سعر الصرف للتغلب على السوق السوداء للعُملة في فبراير/شباط 2021، ثم حرّر أسعار البنزين والديزل في يونيو/حزيران 2021.
ورافق تلك الإجراءات الاقتصادية اتصالات سرية مع إسرائيل للحصول على الرضا الأميركي والغربي، وبالفعل قابل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان رئيسَ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا في فبراير/ شباط 2020، وحصلت زيارة وفد إسرائيلي للسودان في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، والذي شهد الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين السودان وإسرائيل في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وفي اليوم نفسه وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار حذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وتلا ذلك في مارس/آذار 2021 زيارة وزير الخزانة الأميركية للخرطوم، والاتفاق على سداد الولايات المتحدة القرض المستحق على السودان، لمؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، حيث كان حصول السودان على قروض الصندوق تتطلب سداد ما عليه من قروض متأخرة لعدة جهات دولية وإقليمية، ولهذا تدخلت الدول الكبرى للسداد المؤقت لتلك القروض، على أن تحصل على ما دفعته من القرض الذي سيحصل السودان عليه بعد ذلك من صندوق النقد الدولي.
وعلى خطى أميركا، سدّدت المملكة المتحدة والسويد وأيرلندا المتأخرات على السودان لمجموعة بنك التنمية الأفريقي، كما سوّت فرنسا في يونيو/حزيران من ذات العام المستحقات المتأخرة على السودان لصندوق النقد، وبذلك أصبح المجال متاحا لإعلان الصندوق في 29 يونيو/حزيران 2021 منح السودان قرضا بقيمة 2.473 مليار دولار على 39 شهرا، يتم صرف 1.415 مليار دولار بشكل فوري، وبالطبع ذهب هذا المبلغ للدول التي سددت المتأخرات.
وهكذا، بعد سداد المتأخرات وقرارات خفض دعم الوقود ومرونة سعر الصرف، أعلنت كل من المؤسسة الدولية للتنمية وصندوق النقد الدولي، تأهل السودان للحصول على تخفيف أعباء الديون الخارجية عبر مبادرة "هيبيك" الخاصة بالدول الفقيرة المثقلة بالديون، بخفض دينه بقيمة 50 مليار دولار، تمثل أكثر من 90% من مجمل ديونه الخارجية البالغة 56.2 مليار دولار، إذا تمكن من الوصول إلى نقطة الإنجاز وفقا لمبادرة هيبيك خلال 3 سنوات.
لكن إطاحة الجيش برئيس الوزراء المدني حمدوك ووزارته وما رافق ذلك من قتل وإصابة المتظاهرين السلميين بدون محاسبة للفاعلين، جعل الدول الكبرى تراجع حساباتها فيما يتعلق بإعفاء السودان من هذا القدر الكبير من ديونه الخارجية، وتدخلت دولة الإمارات العربية المتحدة في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بإيداع 1.4 مليار دولار في البنك المركزي السوداني لمساندة سعر الصرف الضعيف.
ولكن ماذا تصنع قيمة المساعدة الإماراتية في بلد بلغ عجزه التجاري العام الماضي 6.7 مليارات دولار، والذي يعد أكبر عجز تجاري تشهده السودان خلال 11 عاما منذ انفصال الجنوب، حيث يتسبب ارتفاع أسعار النفط عالميا في ارتفاع العجز التجاري، في بلد يستورد أكثر من نصف استهلاكه من النفط، حيث بلغت قيمة واردات المنتجات البترولية العام الماضي 2.87 مليار دولار، إلى جانب واردات السلع الغذائية البالغة 2.89 مليار دولار، والسلع المصنعة بقيمة 1.4 مليار والآلات والمعدات 1.1 مليار، والأدوية 572 مليونا والمنتجات الكيميائية الأخرى 648 مليونا، ووسائل النقل 571 مليونا والمنسوجات 435 مليونا، ووصل إجمالي الواردات السلعية إلى 11.1 مليار دولار، في مقابل صادرات سلعية بلغت 4.357 مليارات دولار، بنسبة لا تزيد على 39% من الواردات وهي الأدنى منذ 7 سنوات .
وزاد من مأزق نقص العملة أن التجارة الخدمية التي كانت تحقق فائضا ولو قليلا بسبب إيرادات السياحة بين عامي 2015 و2021، عادت إلى تحقيق عجز العام الماضي بسبب عجز موازين خدمات النقل، والخدمات المالية، وخدمات الاتصالات والكمبيوتر والمعلومات.
ولا يستطيع الجهاز المصرفي السوداني (الصغير) أن يلعب دورا كبيرا لحلحلة هذه الأوضاع، حيث لم تزد قيمة أصوله عام 2021 على 9.3 مليارات دولار، وودائعه على 5.5 مليارات دولار وقروضه على 2.8 مليار دولار، ما يقلل من دوره التمويلي للشركات والأفراد، وهو ذات الحال الذي تعاني منه بورصة الخرطوم التي تعاني ضعف القيمة الرأسمالية مما يقلل من دورهما التمويلي، سواء عبر إدراج شركات أو زيادة رؤوس أموال الشركات المدرجة.
وتتبقى للسودان حصيلة تحويلات العاملين بالخارج، وعددهم أكثر من مليونين، لكن تلك الحصيلة يصعب أن تتجه للجهاز المصرفي في ظل سوق سوداء للعملة، كما تتبقى المعونات الخارجية التي زادت بعد رحيل الرئيس البشير، لكن كليهما لا يكفي لسداد العجز بالميزان التجاري، بدليل استمرار العجز المزمن بحساب المعاملات الجارية الذي زاد العام الماضي إلى 4.443 مليارات دولار.
إذن لا بد من استقرار سياسي وأمني كي يستعيد الاقتصاد السوداني عافيته تدريجيا، ولو عبر توفير ملاذ آمن لقادة القوى العسكرية المتصارعة خارج البلاد، كما حدث مع زين العابدين بن علي، إذ يبدو ذلك الخيار أقل ضررا من النموذج الليبي الذي يتصارع فيه فريقان بدعم خارجي على حساب موارد واستقرار ومستقبل الناس والدولة.