عريب الرنتاوي يكتب: المقاومة وطوفان المقترحات المسمومة

profile
عريب الرنتاوي مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
  • clock 25 مارس 2025, 11:59:59 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ليست حماس في وضع تُحسد عليه...الضغوط تنهال عليها من كل جانب، إسرائيل تستأنف حرب التطهير والإبادة معتمدة تكتيك "الترويع والصدمة"، حرب تسلك مسارين متوازيين، أولهما؛ مسار الاغتيالات النوعية، الذي يحقق نجاحات مهمة بعد شهرين من الهدوء، كانت كافية على ما يبدو، لتحديث بيانات وإحداثيات "بنك الأهداف" الإسرائيلي...وثانيهما؛ مسار ترويع المواطنين بالقصف الجوي والبحري والبري، وإجبار مئات الألوف منهم على النزوح للمرة العاشرة على أقل تقدير منذ بداية الحرب، وسط تعهدات معلنة بالشروع في تنفيذ خطة ترامب لتهجير السكان، وإنشاء إدارة خاصة بإنجاز هذه المهمة تتبع وزارة الحرب، وأحاديث تصدر عن المستويين السياسي والعسكري بقضم القطاع وإخضاعه لحكم عسكري، دائم أو مؤقت.


بتنسيق تام بين حكومة نتنياهو وإدارة ترامب، تم إجهاض اتفاق وقف النار، الذي توسط لإنجازه فريق ترامب قبل دخوله البيت الأبيض، وقبلت به تل أبيب، وأبرمته حكومة نتنياهو، قبل أن ينقلب الحليفان الاستراتيجيان على الاتفاق، ويقطعا الطريق على مرحلته الثانية، ويشرعان في تحميل حماس المسؤولية عن انهياره، لندخل في واحدة من أبشع عمليات "الشيطنة"، تنخرط فيها إدارة ترامب بنشاط أكبر من حكومة نتنياهو، ويعاونها حشدٌ من "ذوي القربى" الذين جنّدوا أنفسهم لتحقيق الغاية ذاتها.


ثمة أطراف عربية ضالعة في ممارسة الضغوط على المقاومة، وبعضها منخرط بكثافة في استراتيجية "الشيطنة" وتحميل المقاومة وزر فشل الوساطة وعودة الحرب...هذا ليس بجديد، كثرة من الحكومات العربية، استمرأت الضغط على الفلسطينيين حينما تفقد القدرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي المتعنت، حدث ذلك زمن ياسر عرفات، ويحدث اليوم، وبقية القصة معروفة...أما الفاعلون في لعبة "الشيطنة"، فلديهم سجل حافل بالعداء لكل المقاومات بل ولكل حركات الإسلام السياسي، وهم يشهرون مواقف مؤيدة لمشروع ترامب التهجيري، والمصادر المتعددة تنقل عنهم في مجالسهم، استعجالهم تصفية حماس، بوصفها تهديداً مشتركاً، لهم ولـ"الحليف الإسرائيلي".


حتى الآن، لا شيء مفاجئاً فيما ذهبنا إليه، أو خارجاً عن مألوف توقعاتنا وتوقعات كثرة من المواطنين الفلسطينيين والعرب، فلدى كل واحدٍ منا ذاكرة طافحة بمواقف مماثلة، وفي محطات تاريخية مفصلية...كتب السير والتاريخ، والتحقيقات الاستقصائية، تكشفت عن فيض "النذالات"، التي من أسفِ، لم تعد تحرج أصحابها، بل ولا يجدون حاجة لنفيها أو توضيحها، كما كانوا يفعلون في غابر الأزمان.


