- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
علي محمد علي يكتب : النيرفانا
النيرفانا في البوذية والجاينية هي حالة الخلو من المعاناة . تعتبر الـ (نيرفانا) هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق ،
فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق ، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي ، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة
وقتل الشهوات ، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها .
ويصل الكهنة البوذيون والزهاد الهنود إلى حالة الـ (نيرفانا) بعد فترات طويلة جدا من التأمل العميق ، إلا أن الأمر وبطبيعة الحال صعب جدا على عامة الناس ،
وكل ما ذكرناه واقعي تماما على الرغم مما يبدو عليه الأمر من مجرد فكرة فلسفية .
تطوّرت البوذية عن التقاليد الدينية – الفلسفية الهندوسية السابقة عليها . كان الشخص التاريخي المعروف باسم «سيدارتا غوتاما» عضوًا في حركة إصلاح ديني ،
عُرفت بـ " الشيرامنا " ، وقد تولّد عنها فيما بعد عدد من الإعتقادات أبرزها : الجاينية ، والبوذية .
خاضت الشيرامنا منذ القرن السادس قبل الميلاد جدالًا لتطوير هذه التقاليد ، ضد سلطة طبقة رجال الدين (طبقة البراهمة) ، والالتزام الأصولي بنصوص الفيدا (مجموعة الكتب الهندوسية المقدسة) ،
حيث قسمت المجتمع تقسيمًا طبقيًا جاعلة البراهمة على قمة هرم يأتي بالداليت (المنبوذين) في أسفله. تميزت الفيدا أيضًا بتغليب المظاهر السطحية: الطقوسية والشعائرية ،
على حساب تقديم نهج ملائم لعيش حياة جيدة ، أو تجاوز المعاناة الشخصية.
وتحدثت البوذية عن مرحلة في العبادة يصل فيها المرء إلى الاندماج الكلي في أشياء هذا الكون ، حيث تخمد فيها الرغبات والشهوات ، ويصبح كل شيء بلا معنى ،
وتصبح كل الأشياء على مسافة متساوية من الفرد ، فلا تميز ولا تفضيل لشيء على آخر، فهي حالة مطلقة من اللامبالاة وعدم الاكتراث.
ويستطيع المرء أن يبلغ النيرفانا عن طريق تدريب مدروس ، يطال الجسد كما يطال الروح ، فالبوذية ترى أن الإنسان يستطيع التحرر من الألم عن طريق الكمال الأخلاقي الذي يمكن بلوغه عن طريق الانعتاق من الحياة والانغماس في النيرفانا،
وهي المرحلة التي لا يعود الفرد فيها يحس بنفسه على أنه ذات، وإنما يذوب ويتلاشى في الوجود أو الحقيقة الكامنة وراء الوجود الظاهري،
وهو ما يسمى بالاستنارة ويسمون من يبلغ هذه الحالة بالمستنير وهو اللقب الذي كان يطلق حصراً على بوذا (المتوفى سنة 483ق.م) لأن غشاوة الدنيا قد رفعت عن بصره وبصيرته،
فرأى الحقيقة رأي العين، وفني عن نفسه فيها، وهي حالة لم يبلغها على الكمال إلا بوذا، حيث قال ذات يوم «لم يعد لدي ما أفعله في هذه الدنيا» فعدوا ذلك بمنزلة الفكرة المنيرة،
وأنه قد استنار بها واهتدى . وقد جاءت الفكرة إلى بوذا وهو جالس جلسته المشهورة تحت شجرة (البو) التي أطلق عليها أتباعه (شجرة الاستنارة)
وتتلخص تعاليم بوذا في هذا الشأن في الحقائق الأربع النبيلة الآتية : إن الحياة كئيبة غير مقنعة ، وإن الطمع سر بلائها ، وإن القضاء على كآبة الحياة يمكن بالقضاء على الطمع فيها ،
وإن السبيل إلى ذلك يأتي بطرق ثمانٍ هي : الرأي السديد ، والطموح السديد ، والقول السديد ، والسلوك السديد ، والتكسب السديد ،
والجهد السديد ، والعقل السديد ، والتفكير السديد ، وبذلك يتحقق الصفاء النفسي والفكري فنبلغ مرحلة النيرفانا .
بينما اختار الناسك المدعو ماهافيرا ، رائد الجاينية، والمُعاصر لغوتاما ، الزهد الجسدي التام طريقًا للتحرر من تلك المعاناة ، والوصول إلى ما يدعوه بـ «الانتصار»
. فقد اختار غوتاما ، لأجل الوصول للتحرر أو الـ «نيرفانا» طريقًا آخر، سماه «الطريق الوسط» بين الزهد والإفراط في اللذات الحسية
. في حين اتفقا على بعد جذري عن التعاليم الفيدية القديمة والهندوسية القديمة والحديثة ، أو لا - أدرية فلسفية في أفضل الأحوال ،
مع سعي لتحقيق تحرر ذاتي ، مستقل عن أي مساعدة من كائن أعلى مُفارق ، وإن طالت ذلك بعض الانحرافات . وقد ساهم في تطوير هذه الرؤية ،
مرونة التقليد الهندوسي فيما يتعلق بمسألة الألوهية ، حيث لم تُمثّل الآلهة أكثر من تجليات ترمز للمبدأ الكوني ،
وهو البراهمن : "القاع الكلي للوجود" إلى درجة أنه كان على تلك الآلهة ، وهي تعاني أيضًا داخل السامسارا الخاصة بها ، أن تتنظر ميلادها في صورة إنسان، حتى تتمكن من التحرر منها نهائيًا .
