- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
شي جين بينج.. قصة أقوى زعيم صيني منذ عهد ماو تسي تونج
شي جين بينج.. قصة أقوى زعيم صيني منذ عهد ماو تسي تونج
- 12 يناير 2023, 8:35:13 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شهدت الصين أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي بنسخته الـ20، والذي يُقرِّر فيه مصير الحكم بالبلاد السنوات الخمس القادمة. استعرض فيه الرئيس الصيني شي جين بينج قوته بمشهدٍ يُخالف الأعراف، عندما أخرج سلفه الرئيس هو جينتاو من المؤتمر، مظهرًا قدرته على إقصاء الكبار في الحزب.
لم يكن ذلك أول خرق لشي للأعراف المعتبرة في الصين، فقد غير الدستور ليسمح له بفترة ثالثة، وحاكم أعضاء ذوي رتبة عالية في الحزب رغم الحصانة، وأفرغ اللجنة الدائمة من عضوية أي كادر ليس من أنصاره ومقربيه، اللجنة التي هي أعلى هيئات الحكم في الحزب، وكانت دائمًا معبرة عن جميع التيارات المختلفة في الحزب.
كل هذه الأمور تجعل من شي جين بينج أقوى من حكم الصين منذ مؤسس الصين الحديثة ماو تسي تونج. فمن هو شي جين بينج؟ وفي أي بيئة تكونت شخصيته؟ وما الطريق التي سلكها ليصبح أحد أقوى رجال العالم؟
من الإمارة إلى الكهوف
تعود الأحداث التاريخية التي شكلت شخصية شي إلى 18 عامًا قبل ولادته، وتحديدًا عند والده شي هونج شون، الذي كان أحد قيادات الحزب الشيوعي الصيني البارزين في الحرب الأهلية قبل تسلم الحزب السلطة، والذي يعد من القيادات المؤسسة للصين الحديثة.
في عام 1935، اتهم والد شي بضعف ولائه للحزب، وحكم عليه بالدفن حيًّا، وكانت هذه موجة التطهير الأولى التي سيشهدها الأب. ولكنَّ ماو تسي تونج تدخل لوقف تنفيذ الحكم، مفرجًا عنه وعن رفاقه.
ولكنَّ وصمة ضعف الولاء ظلَّت تلاحق والد شي ورفاقه، وجعلهم في مراتب دُنيا حتى مطلع الأربعينيات، عندما أصدر ماو تسي تونج قرارًا بإنهاء هذا الحُكم عن المجموعة، بل قربهم ليصبح تيارهم القيادة الفعلية للحزب الشيوعي في منطقة الشمال الغربي للصين.
مع مطلع الخمسينيات وبسبب خلافات داخلية، أخرج ماو تسي تونج أعلى شخص من هذا التيار من سدة القيادة، وبسبب علاقته مع رئيس هذا التيار، أجبر والد شي على تقديم نقد ذاتي لمواقف سابقة له. وأُجريت عملية النقد الذاتي بإشراف دنج شياو بينج الذي سيترأس الصين لاحقًا، والذي ينسب إليه فضل الانفتاح الصيني، والمعجزة الاقتصادية، وتجاوز الإرث الماوي.
ولحق التطهير بقية هذا التيار مع نهاية الخمسينيات، وبقيت وصمة ارتباط والد شي بهذا التيار، لكن استمر صعوده بالمراتب الحزبية حتى أصبح أحد نواب رئيس الوزراء الصيني.
في عام 1953، ولد شي ووالده من أهم رجال الدولة، مُفضلًا عن ملايين الصينيين الفقراء، ويوصف شي وأمثاله عادةً بـ«الأمراء – Princelings»، المحظوظين بسبب ولادتهم لعوائل متنفذة.
شي هونغ شون في ضيافة الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس
وقبل بلوغ شي سن العاشرة، جرى تطهير والده من قيادة الحزب، وكانت القيادة الماوية ترى في نخب الحزب المطهرة خطرًا يمينيًّا، وإمكانية لتحول هذه النخب وعائلاتهم إلى برجوازية تطيح الشيوعية الناشئة، ومن ثم كان الحل للتعامل مع هذه النخب هو نفيهم للأرياف الصينية، وإجبارهم على العمل بين عموم الشعب، ما يعني وفق المنطق الماوي تطهير هؤلاء من انحرافاتهم الأيديولوجية عن طريق تغيير واقعهم المادي؛ من حياة النخبة إلى الواقع الشعبي المرير، ليفهموا مصالح الناس وينصهروا بها.