على أن الجديد المؤسف والمحزن، أن تنضم جوقات من المناضلين الفلسطينيين (سابقاً) وكتاب وباحثون وإعلاميون، و"نشطاء مجتمع مدني" ممن استمرأوا "رغد العيش" بالمنح والتمويل المسموم، إلى واحدةٍ من أبشع عمليات الضغط والابتزاز للمقاومة وقيادتها، في غزة وخارجها، ودائماً بدعوى الحرص على وقف شلال الدم، واستنقاذ الأبرياء، وتفويت الفرصة، وتغليب المصلحة العامة، والتعامل بـ"واقعية سياسية" بعيداً عن الشعارات الطنّانة الفارغة.
هنا، يتعين علينا أن نَتنزّل بالتحليل، طبقة أو طبقتين في العمق، لسبر أغوار هؤلاء، والتعرف على دوافعهم ومبررات انضمامهم لحملات الشيطنة والابتزاز التي تتعرض لها المقاومة...فليس كل من صدر أو يصدر عن هذه المواقف، مفصّل من "القماشة" ذاتها.
منهم من هو "مشبوه"، تورط في لعبة التكيّف مع مُخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، وينشط في مطاردة المقاومة في الضفة وغزة وعموم المنطقة، لعبته المفضلة: المزيد من "التنسيق الأمني"...ومنهم، مهزومون، سكنتهم الهزيمة منذ الأيام الأولى لهذه "المنازلة"، وأخذوا في تسخيف فكرتي الصمود والمقاومة، واستعجلوا البلاء قبل وقوعه، غالبية هؤلاء غادروا قطاع غزة مبكراً، فلديهم من الموارد ما يكفي لتمويل إقامة مريحة في القاهرة أو غيرها من مدن الشتات...منهم من ضربتهم لوثة "العداء للإسلام السياسي والمسلح"، يخشونه ويتمنون له الخسران، حتى أمام عدو قومي اقتلاعي – همجي، لا هم قادرون على مقارعته في ساحات السياسة والانتخاب، ولا هم مستعدون لمجاراته في ميادين الحرب والقتال، استعلائيون لظنهم "الواهم" أنهم انصار الحداثة وما بعدها.
أما الفئة الرابعة، فهم مواطنون طيبون، يريدون الخلاص لغزة بأي ثمن، روّعتهم صور الإبادة والتطهير، الدماء والأشلاء، الخرائب والبحث اليائس عن لقمة عيش أو شربة ماء ... هؤلاء نفهم حرقتهم، ونحترم صيحاتهم، ونجد العذر لهم حتى وهم في ذروة القسوة في البوح عمّا يجول في قلوبهم وصدورهم، إنهم أهلنا وربعنا وناسنا.
مقترحات مسمومة


خلال الأسابيع القليلة الفائتة، تفشت في المقالات والتصريحات وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، عروضٌ مسمومة للمقاومة، دارت في معظمها حول مقترحات ثلاثة:


