- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
جمال النشار يكتب: فيلم (جولدا).. سردية العجوز التي حولت كابوس حرب أكتوبر إلى “نصر بأنف دامٍ”
جمال النشار يكتب: فيلم (جولدا).. سردية العجوز التي حولت كابوس حرب أكتوبر إلى “نصر بأنف دامٍ”
- 1 أكتوبر 2023, 1:57:12 م
- 519
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ الكادر الأول للفيلم، ترى الدخان يطفو على الشاشة خانقاً، يعطيك إحساس ضيق الصدر، ويستحلب رمزية الدمار والموت الناتجين عن المعارك الضارية، وربما شبح الضعف والمرض والموت، إذ لا تفارق السجائر يد (جولدا مائير) في مشهدين متتاليين طيلة الفيلم، وسط جو من التوتر والذعر والشعور بقرب النهاية، ولكن في وسط الذعر وبتحوّل ناعم لا يلاحظه المشاهد تتحول الأمور، وتكشّر جولدا عن أنيابها المخفية لتنشبها في رقبة المصريين وتحرز نصرها الأخير.
طُرح فيلم (جولدا) للعرض التلفزيوني في شبكتي بث أمازون برايم وأبل تي في وغيرهما، وجسدت فيه الممثلة البريطانية ذات الباع الطويل على الشاشة "هيلين ميرين" دور جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، في فيلم سيرة ذاتية جزئية يتناول الساعات والأيام الأولى لنشوب حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، والتي يعرفها ويسميها الغرب بتسميتها العبرانية، حرب يوم كيبور- وهي التسمية التي تحمل في طياتها تلميحاً دائماً لخسّة العدو (العرب) الذي يقفز على عدوه غيلة أثناء احتفالاتهم المسالمة بأعيادهم- والساعات التالية للمعارك التي اشتبكت فيها مصر وسوريا مع إسرائيل لتحرير الأراضي المحتلة في سيناء والجولان.
أخرجه الإسرائيلي الأمريكي الحائز أوسكار أفضل فيلم قصير عام 2019 "جاي ناطيف"، وكتب القصة له البريطاني "نيكولاس مارتن". الفيلم بصبغة ونغمة واضح فيها عنصر جذب التعاطف أكثر من سردية (المرأة القوية) التي تقود كياناً محتلاً يتكالب عليه الأعداء من كل زاوية، بل العكس ظهرت جولدا مائير في صورة المرأة الضعيفة المريضة المهزوزة التي لا تفارق السيجارة يدها برغم مرضها المميت، والتي لا تتلقى حتى الاحترام والهيبة المناسبين لمنصبها من قبل حكومتها وقادة جيشها، ومتابعتها المضطربة لسير المعارك على استحياء حتى قبل اندلاعها، إذ لمّح الفيلم بصراحة إلى تسريب خبر الهجوم المصري السوري من قبل (صديقهم) المسمى "مروان"، في إشارة واضحة إلى تبنّي تأكيد رواية كون المصري أشرف مروان كان جاسوساً لصالح إسرائيل حتى وإن كان الفيلم تضمن جملة تؤكد أن جولدا تشك في ولائه وفي كونه عميلاً مزدوجاً.
بدأ الكاتب الفيلم بانعقاد (لجنة أجرانات) عام 1974 والتي تأسست للتحقيق في حرب أكتوبر؛ للوقوف على أسباب الهزيمة في صد الهجوم العربي في 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، والتي تراص القائمون عليها بانتظار دخول "جولدا" العجوز، بطيئة الحركة المدخنة التي تبدو عليها آثار انهيارات عنيفة، تسرد الوقائع منذ يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 1973 كجزء من جدول تحقيقات اللجنة؛ وهي الإشارة الهامة التي اختارها كاتب الفيلم للتلميح إلى مبدأ المسؤولية والمحاسبة للمسؤولين بشفافية والذي يلقي بظلال (التقدمية والديمقراطية التي تعمل بها إسرائيل والتي ليست جزءاً من ثقافة ونمط حكم العرب حتى اليوم).