لم يقتصر الأمر على الآباء، بل لحق الأمر شي نفسه عندما بلغ عمره 15 عامًا فخرج من بكين إلى إحدى قرى شمال غرب الصين، حيث تنقل الرواية الرسمية نومه في أحد الكهوف، وعمله مع المزارعين. وفي هذا قال شي نفسه لاحقًا أنه كان يُقيَّم بداية وصوله بتقييم سيئ جدًّا بصفته عاملًا، بل بتقييم أقل من تقييم النساء، وذلك طبيعي لمن لم يكن معتادًا بعد على العمل وبذل الجهد، بل كان قبل سنوات قليلة ابنًا لأحد أبرز قياديي البلاد.
حاول شي الحصول على عضوية الحزب مبكرًا، ولكنه رُفض مرارًا بسبب خلفيته العائلية، وكونه ابن أحد المطهرين في تلك الفترة، ولكنه نجح نهاية بإقناع هيئات الحزب المحلية بضمه لعضوية الحزب، وبدأ عمله من أدنى مراتبه، فالأمير السابق يحتاج اليوم لإثبات ولائه للحزب، وفصل نفسه عن خلفيته العائلية.
يذكر شي هذه الفترة من حياته جيدًا، ويشير إليها كثيرًا بوصفها نقطة تحول وبدء حياة جديدة، وتشبه الرواية الرسمية هذه الفترة بوصف أسطورة أعيد تشكلها ليصبح شي الرئيس الخادم للشعب، ويستذكر تلك الفترة من عمره في القرية الفقيرة، ويقول إن هدفه أصبح منصبًّا على توفير المزيد من اللحم لأهل هذه القرية، وغيرهم ممن يعيش حياة مشابهة.
بينما يقرأ آخرون هذه الفترة من حياة شي بصورة مختلفة تمامًا، فهم يرون أنه تعلم في هذه الفترة بطريقة دفاعية أن ينجو بنفسه عن طريق التعمق أكثر في خدمة الحزب، واعتناق مبادئه وإثبات ولائه، وأصبح يعمد إلى أن يكون «ملكيًّا أكثر من الملك»، أو «أكثر حمرة من الحُمر»، في إشارة إلى رمزية اللون الأحمر على الشيوعية والثورية الجذرية.
وأصبحت هذه الصورة معتمدة لدى الغرب في تفسير شخصية شي، فالإعلام الغربي كان يأمل في أن يكون شي الأكثر ليبرالية وانفتاحًا مقارنة بمن سبقه نظرًا إلى تجربته الخاصة مع تركيز السلطة والعزلة عن العالم الخارجي، ولكون والده من دعاة الانفتاح والإصلاحات السياسية والاقتصادية، وهو من عانى شخصيًّا بسبب كل ذلك، ولكن شي منذ أعوامه الأولى أظهر خطًّا مخالفًا لهذه التحليلات؛ ما جعل تعديل التحليل أمرًا ضروريًّا.
استمر شي بعيدًا عن أهله شمال غرب الصين، محاولًا إثبات نفسه في الهيئات المحلية، ومترقيًا في المناصب الدنيا من موقعه الجغرافي البعيد عن المراكز الأكبر في بكين وشانجهاي، ولكن أكثر ما كان يعوقه انتهى بموت ماو عام 1976، لينتهي بذلك تطهير كثير من القيادات السابقين في الحزب الشيوعي، ويعاد تأهيلهم وضمهم لصفوف الحزب، بل صعود كثير منهم لقيادة الحزب.
عودة الأمير
في عام 1978 عاد شي هونج شون والد شي للحياة السياسية مجددًا، بعد تعيينه محافظًا لمقاطعة جوانجدونج على يد دينج شياو بينج، وبعدها بعام أنهى شي دراسته في إحدى جامعات بكين، والتي استطاع دخولها بسبب العلاقات السياسية العائلية كما تقول صحيفة «الجارديان»؛ رغم أن بدء دراسته كان عام 1975، أي قبل عام من موت ماو، وفي وقتٍ كان والده ما زال منفيًّا وتسري عليه أحكام التطهير الماوية.