المقترح الأول؛ على حماس أن تسلم أمر قيادها للسلطة الفلسطينية، وأن تتأسى بما فعله حزب الله زمن التفاوض حول اتفاق 27 تشرين لوقف النار، حين أوكل للدولة اللبنانية أمر التفاوض مع الوسطاء، وصولاً لوقف المقتلة.
يتجاهل هؤلاء عن سبق الترصد والإصرار، جملة من الحقائق، أولها؛ أن لا "نبيه برّي" في سلطة رام الله، يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تضع في جيبه مفاتيح التفاوض والاتفاق...المفاوضات مع الوسطاء في لبنان، قادها ثاني اثنين في "الثنائي الشيعي"، ولم تُترك لأنصار اقتلاع المقاومة المبثوثين في الدولة والمجتمع اللبنانيين...صحيح أن ثمة ما يقال عن علاقة ملتبسة بين أمل بالحزب، وبرّي بحسن نصر الله، وصحيح أيضاً، أن ثمة ما قيل ويقال، عن سطحية "البعد المقاوم" في سلوك أمل ومواقفها، لكن الصحيح كذلك، أن ثمة "وحدة حال" بين الجانبين، أقله عندما يتصل الأمر بـ"العدو الخارجي" للطائفة، بخلاف الحال القائم في فلسطين.
ثانيها؛ أن ثمة في لبنان، ومن داخل البيئة الشيعية – السياسية الحاضنة للحزب، من وقع في إغراء المقارنة بين اتفاق 17 يناير الفلسطيني واتفاق 27 نوفمبر اللبناني، ثمّن الأول وانتقد الأخير لعواره ومثالبه، وفي ذلك غمز ولمز، من قناة المفاوض اللبناني حتى وهو ينتمي إلى البيئة والمرجعية ذاتها، وبصرف النظر عمّا إذا كانت الانتقادات قد صدرت لدوافع سياسية تحركها المنافسة على زعامة الطائفة، كما نُظِرَ إلى تصريحات اللواء جميل السيد، إلا أن "غواية" المقارنة، ظلت حاضرة بقوة...خلاصة القول: ما حكّ جلدك مثل ظفرك.
ثالثها؛ أن صيغة اتفاق 27 نوفمبر على ما فيه من تنازلات وعيوب، والذي أجازته الحكومة اللبنانية بحضور وزراء حزب الله وموافقتهم، وما تكشّف عن "اتفاق موازِ"، أمريكي – إسرائيلي، ينقض الأول، ويتخذ شكل "ورقة تفاهمات ثنائية"، لم يفضِ إلى التزام إسرائيل بمندرجات هذا الاتفاق، فهي ما تزال تسبيح لبنان، أرضاً وسماء ومياه إقليمية، وما زالت تقتل وتدمر وتغتال في طول البلاد وعرضها، وهي تمنع عودة النازحين إلى قرى الحافة الأمامية، وتتمسك باحتلالها لخمس قمم جبلية لبنانية حاكمة ومتحكمة، ضاربة عرض الحائط بالاتفاق واللجنة الخماسية المشرفة على تنفيذه، فيما "الأفق اللبناني" يبدو ملبداً بمشاريع تصفية الحزب وتجريده من سلاحه، وفرض أبشع أنواع الحصار المالي والاقتصادي عليه...أليس في مجريات ما بعد الاتفاق، درساً وعبرة؟ وهل بعد ذلك، تُلام المقاومة الفلسطينية على تمسكها بوقف نهائي للحرب وانسحاب شامل لقوات الاحتلال عن القطاع؟
المقترح الثاني؛ على حماس أن تسلم أمرها للجامعة العربية، وفي رواية أخرى، لدول عربية وازنة، لتتفاوض نيابة عنها، علماً بأن كثرة من القائلين بذلك، هم أنفسهم الذين سبق لهم أن "نعوا" الجامعة العربية بوصفها كياناً أكل الدهر عليه وشرب، لم يجلب نفعاً أو يدرأ ضُرّا...لم يستحضر هؤلاء تصريحات الأمين العام حول المقاومة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء تقليب صفحات كتاب "الحرب" لبوب وودوردز، لم تشغلهم مراجعة تاريخ حافل من الاستعداء للمقاومة الفلسطينية، زمن عرفات، وبالذات في صفحتها الإسلامية الأخيرة، ولا يجد هؤلاء حاجة لإقناعنا بأن القضية والمشروع الوطني والمقاومة، ستكون في إيدي أمينة، إن هي أودعت في الحضن الرسمي العربي...والمفارقة الغريبة العجيبة، أن بعض أصحاب هذا المقترح، هم من أشد المتحمسين لحكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، والمنافحين من فوق المنابر عن "القرار الوطني المستقل"
