مصطفى إبراهيم يكتب: فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

profile
أ. مصطفى إبراهيم كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
  • clock 24 يناير 2025, 3:06:35 م
  • eye 59
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي “حرب” جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات وما تبقى من بيوت.


في مقابلة على إحدى الفضائيات الإسرائيلية، تباهى جندي إسرائيلي خدم في قطاع غزة، بحرب الإبادة التي كان شريكاً فيها. فعندما سأله المذيع “ماذا فعلت هناك وكم بيتاً هدمتم؟”، قال: “أنا كنت أهدم في الأسبوع خمسين بيتاً،  لا شقق بل عمارات سكنية”، ثم طرح عليه سؤالاً آخر: “أين سيذهب العرب؟”. لم يجب الجندي بدايةً، ثم قال: “دمرنا بيت لاهيا، وكنا في الطريق لاستكمال تدمير بيت حانون… لكن تم الإعلان عن وقف إطلاق النار”. 

 

يمكن القول إن الصور والفيديوهات التي التُقطت هذا الأسبوع من قطاع غزة، بخاصة رفح  وجباليا، هي الأكثر فظاعة من أي صور التُقطت هذا  العام، فهي وثّقت ما حلّ بالقطاع وأهله وحالة الضياع والجملة التي رافقت أهل غزة “وين نروح ؟”، إلى جانب سوء الأحوال الجوية والبرد والأمطار وغرق خيام النازحين.


كان من المتوقع أن يبدي العالم تعاطفاً وتواضعاً أمام الكارثة منذ بدايتها، لكن، واذا لم أكن مخطئاً، فلم يعد هناك أي تعاطف أمام  الرغبة الإسرائيلية الجامحة  في نكبة الفلسطينيين وقتلهم. نحن نعيش مأساة شديدة الوضوح،  وهي آخر صرخة مع نهاية العام وبداية العام الجديد صادرة عن شعب متعب يتعرض للإبادة، ولم يعد يقوى على مقاومة أهوال القتل، فهل فقد العالم إنسانيته؟
أن يتناول الفلسطيني في غزة وجبة دافئة من الطعام أمر يزداد صعوبة (وأحياناً استحالة)، لا فقط بسبب شحّه، بل أيضاً بسبب ارتفاع الأسعار المتقلبة يومياً، وندرة الأموال التي لا يمكن أن تسدّ جوع كثيرين وتأمين احتياجاتهم الأساسية. 
اضطررنا أن نصبح بخلاء،  وعلى رغم ترديدنا عبارات مثل “الحمد لله، احنا بخير”،  فنحن صمدنا إجبارياً، وليس بإرادتنا. نحن ضحية الاحتلال وغطرسته، ومن  المهم ألا ننسى ما يفعله الجيش الإسرائيلي، والإبادة الجماعية المستمرة ضدنا وضد المجتمع بهدف تفكيك هويته ومناعته، وغياب ضمير العالم في جريمة الإبادة الجماعية ولا مبالاته ودعم  إسرائيل اللامحدود، بينما يُقتل العشرات من الفلسطينيين يومياً. 

قد نكون غير قادرين على التفكير في المستقبل، لكننا لم نستسلم لمصيرنا، فنحن لسنا خارج الزمان والمكان. نحن نرفض القتل وسرقة آمالنا وأحلامنا بزوال الاحتلال، ونسعى الى العودة الى مدننا وما تبقى منها ومن ببيوتنا المدمرة، والتوقف عن الحزن المستمر. ومع تلك الأهوال كلها، يبقى الانتظار  والأمل في وسط  ضباب الثقة.


لكن، كيف سنعود الى الحياة الطبيعية ولا بيوت لنا، كيف نعود وقد قُتل الجيران وهُدم الحي وعُطب الناس الذين نعرفهم وغاب الأمن العام والشخصي؟ كيف سنعود الى الحياة أمام شحّ الطعام والكهرباء؟
وسط هذا كله، انتشرت مشاهد الفرح لحظة التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، الفرح الذي عبر عنه أهل غزة لا يشعر به إلا أهل المكلومين، لكنه فرح مؤقت بسبب القهر والخوف والرعب  المسيطر عليهم، إنها أحاسيس لا يشعر بها إلا سكان غرة، غير المصدّقين أن القتل اليومي توقف، وبدأ البحث  عن مستقبلهم الضبابي والعودة الىى ما تبقى من حياتهم.


نواجه اليوم الأسئلة الصعبة، متى سيبدأ الإعمار أو حتى ما تسمى “مرحلة الإنعاش المبكر”،  والتي من المفترض أن تكون الجهات المتخصصة أعدتها؟ ومتى ستوزع كميات المساعدات الكبيرة التي تدخل عبر المعابر، فيما تقف بيروقراطية المؤسسات الدولية عائقاً أمام توزيعها على الناس؟


المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي “حرب” جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات وما تبقى من بيوت.

 


صديقتي اليهودية أرسلت لي رسالة صوتية في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، هي التي لم تتوقف طوال أيام الحرب عن الاتصال والاطمئنان. تقول فيها: “فكرت بكم اليوم طويلا ًكما كل يوم،  أتمنى لكم أن تناموا هذه الليلة بهدوء، ولنصلِّ معاً أن يستمر الأمر هكذا، وتتمكنوا من الوقوف على أقدامكم، ولنصلِّ معاً كي تتمكنوا من بناء حياتكم من جديد. مع أن ما حصل لكم ليس من السهل إصلاحه لكنه ممكن مثل  مسار جديد  يعبد لكم  الحياة، نأمل وننتظر ونتمنى لكم حياة مليئة، تشبه ما عشتوه من حياتكم قبل كل ما جرى”.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)