- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
صادق الطائي يكتب: اغتيال شيرين يكشف عورة تفكيرنا
صادق الطائي يكتب: اغتيال شيرين يكشف عورة تفكيرنا
- 16 مايو 2022, 5:31:45 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تداعيات اغتيال مراسلة قناة «الجزيرة» شيرين أبو عاقلة برصاص الجنود الإسرائيليين مثّل نوعا من كشف العوار والخزي الذي يسود نمط تفكيرنا، ونحن نعيش في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. مراسلة تلفزيونية ترتدي خوذة ودرعا للحماية من الرصاص، كتب عليه بوضوح كلمة صحافة باللغة الإنكليزية، تقوم بعملها الخطر المتمثل بتغطية هجوم الجيش الإسرائيلي على مخيم جنين في الضفة الغربية، فيستهدف جندي صهيوني الصحافية برصاصة ترديها في الحال، ويصاب زميلها برصاصة في الظهر، وينقل إلى المستشفى وهو بحالة خطيرة، كل هذا تم أمام كاميرات غطت الحدث، لكننا تركنا الأمر الجلل وانحدرنا في نقاشات عقيمة مستخدمين نظريات مؤامرة، أو نصوصا دينية لتقييم ما حدث، أي خبل هذ؟ وأي عوار في نمط تفكيرنا الذي كشفه اغتيال أبو عاقلة.
شيرين أبو عاقلة، الصحافية الفلسطينية التي قتلت أثناء تغطيتها عملية أمنية للجيش الإسرائيلي صحافية مخضرمة، كانت من أوئل الوجوه التي ظهرت على شاشة قناة «الجزيرة» الفضائية عند انطلاقها، معروفة بإقدامها وسعة اطلاعها على النزاع الإسرائيلي العربي.
ولدت أبو عاقلة عام 1971 في مدينة القدس، وهي تحمل الجنسية الأمريكية بالإضافة لجنسيتها الفلسطينية، وتتحدر عائلتها من مدينة بيت لحم. درست الصحافة في جامعة اليرموك في الأردن، وعملت في الإذاعة الرسمية الفلسطينية «صوت فلسطين» وإذاعة مونتي كارلو، قبل أن تنضم عام 1997 إلى «الجزيرة» بعد سنة واحدة من انطلاقها، وسرعان ما أصبحت نجمة في قناة «الجزيرة». مع تغريدة السفير الأمريكي في إسرائيل توم نيدز، التي قال فيها: «محزن جدا علمنا بوفاة الصحافية الأمريكية والفلسطينية شيرين أبو عاقلة» ودعا نيدز إلى «إجراء تحقيق شامل في ملابسات مقتل شيرين أبو عاقلة وإصابة صحافي آخر» انطلقت التخرصات المتهافتة التي تناقلها البعض حول اغتيال أبو عاقلة، مفادها أن الضجة التي أثيرت (بشكل مبالغ فيه) يرجع لكون المغدورة تحمل الجنسية الامريكية، وجاء هذا الكلام ببعض التباكيات المكرورة مثل (كل يوم يُقتل شباب برصاص الاحتلال الإسرائيلي، فلماذا تثار كل هذه الضجة على مقتل أبو عاقلة اليوم بهذا الشكل المبالغ به، ألأنها أمريكية؟) وهذا الكلام بادي التهافت، لأن كل الدماء غالية، ولها قيمة كبيرة، لكن مقتل صحافي معروف، ونجم تلفزيوني أثناء تغطيته الأحداث يُعد قصة خبرية كبرى تحظى بتغطية واهتمام كبيرين، وبالتأكيد لا علاقة للأمر بجنسية أبو عاقلة.
كل شهود العيان والأشرطة المصورة لحادث الاغتيال بينت بوضوح عدم وجود مسلحين فلسطينيين، بل عدم وجود حتى راشقي الحجارة في منطقة الحدث
رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، صرح بعد الحادث بأن «فلسطينيين مسلحين يتحمّلون على الأرجح مسؤولية مقتل أبو عاقلة» وأضاف بينيت في بيان «وفقا للمعلومات التي جمعناها، يبدو على الأرجح أن فلسطينيين مسلحين كانوا يطلقون النار بشكل عشوائي حينها، يتحملون مسؤولية الوفاة المؤسفة للصحافية» التي كانت تغطي عملية عسكرية في مخيم جنين. كما صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، في تغريدة بقوله: «عرضنا على الفلسطينيين إجراء تحقيق مشترك» في وفاة أبو عاقلة. لكن بعض المأجورين من أصحاب المواقف الغريبة العصية على الفهم، التي تتمثل بالتطابق غير المشروط مع الموقف الإسرائيلي الرسمي، كان لهم رأي بدوا فيه إسرائيليين أكثر من الحكومة الإسرائيلية نفسها، إذ نقل بعض (الناشطين) تصريح الدكتور ريان العلي مدير معهد الطب العدلي في جامعة النجاح الفلسطينية بعد أن حرفوه ليصرحوا بـ»لا يمكن تحديد المسؤول عن مقتل شيرين أبو عاقلة قبل إجراء تحقيق كامل» علما أن كل شهود العيان والأشرطة المصورة لحادث الاغتيال بينت بوضوح عدم وجود مسلحين فلسطينيين، بل حتى عدم وجود حتى راشقي الحجارة في منطقة الحدث، وهذا الرأي المبرر للجريمة الإسرائيلية تقابله وفي المنطق نفسه آراء بعض السياسيين العراقيين الذين صرحوا بعدم تعاطفهم مع اغتيال شيرين أبو عاقلة فقط لانها تعمل في قناة تتقاطع مع توجهاتهم السياسية.