لم يَكفِ هؤلاء فصول العجز والتواطؤ، وأحياناً التآمر، التي تكشفت طيلة أشهر الطوفان الخمسة عشرة، لم يلتفتوا لإخفاق القمم العربية المنفردة، والعربية الإسلامية المزدوجة، في فتح معبر أو كسر حصار أو إدخال حبة دواء دون الموافقة الإسرائيلية المشروطة والمسبقة...نسي هؤلاء أو تناسوا، أن "المقتلة" ما كان لها أن تستمر، ولا أن تبلغ ذروة الدموية والبشاعة لولا هذا الخذلان العربي، وأن حرب التطهير والإبادة، ما كان لها أن تتطاول في الزمن والمدى، لولا هذا الهوان العربي، وأن كثرة من العرب الرسميين ينظرون للمقاومة بوصفها تهديداً قائماً، ولإسرائيل بوصفها "مشروع حليف" أو في أقل تقدير، "تهديد قابل للتحييد"... نسي هؤلاء أو تناسوا، أن ثمة ما يشبه التواطؤ العربي، المضمر أحياناً والصريح في بعض الأحيان، على تجريد المقاومة من "فضل" إلحاق أكبر هزة في تاريخ إسرائيل، حتى وإن كان الثمن، قتل وجرح 7 بالمئة من أهل القطاع ... نصر المقاومة، يرعبهم، فهو يؤسس لخيارات مستقبلية، ليس من بينها "خيارهم الاستراتيجي الوحيد"، الذي لم يجلب سلماً ولم يُعِد حقاً أو ينهِ احتلالاً.
ثالث هذه المقترحات؛ تلك التي تَعرِض على حماس الخروج من المشهد، والاختفاء من الصورة، من دون أن يبذل أصحابه جهداً من أي نوع للإجابة على سؤال: وأين تذهب الحركة؟ وماذا عن الجغرافيا العربية التي ضاقت بالفلسطينيين، حتى بأسراهم المحررين، من حماس وغيرها؟ ...وهل حماس حفنة من القيادات وبضع مئات من المقاتلين ليجري تنحيتهم عن المشهد وإخراجهم من الصورة؟ ألم تصلهم أقوال جنرالات إسرائيل ورؤساء حكوماتها السابقين، ومسؤولين أمريكيين، عن الحركة بوصفها "فكرة وإيديولوجيا" متجذرة في أوساط الشعب الفلسطيني، وإن إزالتها على الوجود، هي فكرة "طوباوية" لا أقدام لها لتسير عليها؟ ...ما الذي يقترحه هؤلاء، سيما ذاك النفر منهم، من النوع الذي "لا في العير ولها في النفير"، وفي أحسن حالاته، لا يمثل كسراً عشرياً من الشعب وبيئة المقاومة؟
ودعونا نستحضر صفحة من تاريخ المقاومة الفلسطينية، في العام 1982، بعد خروجها من لبنان الاجتياح وبيروت الحصار، بحماية دولية (أمريكية – فرنسية)، إثر اتفاق توسط لإنجازه فيليب حبيب في حينه...يومها كانت الجغرافيا العربية ما زالت قادرة على احتمال الشتات الفلسطيني المقاوم، انتقلت القيادة إلى تونس وتوزع المقاتلون في عدة دول عربية...فهل إعادة انتاج هذا المشهد، يبدو أمراً محتملاً وممكناً في الشرط العربي الراهن؟
ثم، لم يكن قد مضى اسبوعان على "ركوب البحر"، وخروج المقاتلين، حتى شهد مخيم صبرا وشاتيلا واحدة من أبشع المجازر في تاريخ الحروب العربية البينية، أو الحروب العربية – الإسرائيلية، فهل لدى دعاة اختفاء المقاومة اليوم، ضمانة بأن إسرائيل لن تعيد انتاج سيناريو المذبحة في غزة، على نطاق أوسع وأبشع مما حصل في مخيمات لبنان، ومن دون ثمن تدفعه؟ ...هل يعتقدون أن المقتلة التي وقعت حتى الآن، هي نهاية مطاف الإجرام الإسرائيلي، أم أن الشهية الإسرائيلية للدم الفلسطيني، لا يصح في وصفها سوى وصف جهنم التي نقول لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد؟
تعكس هذه المقاربة، سذاجة بريئة حيناً ومشبوهة في غالب الأحيان، تركن إلى نيّات والتزامات عدو أثبت للمرة المليون، بأنه لا يحفظ عهداً ولا يلتزم باتفاق، وأن نواياه التهجيرية الطافحة، ستدفعه لفعل ما لم يفعله حتى اليوم، وأن البيئة الدولية التي تسمح له بالإفلات من العقاب، ستجعل من جرائم الهوتو والتوتسي نزهة قصيرة، قياساً بما يمكن أن يفعله بغزة وأهلها ومقاومتها.
وأخيراً، لا يكتمل هذا المقال، من دون الإشارة إلى ظاهرة "الحكماء بأثر رجعي"، الذين يُخرِجون ألسنتهم اليوم مرددين المقولة الأثيرة على قلوبهم: ألم نقل لكم؟ ...أما كان يتعين عليكم أن تحسبوا حساباً لكل شاردة وواردة قبل الشروع في مقامرة السابع من أكتوبر؟ ...ألستم تتشاطرون مع إسرائيل المسؤولية عمّا حل بشعبكم من نكبة متجددة؟ ...مشكلة هؤلاء، ليس في ادعاءاتهم الزائفة والسخيفة فحسب، بل في الخدمات المجانية الجليلة التي يقدمونها لعدو شعبهم وأمتهم، من حيث يدرون أو لا يدرون.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)