قد يبدو ذلك غريبًا بالنسبة للإبستيم الإبراهيمي ، ، حيث يفصل بشدة بين المجالين الإلهي والإنساني ، إلا أن الهندوسية ، وما تلاها من جاينية وبوذية ، انطلقت من وحدة وجودية ،
يكون الفصل فيها ، ليس بين الإله والبشر ، وإنما بين عالم الظواهر (المايا) ، وهو عبارة عن مجموع الأشكال والتجسدات (المؤقتة ومصيرها الزوال دومًا) التي يتخذها البراهمن (المُطلق الكوني) ،
ومن ضمنها الآلهة ذاتها، فالآلهة أو الأله هي في المحصلة ، مُجرد صور أخرى للمايا ، مثلما هو أي موجود أو ظاهرة كونية أخرى، يتخفّى في باطنها البراهمن : المبدأ الثابت ، ومصدر كل التناقضات ،
والذي انبنت الهندوسية على غاية اتحاد النفس الإنسانية به ، وذلك عبر التحرر من قيود الحواس ، وما يتبعها من الجهل بوحدة المتناقضات الصادرة عن ،
والمرتدة إلى نسيج كلي ، هو البراهمن ، حيث لا وجود لشكل ، أو صورة ، أو أي صفة متصلة بالحواس .
في المقابل تمسكت مدارس أخرى مُعاصرة أبرزها الزن اليابانية ، بالأصل الاعتقادي السابق للانحرافات التأليهية. إذ أصرت على الفكرة القائلة بأن التحرر هو مسألة فردية ،
لا دخل لأي قوى مُفارقة أو إلهية - يظل وجودها من عدمه ، غير مهم- في تحقيقه، وأنه لا يمكن اكتساب التحرر بالدعاء أو ما شابه ذلك ، بل لا يمكن حتى إتمام تجربة التحرر عبر تعليمها بواسطة الكلام (اللغة) ،
حتى وإن ساهم الأخير في تبسيط بعض العقبات، فستظل إمكانية إدراك حقائق: الخلو وعدم الدوام إمكانية باطنية خاصة بالفرد ، لا يُمكن التعبير عنها بالكلام ، إذ إن تلك الأشكال من المعرفة تتجاوز حدود العقل والتعبير اللغوي .
تمسّك الفريق الثاني (الزن ومن وافقها)، بما سبق أن أكد عليه سيدارتا ، أي: قدرة جميع الكائنات الواعية على تحقيق التحرر، أو التحوّل إلى «بوذا» آخر،
وذلك لأن طبيعة بوذا : الصفات الداخلية للذهن والتي تؤهل المرء لبلوغ الاستنارة ، كامنة بداخل جميع الكائنات الواعية. وبالفعل ،
لم يزل البوذيون يعتقدون بوجود «بوذات» كثيرين في الماضي، حتى قبل «سيدارتا »: البوذا التاريخي الذي نعرفه ، تمامًا مثلما سيُوجَد بالمستقبل غيره ، فطبيعة بوذا ، هي ملَكة إنسانية ، كان سيدارتا إنسانًا رائدًا في تحقيقها .
وقد استعار الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهور (1788-1860) لفظ النيرفانا وروّجه في مؤلفه الرئيس «العالم إرادة وتصور» عام 1818 ليشير إلى أن الحياة ليست إلا وهماً وسراباً ،
لذلك لابد من الزهد فيها وفي كل متعها ، والعمل لبلوغ حالة النيرفانا ، وهي عنده (السعادة العقلية والنفسية التي يمكن أن يبلغها من ينكر إرادة الحياة في نفسه) ويمحو فيها الميل إلى بقاء الذات والنوع ،
حيث يرى شوبنهور أن الوجود الذي نعرفه إنما يهجره إنسان الخير بطيبة خاطر، وما يحصل عليه في مقابل ذلك هو العدم ، وأن الحكيم هو من عاش وكف عن محبة الحياة وهو يعيش .
ويختلف مفهوم شوبنهور عن مفاهيم البوذية بأن النيرفانا عنده هي إنكار تام ، أي محو الميل إلى بقاء الذات والنوع ، في حين ترى البوذية أنها وقف نمو الحياة وقفاً تاماً ،
وذلك بإنضاج البذور التي تعيد غرسنا بلا انقطاع في التناسخ ، فالنيرفانا عندهم هي الفناء في الخير الأعلى الذي يبلغه الإنسان برجوعه إلى المبدأ الأول بعد إمحاء ذاته الفردية في الكل .
وقد استخدم متصوفة الإسلام تعبير الفناء مرادفاً للنيرڤانا، وهي عندهم حالة من عدم الشعور بالنفس ، والتحرر من كل صفاتها ولوازمها ، والانقطاع عن الغير، وفناء الذات البشرية في الذات الإلهية .