بدأ شي حياته السياسية بعد التخرج مساعدًا لأحد معارف والده، وهو قائد عسكري مهدَ لشي شبكة علاقات داخل الجيش الصيني، ولكن بعد سنوات قليلة قرر شي الخروج من العاصمة ليعمل في مقاطعة خبي الشمالية، والتي يعد العمل فيها تخليًا عن إمكانيات الترقي الأفضل في العاصمة، أو في المقاطعات الساحلية الشرقية الأكثر غنى وقوة سياسيًّا، ربما لإبعاد شبهات العلاقات العائلية عن نفسه.
حاول شي الترقي بطريقة طبيعية في الشمال الأفقر، ولكن بعده عن علاقات والده، وتحيز القيادة الحزبية في خبي ضد الآتين من المركز منعه من ذلك، واضطر للانتقال إلى مقاطعة فوجيان الساحلية الشمالية، بالقرب من أحد أصدقاء والده الذي كان سكرتير الحزب في المقاطعة، وبدأ حينها مراحل ترقيه الأهم، واكتسابه الخبرات الإدارية في مقاطعات الصين الأهم والأكثر قوة وغنى.
كيف تسخن القدر دون أن يغلي الماء؟
في مادة صحيفة «ذا نيو يوركر» الموسعة عن حياة شي جين بينج نقل من الرئيس عن نفسه عام 1989: «مقاربتي هي أن أسخن الماء بنار منخفضة الحرارة ولكنها مستمرة، مع الاستمرار في سكب ماء بارد في القدر، وذلك لمنع الماء من الغليان»، وهذه المقولة تعبر عن صعود شي الحثيث على سلم القيادة في الحزب الشيوعي الصيني، وتجنبه لما يمكن له إعاقة هذا الصعود.
انتقل شي من مقاطعة خبي إلى فوجيان عام 1985، ليبني خبرته في الإدارة، ويصعد تدريجيًّا في المراتب مستفيدًا من قربه من والده، ومن علاقات العائلة داخل الحزب؛ ولكن على خلاف والده ظل بعيدًا عن الآراء المثيرة للجدل والخلافية وقريبًا من خط الحزب.
وكان والده قد عاد لدخول معارك مع التيارات الأكثر تشددًا وجذرية داخل الحزب، ودفعه نحو الانفتاح والإصلاح الاقتصادي بشكل أكبر، والذي كلفه نهاية حياته السياسية أخيرًا، أما شي فقد بدأت حياته السياسية في الزمان الذي انتهت فيها حياة والده؛ فأصبح حاكمًا لمقاطعة فوجيان عام 2000.
لا تتوافر بيانات كثيرة عن حياة شي في كثير من مراحلها. وذلك راجع لأمرين؛ الأول طبيعته البعيدة عن الأضواء في كثير من المراحل، بل إن زوجته المغنية المشهورة في الصين كانت أكثر شهرة منه في أغلب حياته. كما أن وصوله إلى السلطة جعلت معرفتنا عن حياته عرضة للصورة التي يرغب الحزب الشيوعي الصيني في تقديمها.
عُرف شي داخل الصين «بنظافة يده» وفقًا لما صرح به مسؤول صيني للسفير الأمريكي في بكين، وخصوصًا مع رفضه للرشوة في فترة حكمه لفوجيان، لكن ذلك لم يمنع من ربط اسم شي بالفساد، فإحدى أضخم فضائح الفساد في تاريخ الصين انفجرت أخبارها في فترة صعوده في حكم فوجيان، وهي فضيحة «مجموعة يوانهوا».
حوكم المسؤولون البارزون في هذه القضية، مع القائمين على المجموعة الذين رشوا المسؤولين الحكوميين؛ ورغم أن اسم شي لم يُربط مباشرة بالمجموعة ونشاطاتها فإنَّ المجموعة استمرت بعملها في التهريب، وجني الأموال الطائلة التي حولت قائد المجموعة من فقير إلى ملياردير في ظل عهد حكمه وعمله في المقاطعة.
