محمد قدري حلاوة يكتب : صندوق ومفتاح ٢

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 1 أبريل 2021, 12:35:00 ص
  • eye 992
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أخذت الحيا دورتها.. وأعتدنا الأرض والناس من حولنا و ألفناهم و ألفونا.. لا تستغربوا ذلك ولا تستنكروه ولا يذهب بكم الظن اننا نسينا أرضنا ودارنا وجذورنا.. إنها إرادة الحياة وقوتها وتلك القدرة التي وضعها الله بداخلنا على الصبر و الإحتمال لا تظنوا أننا كنا سعداء كنا فقط نحيا ونتجاوز.. ونحن نمد البصر إلى مرمى غلالة الأمل الذي لا ينقطع ولا يفي أيضا.. وكبرنا وكبر آبائكم حتى أتى ذلك الصيف الحزين.. في يونيو " حزيران" من عام ١٩٦٧ دخلت القوات الإسرائيلية ثانية إلى قريتنا ( قلقيلة هذه المرة) وهدمت تارة أخرى منزلنا.. أعلنوا في مكبرات الصوت أمرا بمغادرة القرية.. كانوا يبحثون عن جدكم و أباءكم وكل المقاومين.. و غادرنا أرضنا خلسة سيرا على الأقدام عابرين جسر نهر الأردن.. و أقمنا عند أخا جدكم الجد "نايف "في" إربد".. لم يهتم جدكم كثيرا بالمتاع والدار والأرض التي فقدناها قدر إهتمامه بصندوقه و" مفتاحه ".. كان هذا عاما سماه العرب بعام" النكسة "..

تحايلنا على الحياة وحاولنا تجاوز الجراح والآلام وعمل أبائكم وجدكم مع الجد نايف في التجارة وإن ظلت المقاومة هي شغلهم الشاغل.. و إنضموا لمنظمة التحرير الفلسطينية.. وفي مارس ' آذار "عام ١٩٦٨ نجحوا في تلقين الإسرائيليون درسا قاسيا وتكبدهم خسائر فادحة في " معركة الكرامة".. و أستشهد فيها ولدي " جاسر " والجد " نايف".. ولم يمضي سوي عامين ونيف حتى نشب النزاع المسلح بين " منظمة التحرير الفلسطينية" والدولة في الأردن وقتل الكثيرون في النزاع... و أضطررنا للرحيل مجددا هذه المرة نحو لبنان.. وجدكم مرتسمة على ملامحه آمارات الجدة والعزيمة وهو يتأبط صندوقه ومفتاح وكان كلما أنفرد بذاته أطلق العنان للدمع السجين حزنا على عبد الناصر.. كان خبر وفاته قد. ذاع ونحن نغادر الأردن.. كان هذا في شهر سبتمبر " أيلول" من عام ١٩٧٠..في حدث أطلق عليه العرب" أيلول الأسود "..

مضينا نحو مخيم " عين الحلوة" فى لبنان بعد أن وفرت لنا " منظمة التحرير الفلسطينية" منزلا متواضعا متداعيا هناك.. عشنا هناك أربعة وعشرون عاما.. ندر أن يمر عاما واحدا فيها بسكينة وهدوء.. عشنا فرحة نصر العرب في أكتوبر " تشرين أول" عام ١٩٧٣.. عانينا نير" الحرب الأهلية اللبنانية" التي صرنا أحد أطرافها بقى جدكم أياما يغلق عليه باب غرفته رافضا أن يقابل أحدا أو يكلمه أحد بعد زيارة الرئيس " السادات" للقدس نوفمبر " تشرين ثان" عام ١٩٧٧.. فقدنا الأبناء والأعمام والأخوال والأحفاد في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ١٩٨٢ و" مذبحة صبرا وشاتيلا" وما تلاه من أعوام لم نكن أقل فقدا أو أكثر آمنا فقد صرنا بإرادتنا _ في أكثر الأحوال _طرفا في المناخ السياسي اللبناني المضطرب و أحيانا دون إرادة منا وما زاد وطغي من الأحزان كان هو إقتتال الفصائل الفلسطينية مع بعضها البعض وسقوط الرداء الذي كان يستر عورة تجار القضية ومدعي النضال.. سقطت أسماء ومنظمات ورموز.. وظلت حجرة جدكم لا يزينها سوي صور الراحلون ' عز الدين القسام ".." جمال عبد الناصر'.. " غسان كنفاني".. "ناجي العلي". " تشي جيفارا". . ويبدو أنه لم يجد صورة لحي جديرة بأن تأخذ حيزا على حائط غرفته المصفر..