ومن خلال الفلاشباك يسرد الكاتب الوقائع أولاً بأول، وسط تركيز على بعض الحقائق الهامة والحقيقية في الحرب، أبرزها كان عنصر المفاجأة المُربك والخاطف في هجوم مصر وسوريا، وكيف هزت المفاجأة الجيش الإسرائيلي وتسببت في خسائر أولية فادحة له، ولكن زرع المؤلف في وسط كل هذه الحقائق أحد أبرز الأخطاء التي نُسبت إلى حكومة جولدا علانية وهي المعرفة المسبقة بالهجوم المصري السوري من رئيس الموساد آنذاك "تسفي زامير" والذي حصل عليه من جاسُوسِه المقرب "أشرف مروان"، ومع وجود هذه المعلومة اقترح البعض تحريك قوات كبيرة إلى خط المواجهة مع المصريين، ولكن أظهر السيناريو تخاذل "موشيه ديان" وعدم دعمه للفكرة المقترحة، بحجة أن المصريين حركوا قواتهم ما يزيد على 22 مرة خلال السنة الأخيرة السابقة؛ وأنها في الأغلب مناورة وليست هجوماً شاملاً؛ ومن ثم لم يُتخذ القرار بتحريك قوات الاحتياط إلى الضفة الشرقية للقناة، وهو ما جعل الهجوم المصري ساحقاً في بداياته.
جنود إسرائيليون في حرب أكتوبر / رويترز
وباعتبار هذه كانت "الثغرة الإسرائيلية" في الاستعداد للحرب، كلفت هذه الثغرة- كما تتبنى سردية الفيلم- إسرائيل خسائر فادحة في قواتها البرية والجوية، وسرعان ما تحوَّل الفيلم إلى الجو الكارثي المذعور الذي ينمّ عن هزة قوية رأت فيها جولدا مائير المريضة الضعيفة القريبة من الموت شبح الجيوش العربية تزحف نحو تل أبيب، في مشهد أيقوني بينها وبين سكرتيرتها ومساعدتها الأولى "لو كدّار" والذي أخبرتها فيه بأنها "لن تؤخذ حية إذا دخل العرب تل أبيب".
توالت السردية في الفيلم تسرد الوقائع العسكرية في حرب أكتوبر بدقة قريبة من كل السجلات الرسمية والمصادر الكبرى المتفق عليها حتى مع الرواية المصرية؛ وصولاً إلى النقطة الفاصلة التي حولّت مسار حرب أكتوبر من هزيمة ساحقة لإسرائيل إلى نصر غير معترف به بشكل أو بآخر في العالم العربي؛ ألا وهي الثغرة (ثغرة الدفرسوار) التي نفذت منها الألوية العسكرية الإسرائيلية إلى قلب الصف المصري لإحراز انتصار يعادل كفة الهجوم الأول.
ويطلعنا الفيلم على كواليس تواصل جولدا مائير مع أمريكا عبر رابط متين هو وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسنجر"، ولم يستحي الفيلم من إبراز الضغوط الكبيرة التي مارستها جولدا مائير عليه بداية من الحصول على طائرات الفانتوم لتعويض خسارتها، وحتى محاولاتها الفظة المدفوعة بيأس الهزيمة لتهديد الأمريكيين بزيارة واشنطن وتأليب المجتمعات اليهودية على الحكومة الأمريكية الغائصة حتى ركبتيها في فضيحة ووترغيت السياسية، ومحاولة تهديد سلطة الرئيس الأمريكي المرتعش آنذاك "ريتشارد نيكسون".
الرئيس الأمريكي الأسبق الراحل ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر – Getty
تارة كان الفيلم يقفز من سردية "جولدا" المريضة الضعيفة الموشكة على الموت في أي لحظة على فراش الفحص الطبي؛ إلى جولدا الغاضبة على استحياء والتي لا تكنّ للأمريكان وعلى رأسهم كيسنجر أي تبجيل، بل كانت تعامل الأمريكيين بنوع من الفظاظة المتولدة من رعب الهزيمة، وأكدت أن الأمريكيين مرتعشون يخافون كارت قطع البترول العربي في ظل ظروف داخلية أمريكية صعبة قد يقفز فيها سعر برميل البترول من 4 دولارات إلى 12 دولاراً، وهو ما تجلى في بدايات الموقف الأمريكي على لسان نيكسون بأنه لا يؤيد إسرائيل ولا يؤيد العرب ولا يحاول استرضاء دول النفط؛ خوفاً من الأزمة وهو ما كان كذباً صريحاً؛ لأن دعم إسرائيل بالفعل كلّف الولايات المتحدة في الواقع هذه القفزة الرهيبة في أسعار الوقود.