استدعي شي لبكين في إطار تحقيقات الحزب في الواقعة، وظلت أحداثها علامة سوداء في ملفه لوقت لاحق، وربما كانت أحد أسباب ودوافع شي في حملاته القوية ضد الفساد، ولكن دون أن يفقد قدرته على اللعب بشكل دبلوماسي، وذلك لكسب النقاط من جميع الجهات.
بعد فوجيان حقق شي نجاحًا لافتًا في جيجيانج، وبدأ تكوين شبكات علاقاته الواسعة مع مسؤولين أعلى منه، وفي الوقت نفسه مع مسؤولين تحته يضمن ولاءهم في ظله، وسيستفيد شي لاحقًا من العلاقات والولاءات التي كونها في كل من جيجيانج وشانجهاي.
وبحلول عام 2007 كان شي قد تمكن من تجاوز ذكرى حادثة فوجيان، واختير لتولي الأمور في شنجهاي بعد فضيحة فساد متعلقة بمسؤول سياسي من تيار الرئيس الصيني السابق جيانج زيمين، والذي كان حينها ما يزال من أصحاب التأثير الكبير في السياسة الصينية، وهنا استطاع شي إظهار براعته السياسية في اللعب على أكثر من حبل.
أبدى شي حزمًا شديدًا في محاربة الفساد في شنجهاي، وكان بإمكانه أن يحصد التأييد والإعجاب الشعبي دون مناورات سياسية، ولكنه قرر أن يتعامل بحزم مع الفساد في شنجهاي في الوقت نفسه الذي يبدأ فيه نسج الخيوط مع الرئيس السابق جيانغ زيمين، بحيث لا يعزله عن القضية المتعلقة بأحد رجاله، ويستفيد لاحقًا من هذه العلاقة.
كسب شي بهذه المناورة علاقات داخل الحزب، ومعها تأييد شعبي، وكان قبلها عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بطبيعة الحال، نظرًا إلى موقعه المهم في المقاطعات، والتي تعد جميعها مقاطعات ساحلية مهمة سياسيًّا واقتصاديًّا، ولاحقًا إلى المكتب السياسي للحزب أيضًا.
بسبب كل ذلك وقع اختيار النخب الحزبية عليه عام 2007 ليصبح عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، وهي أعلى هيئة قيادية في البلاد، ليصبح على بعد خطوة من منصب الرئيس، وبرز بعدها بصفته أحد أهم مرشحي تولي المنصب الأعلى في البلاد؛ وللمفارقة فإن أحد عوامل اختيار النخب الصينية لشي كانت اعتباره من النخب الأقل قوة، والأكثر قابلية للتحكم به من قبل متقاعدي الحزب بعد انتهاء مدد حكمهم الرسمية.
شي جين بينج إلى رأس الهرم
يعد كتاب «النظام السياسي الصيني» للباحث الألماني سيباستيان هيلمان من أهم المصادر لفهم آلية الحكم في الصين، ويمتاز هيلمان بتقديمه تفسيرات أكاديمية تبتعد عن الانحيازات الإعلامية الغربية، رغم أنها قد تتفق نهاية في النتيجة والحكم، مع تقديم تفسير مختلف وأكثر كشفًا عن الواقع.
يفهمنا الكتاب الخلفية التاريخية لشكل نظام الحكم في الصين قبل وصول شي للسلطة، فالفترة الماوية أورثت خوفًا من إعادة تجربة الزعيم الصنم، الذي يركز السلطة بشكل كبير في يده. وبدأ مهندس انفتاح الصين دينج شياو بينج رحلة توزيع أكبر للسلطات، وخلق مرونة أعلى في بيروقراطية الدولة، مع اتخاذ سياسة تجريبية لخطط اقتصادية واجتماعية في مناطق مختلفة في الصين؛ بهدف تعميمها لاحقًا إذا أثبتت نجاحها.
ورغم أن دينج شياو بينج وخلفه جيانج زيمين اللذين تمتعا بقدر كبير من القوة داخل الحزب والدولة؛ فإنهما لم يقتربا من التجربة الماوية من حيث مركزية شخصيتيهما في الحكم، بل إنَّ جيانج زيمين كان أقل قوة من دينج شياو بينج، الذي حافظ على نفوذه حتى وقت متأخر.