ولم يطلق العرب على كل تلك الأعوام إسما لسبب لا أدريه قد يكون عجزا منهم على إيجاد مرادف مناسب لها في اللغة العربية.. وقد يكون سأما ومللا من كثرة إطلاق أوصاف ونعوت الهزيمة والرثاء.. وربما يكون العجز والسأم والملل والخجل أيضا قد أتى من اللغة نفسها.

وتنهدت الجدة عميقا قبل أن تواصل قائلة : سبتمبر " أيلول" عام ١٩٩٣ فوجئنا جميعا " بسلام أوسلو '.. لم يستطع جدكم تحمل الأمر كثيرا... شعر أن كل ما عاش عليه قد سلب منه فجأة.. أستشعر أن كل ما آمن به قد أتى الآن من يحطمه.. ليته كان عدوا من فعل ذلك.. لكنه ويالا الأسف والحزن من أبناء جلدته هذه المرة.. هذه هي المرة الثانية التي يشعر فيها بالهزيمة والفقدان والإنتزاع من الجذور.. ليست أرضا تستلب هذه المرة ولا دارا لكنه وطنا وكيانا.. خر مريضا لأيام قليلة لم ينبث خلالها ببنت شفة.. قال الأطباء إنها الجلطة.. ظل يتمتم بالأوراد والأدعية وخط جار من الدمع يشق أخاديد وجهه العميقة.... أشار إلى وإلى الصندوق بإشارة معناها أن أعطيه المفتاح.. وضعت المفتاح في يده وقبض عليه بقوة وهو يضمه إلى صدره ونظر إلى نظرة تغني عن ألف كلمة وسرعان ما أسلم الروح إلى بارئها.. ودفن في أرض غريبة دون صندوقه ومفتاحه.. وإن كان لم يفقد الإيمان يوما بأنه عائد إلى أرضه.. الى منزله.. الي البرتقال والزيتون.. كان هذا عاما لم يسمه العرب ولم يهتموا بالأمر أو يعيروه بالا كثيرا.. فقد تشابهت الأعوام وتفاقمت الأحداث وإبتذلت معاني اللغة وصار المدلول والنقيض صنوان في الزيف لا فرق..

عدنا إلى أرضنا عام ١٩٩٤.. لم نعد بالطبع إلى " الدوايمة" ولا حتى " قليقلة ".. فقد صارت سكنا وحكرا للأعداء بعد إتفاقيات وتوائمات بين " السلطة الوطنية الفلسطينية" والإحتلال بعودة الكثيرون من أعضاء " منظمة التحرير الفلسطينية" عدنا إلى " غزة".. . دمروا لنا المنزل تلو المنزل.. و استشهد الأبناء و الأعمام والأخوال والأحفاد مجددا.. حتى عرفات من صنع السلام معهم سمموه.. ومازالوا يقتلوننا وما زلنا نقاوم وتشاحنت الفصائل مرة أخرى وعاد الكثيرون يتاجرون بالقضية ويتربحون من دعاوي الكفاح والنضال.. أشعر أن الله قد من على جدكم بالرحيل في الوقت المناسب.. لم تكن روحه العاشقة للوطن والأرض والكرامة لتحتمل كل ذلك.. ثم علت نبرة الجدة وهي تقول بحماسة: قد نفني جميعا دون أن نعود إلى دارنا و أرضنا.. نظل نرحل ونتشرد .. ولكن سيبقي دوما هذا الصندوق وذاك المفتاح.. قد يأتي يوما من يحمله.. يموت الإنسان ويفني وينسي... ويبقى الحق والرمز والمعنى يحييون حياة خالدة.. حتى وإن إعتراهم الخفوت والشحوب والصدأ..


( ماتت الجدة بعد هذا الحديث بعام وهاجر ثلاثة من الأحفاد و إستشهد اثنان آخرون.. و إنتقلت حوزة الصندوق والمفتاح إلى الإبن الأكبر الباقي بين الأحياء) " إنتهت"..

التعليقات (0)