محمد قدري حلاوة يكتب : صندوق ومفتاح

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 31 مارس 2021, 3:40:01 ص
  • eye 779
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

جلست الجدة القرفصاء على حشوة قديمة و أخرجت مفتاحا عتيقا صدئا من كيس قماشي قديم أستلته من صدرها وقالت بصوت متهدج هذا هو مفتاح منزلكم.. كانت الجدة تنهي نقاشا حادا نشب بين أحفادها.. فريقا يتشبث بجذوره و البقاء في الأرض والدفاع عنها و آخر يرى أنه لا جدوى من إعتناق تلك الأفكار البالية عن الحق والأرض والمقاومة.. الهجرة إلى الخارج هي الحل للخروج من تلك الحياة البائسة في القطاع المحاصر..

واصلت الجدة حديثها وقد صوبت نظرها نحوهم بحدة كانت كافية ليفهموا أن عليهم الآن الإنصات التام.. " أنتم من قرية الدوايمة '.. تزوجت من جدكم عام ١٩٤٠.. كان شابا قويا طويل القامة.. حاد الملامح و قسمات وجه لم تنجح جدته في إخفاء ملاحتها.. كنت أسمع قبل ذلك أقوالا متناثرة من نساء قريتنا أنه كان مجاهدا مع عز الدين القسام وشارك في" الثورة الفلسطينية الكبرى" عام ١٩٣٦.. كان واعيا منذ صغره بالخطر الصهيوني.. ومكافحا ضده.. لعله لذلك قد تزوج وقد بلغ السابعة والعشرين عاما وهو سن كبير للزواج في عرف قريتنا.. كان لنا دارا من ثلاث طوابق.. و أرضا فسيحة مزروعة بالبرتقال.. كنا نحيا حياة رغداء مريحة أبي جدكم أن يستكين إليها.. كان مع كل عام يمر من زواجنا وننجب فيه طفلا وكلما كبر طفلنا.. يكبر معه ويستفحل الخطر الصهيوني.. لذا بدا دوما جادا.. مهموما.. قليلا َما يقحم المزاح في حديثه.. كثيرا ما أسر لي بخيفته وتوجسه من أن الأمر يحمل في طياته ما لا يرام.. وأنه يستشعر النازلة التي بدت علاماتها جلية ترعد وتبرق في الأفق وإن كانت لم تحل بعد وفي جلسات المساء في فناء المنزل مع أقرانه وسط أكواب الشاي والقهوة ودخان اللفافات والنارجيلة كان يردد دوما لا سبيل سوي المقاومة.. مضت الأعوام وجاء قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة في التاسع والعشرين نوفمبر " تشرين ثان" عام ١٩٤٧ وهنا إنضم جدكم إلى " جيش الإنقاذ العربي" .. لم أراه بعدها سوي أياما قليلة.. كان كلما أتى بدا حزينا ثائرا مكفهرا.. يحدثني حديثا يثقل أحيانا على إدراكي استيعابه عن الظلم والخيانة و تواطؤ السياسة.. كانت دموعه تسقط فارة من عينيه رغم صلابته وشموخه وهو يحكي عن المذابح والنزوح والأرض التي إحتلها الصهاينة.. وبعد الإنسحابات المتوالية والتراجع وتفتت جيش الإنقاذ قرر العودة لقريته وعائلته في منتصف أكتوبر ( تشرين أول) عام ١٩٤٨.. وحسنا ما فعل فقد كان الأمر قد نفذ.. وتم ما كنا نخشى ونكره.. وكنا حينها كعائلة أولى الناس به وسط أجواء الخوف والموت والخطر..

وفي التاسع والعشرين من أكتوبر " تشرين أول" عام ١٩٤٨ هجمت القوات الإسرائيلية على قريتنا الوديعة.. عاثوا فسادا ونهبا وقتلا وحرقا وهدما .. حطموا جماجم الرضع و أغتصبوا النساء وحرقوا البعض أحياء.. هرب البعض إلى جامع القرية والبعض الاخر إلى كهف " عراق الزاغ" المقدس.. إلا أن كل هذا لم يدفع عنهم القتل.. قرر جدكم حينها أن نغادر الأرض.. واصلت الجدة حديثها وقد أغرورقت عينيها بالدموع.. كتب الله لنا أن نبقى أحياء.. تركنا منزلنا و أرضنا ورحلنا ضيوفا على أخوالكم في" قلقيلية ".. قد تكونون لم تسمعوا شيئا عن تلك المجزرة التي لم يخفها الإسرائيليون فقط بل أخفاها الفيلق العربي أيضا خوفا من أن يسبب إنتشار أنبائها ذعرا يسبب هروب السكان مثلما سبب ذلك إنتشار أنباء مذابح " دير ياسين ' و" الطنطورة'.. وغيرها من كر مسبحة المذابح.. مختار القرية " حسن هديب" كان خارج القرية يوم المذبحة ووصف لجدك عندما قابله بعد أعوام عن الجثث التي رآها بعد عودته مكدسة في الطرقات و تملأ مسجد القرية وتسد مدخل الكهف المقدس.. حتى في الموت يا أبنائي لم يكن لنا حظا فيه وظلت مذبحة قريتنا مجهولة مسكوتا عن ذكرها عمدا ومسكوتا أيضا عن ضحاياها بالطبع.. هذا عام سماه العرب عام " النكبة".. ومن حينها و هذا المفتاح لم يفارق صندوق جدكم.. و صار عنده هو كل ما تبقى له من الوطن.. من عمره.. شبابه.. كده.. شقاه.. و أستطردت الجدة بعد فترة صمت سادت لبرهة : أذكر رسالة أرسلها لي من بيروت أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ١٩٨٢ كنب فيها يقول " وما الوطن في البدء والمنتهي سوي نحن أبناؤه بكل مفرادتنا وذكرياتنا.. لم يكن الوطن يوما ما جمادا أو معنا مجردا أو صنما لا حياة فيه.. حياة الوطن أبناؤه"..

أستقر بنا الحال عند أخوالكم في " قلقيلية".. صار لنا أرضا ودارا ولم ننسى يوما أرضنا وبيتنا.. وشارك جدكم و آبائكم في المقاومة.. ومرت الأيام ثقيلة بطيئة.. مليئة بالأمل والحلم حينا ومكتسية بالحزن واليأس أحيانا.. أمن جدكم بالعروبة وأحب عبد الناصر.. كان يحدثنا يوما عن العودة ويتفقد صندوقه ومفتاحه كل ليلة.. وفي إحدى العمليات الفدائية نجح في التسلل مع عمكم " ظافر" خلف خطوط العدو نحو قريتنا " الدوايمة".. يحكي " ظافر" أنه وسط إطلاق النار والقنابل تسمر الجد فجأة وقد أخذ يشد على يد " ظافر" بقوة قائلا : هذه دارنا.. تلك أرضنا.. هذا هو باب الدار.. لا ينتظر سوي التواء المفتاح فيه لنلج جميعا إليه.. هل مازلت تذكر حجرتك و ألعابك يا " ظافر"؟ أجاب ظافر بالإيجاب وإن كان قد أخبرني سرا أنه لم يكن هناك أرضا ولا منزلا حينها.. لم يكن هناك أكثر من كيبوتس صهيوني كان هدفا لهجوم الفدائيين.. لم يرض " ظافر" بالطبع أن يسلب والده حلمه ورؤاه و إيمانه كما سلبه العدو أرضه...





هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)