أما ثالث المحاور وهو الأبرز والأكثر صدى على منصات التواصل الاجتماعي، فكان مناقشة جواز الترحم على غير المسلم، وإن شيرين أبو عاقلة مسيحية، وبذلك لا يجوز نعتها بأنها شهيدة. وأصحاب هذا الرأي تركوا الجريمة، أو مروا بها سريعا ليصلوا إلى إصدار حكم متهافت إنسانيا ومنطقيا مفاده، أن شيرين اغتيلت لكن لا يجوز حتلى أن نطلب لها الرحمة! فقد كتبت صحافية معروفة رأيها في ما حصل لزميلتها في مهنة المتاعب فقالت: («إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما» لا يجوز الدعاء بالرحمة لغير المسلم حتى لو قتل في سبيل وطنه، وينبغي أيضا عدم إطلاق اسم شهيد عليه ولو مات دفاعا عن أرضه بنيران عدو مشترك.. والله أعلم). حضرة الكاتبة التي تحولت فجأة إلى مفتٍ يحسم الأمر بجرة قلم، وألقت تغريدتها المسمومة في الفضاء الافتراضي لتتفاعل بشكل مجنون مع شبيهاتها من تصريحات الجهات السلفية متحجرة التفكير. بعض السلفيين القريبين من الفكر التكفيري والمروجين لهذا النمط من التعاطي غير العقلاني مع الأحداث، اعتمدوا فتوى الفقيه الراديكالي ابن تيمية الذي كفر غير المسلمين من اليهود والمسيحيين، وأحل دمهم. مثال ذلك جهة تطلق على نفسها اسم (قناة التوحيد والسنة الدعوية) التي تصدت لحادث اغتيال أبو عاقلة فنشرت على صفحتها الرسمية: «تنبيه مهم للمسلمين.. بعد وفاة الصحافية شيرين أبو عاقلة رأيت الكثير من المسلمين يترحمون عليها، وهذا لقلة علمهم بدين الله تعالى.. نُذكّر إخواننا المسلمين أن التّرحم على من مات نصرانيا لا يجوز ولا يحِل لنا الترحم عليه والدعاء له بالمغفرة، وهذا بإجماع علماء المسلمين وليس فيه خلاف. قال الله تعالى «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ» (سورة التوبة آية 113).
بالمناسبة المتحدثون في هذا الشق من تناول قضية اغتيال الصحافية الفلسطينية ليسوا أفرادا يمكن إهمال قولهم، بل يمكن وصف ما حدث بأنه تيار له مناصروه الذين تمسكوا بفتوى ابن تيمية وتناسوا الحديث النبوي المتفق عليه الذي يقول: «مرت جنازة، فقام لها النبي (ص) فقال له أصحابه: هذه ليهودي. فقال: أليست نفسا؟» وقيامه عليه السلام لجنازة – أيا كان صاحبها – تعبير عن الاحترام لمقام الموت وللنفس البشرية. أحد اكثر المنشورات على منصات التواصل الذي انتشر وأعيد نشره كثيرا حمل هذه الفكرة الشاذة بوضوح بقوله: «صحافيّة ومراسلة حرّة.. نعم، لكنها ليست مسلمة.. ضحيّة ومظلومة..نعم، لكنها ليست شهيدة، نحزن لفقدها ونتأثر لاغتيالها على أيدي أرذل البشر.. نعم، لكننا لا ندعو لها بالرحمة، لأنها ماتت على غير الإسلام وقد نهانا الشرع.. بشاعة الجريمة لا تنسينا الثوابت العقدية».
وختاما لا يمكن أن نختصر القصة بأفضل من كلمات الصحافية العراقية العتيدة الدكتورة سلوى زكو التي كتبت على صفحتها في فيسبوك: «شيرين ابو عاقلة قتلها الإسرائيليون، هذه هي الحقيقة الوحيدة. أما الجدل حول ما إذا كانت شهيدة أم لا؟ تدخل الجنة أم لا تدخلها؟ تستحق الدعاء والترحم على روحها أم لا تستحق؟ فهذا شغل جيوش إلكترونية تريد أن تبعد الأنظار عن الجريمة». شيرين ابو عاقلة، أيتها الصحافية الشجاعة لك الرحمة من رب غفور وسعت رحمته كل شيء، رب لا يأبه بتخرصات كل مدعي وكالته في الأرض.
كاتب عراقي