الرئيس الصيني الأسبق دينج شياو بينج
يرجع ذلك إلى أن الحزب الشيوعي الصيني يحظر تشكيل التيارات السياسية رسميًّا داخل الحزب، ويعاقب على تشكيل هذه التيارات، إلا أن الحزب متصالح مع فكرة تشكيل شبكة علاقات سياسية تتمحور حول شخصيات مركزية، تمكن الرؤساء من تشكيل تيارات نافذة في الدولة والحزب حتى بعد خروجهم رسميًّا من الحكم، كما أنَّ قوة المتقاعدين النابعة من أدوارهم التاريخية ومكانتهم العالية أبقت على قواعد غير رسمية في الحكم، مكنتهم من ممارسة تأثير سياسي كبير.
قبل شي حكمت صراعات السلطة الداخلية في الحزب الشيوعي التيارات المختلفة، ومعها قواعدها غير الرسمية، بالإضافة إلى خيارات المرشحين من الأجيال اللاحقة عملية الخلافة في الحزب، ورغم أن جيانج زيمين لم يكن من تيار دينج شياو بينج؛ فإن الأخير استطاع الإبقاء على نفوذ كبير مكنه من بدء تحضير هو جينتاو (الرئيس الذي سبق شي جين بينج) للحكم بعد جيانج زيمين رغم أنه كان خارج السلطة رسميًّا.
وفي منتصف التسعينيات بدأ جيانج زيمين تقوية سلطته داخل الحزب، وتصاعد ذلك مع وفاة دينج شياو بينج عام 1997، ولكن النظام السياسي الصيني كان حينها قد تطور بحيث يمكن الحزب من نقل السلطة سلميًّا وتوافقيًّا، وبذلك انتقلت السلطة من جيانج زيمين إلى هو جينتاو دون مشكلات عام 2002.
وبهذا انتقل مسار السلطة من ماو تسي تونج الرجل الأوحد، إلى دينج شياو بينج الرجل القوي الذي قرر توزيع السلطة وعدم احتكارها، إلى جيانج زيمين الذي ناضل لتقوية مركزه، ولكنه ظل ضمن الإطار العام لجيله من السياسيين الذين تميزوا بتعليم أفضل وخصوصية اجتماعية، ما قرَّبهم أكثر من جعلهم سياسيين تقنيين أو تكنوقراط.
وانتهى هذا المسار إلى أضعف رؤساء الصين هو جينتاو عام 2002، والذي ترسخ معه مبدأ الحكم الجماعي والقاضي بعدم البت في أي قرار مصيري دون إجماع القيادة العليا للحزب في اللجنة الدائمة، والتي تتمثل فيها جميع التيارات الحزبية، وذلك حتى لا يستقوي طرف على الآخر.
وأثبتت القيادة الجماعية نجاحها في منع تركز السلطة تجنبًا لإعادة التجربة الماوية، ولكنها فشلت من نواحي كثيرة أصبحت أكثر إلحاحًا في السنوات الأخيرة قبل تولي شي مقعد الرئاسة، فبسبب ضمان التيارات الحزبية لقوة تصويتية كبيرة داخل اللجنة الدائمة أمنت الخوف من سلطة أي تيار آخر في حال استغلالها السلطة لصالحها، وتكرر فيها تعطيل عملية اتخاذ القرار بسبب عدم اقتناع طرف واحد مثلًا، وغيرها من مشكلات التوزيع الواسع للسلطة.
أدت القيادة الجماعية إلى وصم فترة هو جينتاو بالتردد وعدم الحزم، وبالتأخر في اتخاذ قرارات مصيرية لشهور طويلة؛ مع اتهامات لأعضاء في اللجنة الدائمة بتعطيل عملية اتخاذ القرار متعمدين، ومع ضعف شخصية الرئيس وعجزه عن تسيير الأمور لصالحه كان الباب مفتوحًا أمام «ماو جديد» كما وصفته مجلة «فوربس» عام 2010.
