- ℃ 11 تركيا
- 15 نوفمبر 2024
صادق الطائي يكتب: عصا القضاء الغليظة في العراق
صادق الطائي يكتب: عصا القضاء الغليظة في العراق
- 6 يونيو 2022, 4:13:24 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الكلام عن القضاء العراقي حديث ذو شجون، إذ لم يحض القضاء في هذا البلد باستقلالية حقيقية منذ نشأته في عهد الدولة الحديثة التي تأسست عام 1921، بالرغم من كون بدايات السلطة القضائية عند تأسيس المملكة العراقية كانت تشي بسيرورة تحمل بذرة جنينية لفكرة فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية، إلا أن هذا الأمر مر بأزمات عسيرة جعلت المؤسسة القضائية تنحني أمام ضغوط السلطة التنفيذية والقصر الملكي وتصدر أحكاما مسيسة بدرجة ما، كما حصل في الأحكام التي صدرت بحق الناشطين السياسيين إبان تصاعد التوتر السياسي في عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
ومنذ إطاحة النظام الملكي ومجيء حكومات ذات (شرعية ثورية) ارتدى القضاء العراقي لباسا سياسيا متماهيا بامتياز مع السلطة التنفيذية، حتى أصبحت المنظومة القضائية في عهد الدولة الشمولية تلعب دور اليد الغليظة التي تطبق أحكاما سياسية جائرة بحق كل مواطن يعارض أو ينتقد أو حتى يشك بولائه للنظام.
بعد 2003، ورسم مسار عراق ما بعد الدكتاتورية، كان للقضاء حصته من الإصلاح، لكن يبدو أن هذا الأمر كان، كحال كل الأمور الأخرى، حبرا على ورق. وهنا تجدر الإشارة الى نقطة مهمة هي قيام نظام السياسي في عراق ما بعد 2003 وفق النموذج اللبناني، الذي شهد ولادة اصطلاحات في الحياة السياسية مثل: المكونات، والديمقراطية التوافقية، والعرف السياسي، الذي أصبح أشد مضاء من أحكام الدستور. ووفقا للعرف السياسي تم تقاسم السلطتين التنفيذية والتشريعية بين المكونات الثلاثة (شيعة، سنة، كرد) وسقط من التقاسم السلطة القضائية، والسبب كما أعتقد هو عملية النسخ واللصق التي تم عبرها نقل التجربة اللبنانية الى العراق، وبما إن السلطة القضائية في لبنان غائبة عن التقاسم بين الفرقاء السياسيين، لذا حذونا في العراق حذوهم، وأسقطت تفاصيل رسم حدود وآليات السلطة القضائية حتى في الدستور.
في الدستور العراقي النافذ يمكننا الاطلاع على آلية اختيار مجالس الرئاسات الثلاثة، فهي واضحة الى حد كبير، لكننا نفاجأ عندما نصل الى الفصل الثالث من السلطات في الدستور، والمخصص للسلطة القضائية إذ نجد الكثير من التفاصيل غائمة، مثال ذلك: لم تحدد آلية انتخاب رئيس مجلس القضاء، الذي يمثل رأس السلطة القضائية، وقد جاء الأمر عرضا في الإشارة الى أن انتخاب رئيس السلطة القضائية يتم من قبل الهيئات القضائية. ولم تحدد مدة شغل المعني سدة رئاسة السلطة القضائية فهل هي دورتان كما هو حال الرئاسات الاخرى؟ أم يسمح لرئيس السلطة القضائية الاستمرار في منصبه لعدد غير محدد من الدورات؟ هذا ما غفله الدستور، وأشار الى أنه سينظم بقانون.
نتيجة هذا التشوش لا يعرف أحد المكون الذي ينتسب له رئيس المحكمة الاتحادية العليا السابق القاضي مدحت المحمود، أو خلفه فائق زيدان، لأن رأس السلطة القضائية لم يبت في حصة مكون ما، لذلك بقي المحمود متربعا على كرسي رئاسة السلطة القضائية منذ 2005 حتى آذار /مارس 2021، إذ شغل مدحت المحمود (85 عاماً) منصب رئيس المحكمة الاتحادية، الذي أقر تحت سلطة الاحتلال الأمريكي ورئاسة إياد علاوي للحكومة العراقية المؤقتة آنذاك. وعُيّن المحمود بعد احتلال العراق عام 2003، بنحو 3 أشهر في منصب رئيس محكمة التمييز، ومن ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى. لكن مع استمرار سلطة الاحتلال المؤقتة بإصدار أوامرها خلال المرحلتين المؤقتة والانتقالية، تم تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا، على أن يكون رئيسها هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو ما جعل المحمود يتسلم المنصب بشكل تلقائي عام 2005 ونتيجة غياب آلية واضحة لاختيار رئيس السلطة القضائية وجدنا أنفسنا أمام رئيسين هما قاضيان عملا لسنوات طويلة في منظومة قضاء الدولة الشمولية.