وعبّرت جولدا عن نوايا الأمريكيين في حوار بينها وبين مساعدتها الأقرب "لو كدّار" التي أخبرتها بألا تقلق و"أن الأمريكيين يريدوننا أن ننتصر"، فترد جولدا اليائسة الغاضبة: "نعم ولكنهم يريدوننا أن نفوز بأنف دامٍ"، في دلالة على أن الدعم ليس كاملاً مطلقاً وأن خشية الدعم السوفييتي للعرب لا تزال تقلق الأمريكيين، إذ قد يتطور الصراع من حرب بالوكالة إلى مواجهات مباشرة بين الكبيرين السوفييت والأمريكان.
وفي وسط تطور إيجابي لصالح الإسرائيليين، تبنت جولدا مقترحات العسكريين البارزين على رأسهم ديفيد أليعازر وحاييم بارليف وأرييل شارون الذين أقنعوها بأن الثغرة يمكن استثمارها واستغلال النقاط الخالية من التحصين المصري وعبور القناة غرباً للانقضاض على الجيش الثالث الميداني المصري الذي يصل عدده إلى 30 ألف فرد عسكري.
وبينما كانت المعارك تحتدم، يلمح المشاهد تناقضات جولدا بين الضعيفة القريبة من الموت والهادئة القوية التي تفرض شروطها على كيسنجر، وتهدد "بصنع جيش من الأرامل واليتامى"، في إشارة واضحة إلى إبادة الجيش المصري الثالث المحاصر قرب السويس، وكان هذا التحول في نغمة الفيلم من الهزيمة إلى درجة الكوابيس المرعبة التي كانت تزورها ليلاً؛ إلى لبؤة الجبال العجوز التي رأت عنق ضحيتها مكشوفاً، فاستغلت وتر "يهودية" كيسنجر لكسب الوقت وحصد مزيد من الانتصارات على أرض سيناء قبل قبول وقف إطلاق النار الذي ظهر كأنه "أمر تفرضه أمريكا"؛ خشية السوفييت وخشية مزيد من الاشتعال الأمريكي الداخلي إثر أزمة النفط.
وبين مشهد والتالي، برزت أنياب جولدا على استحياء، ثم في صلابة وقسوة تجلت في تشبثها العنيف بانتصارها العسكري الذي طوّق الجيش الثالث المصري وشل حركته، وتجلى في رفضها القاطع لفتح ممر إنساني لمرور التموين إلى الجيش المصري العطشان الجائع؛ إلا بعد تسليم جنودها الأسرى أولاً، وعدم تنازلها عن الشرط الأهم والأسمى– بالنسبة لدولة الاحتلال آنذاك- وهو الاعتراف المصري بـ"إسرائيل" وليس "الكيان الصهيوني".
ومع هذا التحول الدرامي انهمرت نغمة الارتياح في أحداث الفيلم إثر قبول السادات الشروط كلها وبلا أية محاولات لتصعيد الصراع، وهو الأمر الذي يستحق التفكير قليلاً، فبرغم أن للفيلم بروباجاندا ممزوجة بتمجيد أنثوي يكتسح الغرب حالياً؛ فإن رواية الفيلم للغرابة كانت متسقة وبحد كبير مع الرواية التي يشيح المصريون بأبصارهم عنها في إباء؛ والتي تقرّ الوضع بداية من يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول إلى 24 أكتوبر/تشرين الأول وحتى حصار الجيش الثالث الميداني على أنه (هزيمة واضحة) للجيش المصري والحكومة المصرية.
والمطلع على اعترافات وشهادة الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري وصاحب المرحلة الأولى لحرب أكتوبر وعبور القناة؛ سيرى تطابقاً عجيباً بين ما رواه الشاذلي عن الثغرة وحصار الجيش مع ما جاء في الفيلم من وقائع، ووقوفه ضد قرارات السادات والمشير أحمد إسماعيل، ورفض مقترح قدمه الشاذلي بضرب الثغرة قبل اتساعها عندما رفض السادات سحب 4 ألوية احتياطية من النسق العسكري الثاني وتطويق الثغرة بها وسحقها تماماً كما رأى الشاذلي بخبرته الكبيرة في ميادين الحرب مع إسرائيل، وحتى رفضه واعتراضه على إخفاء حصار الجيش الثالث عن الإعلام المصري بالكامل آنذاك، ومن ثم عَزله لاحقاً من منصبه وإبعاده الناعم عن المشهدين العسكري والسياسي، وبالنظر إلى شهادة الفريق الشاذلي ومقارنتها بما تبناه الفيلم من رواية عسكرية قلبت النصر إلى استسلام معنوي ورضوخ للحل السلمي تحقيقاً لكل ما طلبته إسرائيل بداية من الاعتراف بإسرائيل رسمياً؛ وحتى تسليم الأسرى، نهاية بتوقيع اتفاقية السلام التي كانت وما زالت تغصّ حلوق كثيرين من العرب إلى اليوم برغم كل ما مر من سنوات في مراحل الصراع العربي الإسرائيلي.
قادة حرب أكتوبر 1973 في غرفة العمليات لوضع ودراسة الخطة – Wikimedia Commons
الفيلم الدرامي السارد لرواية حرب أكتوبر كفصل أخير في حياة المرأة التي يمجدها الغرب، واحتفت بها إسرائيل وبرأت ساحتها بالكامل بعد انتهاء أعمال لجنة (أجرانات)؛ نجح بشكل كبير في جذب تعاطف المشاهد غير العربي، وتوصيل صورة "المقاتلة" المثخنة بالجروح التي تتحامل على جسدها الهزيل، ولا تستسلم برغم كل الآلام والعذابات المبالغ فيها للتأثير على المشاهد واكتساب تعاطفه، والتي استطاعت في لحظة هدوء وبمعاونة قُوّادِها- باستثناء موشيه ديان الذي أظهره الفيلم كقائد فاشل مهزوز متعجرف يتولاه الجبن عندما يرى الدمار الذي لحق بجيشه– تحويل خطأ القيادة المصرية متمثلة في السادات نفسه ووحده– بتأكيد رواية القائد المحنك الفريق الشاذلي- إلى انتصار معنوي وعسكري حتى ولو بأنف مكسور دامٍ، نصر لا يزال غالبية المصريون والعرب يرونه كاذباً دعائياً، أو يراه البعض تطوراً طبيعياً في الكرّ والفرّ بين الجيشين في خضم حرب متوازنة، وأن التركيز على النصر الساحق في الأيام الأولى للحرب هو فقط الصورة الكاملة التي تُصدّر للشعب، نهاية بالهدف السياسي الأكبر الذي تحقق من وراء الحرب؛ ألا وهو السلام وتجنب ويلات الحرب، واستعادة سيناء المحتلة حتى برغم بقائها لأكثر من عقد بدون وجود عسكري مصري.
فيلم جولدا استخدم مخرجه الإسرائيلي الأمريكي "جاي ناطيف" العديد من كادرات التصوير الباردة المغلقة للإيحاء بغبرة الموقف، والرمزيات التي لا تخلو من محاولات لإضفاء شاعرية جاءت محيرة وغير مفهومة، خاصة مشاهد أسراب الطيور التي احتلت مبنى القيادة الإسرائيلي، والتي تناثرت جثثها الميتة بالتزامن مع موت جولدا مائير وهي تشاهد لقاءها مع السادات توطئة لتوقيع اتفاقية السلام الشهيرة، بجوار بعض المشاهد التي نجح فيها في استغلال المؤثرات الصوتية للمعارك ودمجها مع هواجس جولدا مائير التي كانت تميل إلى تعظيم خوفها وشعورها بالهزة والضعف.
هو عمل درامي يستحلب كثيراً من التعاطف مع المرأة المريضة التي انتصرت برغم كل العوامل، دعائي في المقام الأول، تمجيدي في المقام الأخير سواء كان لسردية الفوز بأنف مكسور، أو لسردية العجوز التي انتزعت النصر من العرب وهي على فراش الموت، واعترفت بشكل غير رسمي بخطئها في عدم تحريك القوات لصد الهجوم أمام اللجنة، وأن دماء ضحايا الجيش الإسرائيلي ستذهب معها إلى القبر، أما على صعيد المعلومة التاريخية الدقيقة، فللدهشة يمكنك أن تشعر بتقارب أو أحياناً تطابق الوقائع مع شهادة الفريق الشاذلي وغيره عن الثغرة وحصار الجيش الثالث بدقة شديدة، حتى مع وصف القائد الراحل لعجرفة جولدا مائير وقسوتها في الضغط المعنوي على وصول الإمدادات إلى الجنود والضباط المحاصرين، فهي المرأة التي هددت بصنع جيش من اليتامى والأرامل المصريين وبعدم مرور كسرة خبز واحدة إلا عندما يسلّم الأسرى؛ بينما كانت تصارع الرعب والموت وتبصق دماً، لتدخل التاريخ بكل الحقائق القليلة التي تدينها أو الكثيرة التي تمجدّ صورتها، كديدن أعمال البروباغاندا في كل زمان وعلى كل شاشة.