وقع الاختيار على شي لكفاءته مقارنة بغيره، مع كونه خيارًا اتفاقيًّا بين هو جينتاو الذي كان يفضل لي كي تشيانج الذي كان من تياره، ولكن نفوذ جيان زيمين في الحزب أجبره على التوصل لتسوية مفادها الاتفاق على شي، الذي كان يعتقد حينها أنه وبسبب خلفيته العائلية لن يكون بمثابة الرجل القوي، وسيستطيع الرئيسان السابقان التأثير فيه.
لكن شي الذي تعلم منذ زمن كيف يأكل الكتف قضمة بقضمة لعب على خلاف توقعات الطرفين، على الأقل وفق إحدى التحليلات لحادثة اختفاء شي تمامًا عن الأنظار لأسبوعين، وتخلفه عن مواعيد رسمية مع أطراف خارجية، ورغم أن بعض الروايات تنسب ذلك إلى مشكلة صحية؛ فإن الباحث الألماني هيلمان يحاجج بأن شي قرر أن يستغل كونه الخيار الوحيد الذي يمكن للرئيسين السابقين الاتفاق عليه.
وفق التحليل فإن شي طلب منذ اليوم الأول سلطات واسعة في القيادة، وتمثل ذلك بطلبه توليه قيادة اللجنة العسكرية المركزية في الحزب منذ البداية، وهو ما يتعارض مع رغبات الرؤساء السابقين، وخصوصًا لرمزية ذلك في إعطاء الرئيس قوة أكبر من خلفه، ونفوذًا أوسع في مقابل أعضاء اللجنة الدائمة الآخرين على خلاف مبدأ القيادة الجماعية، لذلك أوصل شي باختفائه رسالة مفادها «حظًّا سعيدًا بإيجاد بديل غيري!».
ساعد شي في مطلبه من قيادة الحزب أن البلاد والحزب وقتها كانت تعاني من الفترة السابقة في القيادة الجماعية، والتردد والفساد المستشري، واضطر الرئيسان السابقان لمنح شي ما أراد، ولم يكن ذلك إلا بداية عصر شي الذي ما نزال نعيشه حتى الآن.
شي في الحكم
بدأ شي رحلته في الحكم عام 2012، ومن الجدير بالذكر أن نفهم الصورة العامة للطريقة التي عمل بها شي حتى عام 2022.
وفق الباحث الألماني هيلمان فإن شي وإن دخل الحكم بسلطة أكبر من سابقه هو جينتاو، فإنه لم يكن صاحب سلطة مطلقة في الحزب، بل اضطر للعمل ضمن التيارات المختلفة، واضطر للتعامل مع تياري هو جينتاو وجيانج زيمين داخل اللجنة الدائمة، ولكن ما فعله شي هو أنه بدأ استغلال خلافات الطرفين لصالحه.
استطاع شي أن يضرب أعداءه داخل الحزب بحملته ضد الفساد، ومعها أن يرفع شعبيته في البلاد وداخل الحزب، وفعل ذلك بعد مشاورة الرئيس الأسبق جيانج زيمين، والذي كانت موافقته ضرورية ليستطيع إحالة مسؤولين كبار لم يسبق إحالتهم سابقًا للمحاكمة بتهم فساد، بينهم عضو سابق في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي.
ولكنه عاد عام 2016 لضرب تيار زيمين الذي كان له حليفان في اللجنة الدائمة قبل عام 2016، وأصبح لديه حليف واحد فقط، وانتهى مسار شي في تركيز السلطة بإقصاء جميع التيارات الأخرى عام 2022، وأصبحت اللجنة الدائمة تضم مخلصين له وحده فقط.
فعل شي ذلك عن طريق اللعب على التيارات المختلفة واستخدامها ضد بعضها، ولكنه أيضًا استغل حالة التردد وانعدام الحسم السابق، ومعه حالة الفساد المستشري، وأخيرًا كانت لسياسات شي الاقتصادية والسياسية أثر كبير في حشد الدعم له في أوساط العامة وكوادر الحزب.