وحتى بعد إصدار قانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017، لم يتم وضع سياقات واضحة لانتخاب رئيس السلطة القضائية، إنما تعامل القانون مع الأمر كمحصلة حاصل عندما أشار الى: «يتألف مجلس القضاء الأعلى من رئيس محكمة التمييز الاتحادية – رئيسا، ونواب رئيس محكمة التمييز الاتحادية – أعضاءً ورئيس الادعاء العام – عضوا، ورئيس هيئة الإشراف القضائي- عضوا، ورؤساء محاكم الاستئناف الاتحادية – أعضاءً، ورؤساء مجالس القضاء في الأقاليم – أعضاءً». هذه التركيبة المغلقة من القضاة هم من يختارون رئيس السلطة القضائية، الذي يرأس مجلسا أولى مهامه ترشيح رئيس محكمة التمييز (الذي هو في نفس الوقت رئيس مجلس القضاء) ونوابه، وإرسال الأسماء للبرلمان للمصادقة عليها، إذا نحن إزاء دوامات من آليات غير واضحة الماهية.
نعود لشخصية رئيس السلطة القضائية السجالية، إذ عمل مدحت المحمود (مواليد بغداد 1936) قاضيا في العراق منذ عام 1968 في ظل نظام قضائي لم يحض بالاستقلالية، وكان نظاما منتهكا وتابعا بشكل واضح للسلطة التنفيذية، وخادما لسلطة الحزب الحاكم، ومن ثم تحول للخدمة لسلطة الدكتاتور بشكل واضح ولا لبس فيه، ويمكننا الاستدلال عليه من تصريحات الدكتاتور نفسه الذي وصف القانون في إحدى خطبه المتلفزة بأنه عبارة عن قصاصة ورق، أكتب عليها أمرا وأذيله بتوقيعي فيصبح قانونا نافذا.
المحمود القادم من أربعين سنة في خدمة القضاء المسيس وفر لحكومات ما بعد 2005 قوانين مسيسة بامتياز، وأدخل السلطة القضائية في مآزق عدة عبر تفسير فقرات الدستور الإشكالية تفسيرات تصب في مصلحة كتل سياسية ممسكة بالسلطة التنفيذية، والكل يذكر أزمات تشكيل الحكومات بعد الدورات الانتخابية في 2010 ، و2014، و2018 وما انتابها من أزمات نتيجة تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا لنصوص الدستور.
وفقا للعرف السياسي تم تقاسم السلطتين التنفيذية والتشريعية بين المكونات الثلاثة (شيعة، سنة، كرد) وسقط من التقاسم السلطة القضائية
ويبدو إن القاضي فائق زيدان سائر على خطى سلفه، فإذا تم استفتاء المحكمة الاتحادية عن مادة دستورية نجد التسييس واضحا في رد المحكمة، كما أن استخدام السلطة التنفيذية سطوتها على القضاء تجلت في إصدار مذكرات اعتقال تستخدم كأوراق ضغط في اللعبة السياسية، حتى بات الأمر ظاهرة واضحة في تعامل القضاء العراقي غير المستقل مع تنفيذ القوانين.
هذه النقاط اثارها الكاتب الصحافي سرمد الطائي في برنامج بثته «قناة العراقية» الحكومية، وقد انتقد الطائي السلطة القضائية، كما وجه الانتقاد لمرجعيات دينية غير عراقية، مما اعتبره البعض تجاوزا للخطوط الحمراء، فما كان من السلطة القضائية (وهي الخصم والحكم) إلا أن تصدر مذكرة اعتقال بحق سرمد الطائي، ومن جانب آخر ضغط فائق زيدان على مجلس أمناء شبكة الإعلام العراقي التي قامت بإلغاء البرنامج التلفزيوني الذي أثار الضجة الأخيرة من خارطة البث في «قناة العراقية» كما أصدرت هيئة الأمناء أمرا لكل القنوات العراقية بمنع استضافة سرمد الطائي في برامجها، وإلا ستعرض نفسها للعقوبة.
هنا بدا استخدام الترهيب واضحا في تعاطي السلطة القضائية مع كاتب صحافي قال رأيه في أداء السلطة القضائية دون تجريح أو مساس بشخص رئيس مجلس القضاء العراقي. والمفارقة المضحكة أن رئيس السلطة القضائية اعتمد في مذكرة الاعتقال التي أصدرها بحق الصحافي على أحد قوانين الحقبة الشمولية. إذ نصت المذكرة التي أصدرتها رئاسة محكمة استئناف بغداد /الكرخ على : «اتخاذ الإجراءات القانونية بحق الإعلامي سرمد عبد الستار عبد الله معتوق الطائي الذي ارتكب جريمة تنطبق وأحكام المادة 226 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 لتعمده إهانة السلطة القضائية في برنامج (المحايد)» .
وهذه المادة من قانون العقوبات القديم هي من مخلفات العهد الشمولي التي أبقتها السلطة القضائية الحالية لتكون سيفا مصلتا على رقبة من يريد أن يقول رأيا، أو ينتقد أداء الطبقة السياسية، إذ تنص المادة على:» يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات، أو بالحبس أو الغرامة من أهان مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية».
مع الضجة الأخيرة الكل في العراق بات يتساءل عن صمت السلطة القضائية على خروقات الدستور المتمثلة في الفشل في تشكيل الحكومة منذ إتمام الانتخابات الأخيرة قبل سبعة أشهر، بينما يسارع مجلس القضاء الأعلى لإصدار أمر اعتقال بحق صحافي انتقد أداء السلطة القضائية في اليوم الثاني. إننا حقا إزاء حلقة من الوضع المضحك المبكي في العراق الحزين.
كاتب عراقي