إحدى شركات استطلاعات الرأي في بكين أجرت بحثًا غير مباشر لمعرفة نسب تأييد شي عند العامة في الصين، ووجدت أنها نحو 80%، وهي نسبة عالية جدًّا، وما ساعد شي في ذلك هو عاملا حملة محاربة الفساد والسياسة الخارجية، والتي اتسمت بالصرامة الأكبر، ورفع شأن الصين، والتعهد بجعلها القوة الأكبر في العالم بحلول منتصف القرن الحالي، بينما في وقت إجراء البحث عام 2015 لم يكن الصينيون واثقين من رأيهم بسياسات شي الخاصة بالاقتصاد تحديدًا.
بدأ الاقتصاد الصيني بالتباطؤ مقارنة بمعدلاته السابقة المرتفعة، فكان معدل نمو عام 2012 مقاربًا لـ 8%، واستمر بالانخفاض لمعدلات أقل في جميع السنوات اللاحقة، باستثاء عام 2021 الذي حقق فيه معدلًا أعلى بقليل من 8%، والمتوقع أن يعود للانخفاض في العام الحالي.
لكن المواطنين العاديين لا يهتمون بمعدلات النمو، وإنما يهتمون بما يكسبونه من الناتج المتحقق في الاقتصاد، فلو تباطأ الاقتصاد وتحسن التوزيع لكان ذلك خيرًا بالنسبة لهم، وهو ما يعمل شي جين بينج على تحقيقه، لعلمه بضرورة دخول الاقتصاد الصيني مرحلة انتقالية عنوانها الاتجاه نحو الاستهلاك الداخلي، مع تعزيز الاستهلاك الداخلي بالتصدير، ودون الاعتماد بشكل مطلق على التصدير.
ما زالت المؤشرات العامة لا تظهر تقدمًا كبيرًا للصين في مجال المساواة في الدخل، فوفق البنك الدولي انخفض «مؤشر جيني» الذي يقيس المساواة في الدخل من 42.2% عام 2012، إلى 38.2% عام 2019، ووفق تقديرات أخرى انخفضت من 47.6% إلى 46.6% فقط وفي الفترة نفسها، مع العلم أنه كلما انخفضت قيمة مؤشر جيني كانت المساواة أفضل.
من جهة أخرى؛ تمكن شي من إطلاق مشروع «القضاء على الفقر المدقع»، ونجحت الحملة بالفعل في تصفير نسبة الفقر المدقع من إجمالي السكان، ورفع 98 مليون إنسان من خط الفقر المدقع إلى ما فوقه، وملايين غيرهم من مختلف معايير خطوط الفقر، فوفق خط فقر معدله 6.85 دولار باليوم، كان 54% من سكان الصين فقراء عام 2012، وأصبحوا 25% عام 2019.
مع العلم أنَّ مثل خط الفقر هذا يعد مرتفعًا جدًّا، وغير مناسب للحديث عن دولة نامية مثل الصين، ويمكن لمزيد من التوضيح مقارنة بيانات الصين بدول نامية أخرى مثل مصر التي سجلت نسبة أكبر من 70% عام 2017، والهند التي سجلت نسبة 84% عام 2019، مع تفوق صيني في التقدم مع الزمن؛ لا في النتيجة النهائية وحسب.
نموذج حكم الرئيس الصيني الحالي يعتمد على الإنجاز، ورغم كل الإنجازات السابقة فإن التحديات القادمة أكبر مما سبق، وأما ما تحتاجه الصين بزعامة شي أكبر مما قُدِّم سابقًا، وفي ظروف أصعب، ومع تركيز السلطة بيد رجل واحد بصورة لم يسبقه إليها إلا ماو تسي تونج فإنَّ كل الشرعية التي يمتلكها شي اليوم ستتهدد أو تتثبت تبعًا لشرعية الإنجاز أو الإخفاق، والأزمات الأخيرة في الصين من أزمة شركات العقارات إلى سياسة صفر كوفيد تنبئ بإمكانية انقلاب الأمور على رأس الحاكم المستفرد بالسلطة.
انتهى شي من عام 2022 بتسخين القدر وضمان عدم غليانها، وقرر رجل الصين القوي أخيرًا أن يوحد الصف، ويصفي التيارات الأخرى، فهل يستطيع تحمل مسؤولية هذا القرار؟ أم تنتهي إجراءاته بنهاية سيئة؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة.