الداعية خالد سعد يكتب: الابتلاء وأثره في حياة المؤمن: تأمل في صبر الأنبياء والصالحين

profile
خالد سعد داعية إسلامي مصري
  • clock 6 يناير 2025, 12:03:16 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والإنسان فيها معرض للمحن والشدائد على قدر إيمانه وقربه من الله. الابتلاء ليس مجرد محنة، بل هو علامة على محبة الله لعبده وتذكير له بحقيقة الدنيا وفنائها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدًا ابتلاه" (رواه الترمذي). ولنا في قصص الأنبياء والصالحين والصحابة أسوة حسنة، إذ كانوا أشد الناس بلاءً، ووقفوا أمام المحن بثبات وإيمان.

---
الابتلاء سنة إلهية: دلائل من القرآن والسنة

1. قال الله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 155).

الابتلاء وسيلة لتمحيص النفوس واختبار الإيمان.

2. قال تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ" (محمد: 31).

الابتلاء يظهر صدق الإنسان وثباته على الحق.

3. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" (رواه الترمذي).

البلاء وسيلة لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات.

دروس وعبر من الابتلاء

الابتلاء سنة إلهية تطهر النفوس وتمحصها.

الابتلاء دليل على حب الله لعبده ورفعة درجته.

والصبر على البلاء عبادة عظيمة تؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة.

فلنتذكر قوله تعالى: "فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح: 5-6)، ولنقتدِ بصبر الأنبياء والصالحين، ولنجعل من المحن فرصة لزيادة الإيمان والقرب من الله.
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ مِنكُمْ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًۭا" (النور: 55).


---
الابتلاء طريق التمكين

الابتلاء ليس نهاية الطريق، بل هو بداية التغيير والتمكين. إنه وسيلة إلهية لإعداد المؤمنين ليكونوا أهلاً لحمل رسالة الحق في الأرض. وكما مرَّ الأنبياء والصالحون بهذه السنة الإلهية، فإن علينا كأفراد وأمة أن نصبر على البلاء ونثق بوعد الله، فهو القائل:

"فَصَبْرٌۭ جَمِيلٌۭ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ" (الأنفال: 46).

فلنتخذ من قصص الأنبياء والصالحين دروسًا تعيننا على الثبات في المحن، ولنوقن بأن التمكين قادم لا محالة لمن صبر وثبت واتقى الله، كما قال تعالى:

"إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"
ابتلاء آدم عليه السلام وتمكينه بالاصطفاء

ابتُلي آدم عليه السلام بخطئه عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، مما أدى إلى إخراجه من الجنة. لكنه تاب إلى الله وقال:
"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ" (الأعراف: 23).

بهذه التوبة والرجوع إلى الله، مكن الله لآدم واصطفاه ليكون أول البشر وأباهم، كما قال تعالى:
"ثُمَّ ٱجْتَبَىٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ" (طه: 122).

---
ابتلاء نوح عليه السلام وتمكينه بالنجاة من الطوفان

دعا نوح عليه السلام قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولم يؤمن معه إلا قليل، بل استهزأوا به ورفضوا دعوته. حتى ابنه عصاه ورفض ركوب السفينة. قال نوح عليه السلام:
"إِنَّ ٱبْنِى مِنْ أَهْلِى"، فجاء الرد: "إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" (هود: 45-46).

رغم هذا الابتلاء العظيم، مكن الله لنوح عليه السلام بنجاته ومن معه في السفينة وإهلاك الظالمين، وأورثه الأرض ومن معه، كما قال تعالى:
"وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ" (الصافات: 77).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض نوح"، وهذا إشارة إلى مكانته كأبٍ ثانٍ للبشرية بعد الطوفان.
---
ابتلاء إبراهيم عليه السلام وتمكينه بالخلة

ابتُلي إبراهيم عليه السلام بمواجهة أبيه وقومه في عقيدتهم، وقام بتحطيم أصنامهم مما أدى إلى إلقائهم له في النار، فقال الله عنها:
"قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًۭا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ" (الأنبياء: 69).

كما ابتُلي بأمر الله له بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فقال بكل يقين:
"يَـٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" (الصافات: 102).

بهذه الابتلاءات العظيمة، مكن الله لإبراهيم عليه السلام، وجعله خليل الله، كما قال تعالى:
"وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا" (النساء: 125).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم خليل الله". كما جعله الله أبًا للأنبياء وبارك في ذريته، وجعل الأنبياء من نسل إسماعيل وإسحاق.
---
ابتلاء يوسف عليه السلام وتمكينه في مصر

ابتُلي يوسف عليه السلام بحسد إخوته، إذ ألقوه في غيابة الجب، ثم بيع كعبد، وابتُلي بفتنة امرأة العزيز التي راودته عن نفسه. وعندما رفض، سُجن ظلمًا.

رغم هذه المحن، مكن الله ليوسف عليه السلام في الأرض بعد صبره وثباته، فقال تعالى:
"وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ" (يوسف: 56).

وجعله عزيز مصر وحاكمها، وأقر عينه بلقاء والده يعقوب عليه السلام وإخوته.
---
ابتلاء موسى عليه السلام وتمكينه بالنجاة من فرعون

ابتُلي موسى عليه السلام منذ ولادته، إذ خشي فرعون من بني إسرائيل وقتل أبناءهم. فأوحى الله إلى أمه أن تلقيه في اليم. كما واجه موسى ظلم فرعون وتكذيبه المتكرر، واضطر للخروج من مصر.
رغم ذلك، مكن الله لموسى عليه السلام بأن نجّاه وقومه من فرعون، وأغرق عدوهم في البحر، كما قال تعالى:
"وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ" (البقرة: 50).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وموسى نجي الله".
---
ابتلاء أيوب عليه السلام وتمكينه بالشفاء والبركة

ابتُلي أيوب عليه السلام في جسده وماله وأهله لسنوات طويلة، لكنه صبر ولم يفقد ثقته بالله. دعا ربه وقال:
"إِنِّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ" (الأنبياء: 83).

بهذا الصبر، مكن الله له، وشفاه وأعاده إلى حاله، بل وزاده بركة، كما قال تعالى:
"فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرٍّۢ وَءَاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ" (الأنبياء: 84).

النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بأعظم الابتلاءات:

ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم كانت من أعظم الابتلاءات، لأنه كان قدوةً للأمة في الصبر والثبات، ولأن الأنبياء أشد الناس بلاءً. تلك الابتلاءات لم تكن مجرد مصائب عابرة، بل كانت دروسًا للأمة في الصبر والتوكل على الله. وفيما يلي تفصيل للنقاط المذكورة:

---
1. فقد الأحبة

النبي صلى الله عليه وسلم عاش معاناة فقد الأحبة في مراحل مختلفة من حياته:

فقد الأب والأم: ولد النبي يتيم الأب، ثم فقد أمه آمنة بنت وهب وهو في السادسة من عمره، فتربى في كنف جده عبد المطلب، ثم فقده أيضًا بعد سنوات قليلة.

فقد الأبناء: دفن النبي صلى الله عليه وسلم ستة من أبنائه وبناته في حياته:

1. القاسم: أكبر أبنائه، توفي وهو طفل صغير.

2. عبد الله (الطاهر والطيب): توفي أيضًا صغيرًا.

3. زينب، رقية، وأم كلثوم: توفين في حياته بعد معاناة ومرض.


4. إبراهيم: آخر أبنائه، توفي وهو طفل صغير في المدينة.

كان لفقد الأبناء أثر عظيم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان دائم الرضا بقضاء الله. وعندما توفي إبراهيم، قال:
"إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".

فقد خديجة رضي الله عنها: في عام الحزن، فقد النبي صلى الله عليه وسلم زوجته خديجة، التي كانت سندًا له في دعوته، وأول من آمن به. قال عنها:
"آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس".
كان فقدها شديدًا عليه، لأنه فقد شريكته في الدعوة وصاحبته في مواجهة الأزمات.

فقد عمه أبي طالب: في العام نفسه، فقد عمه أبي طالب، الذي كان يدافع عنه ويحميه من أذى قريش، رغم أنه لم يدخل الإسلام. ومع وفاته، ازدادت معاناة النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، إذ لم يعد له سند يحميه منهم.
---

2. أذى قومه

النبي صلى الله عليه وسلم واجه أذى قريش منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها دعوته. ورغم ذلك، صبر واحتسب:

طرده أهل الطائف:
عندما اشتد أذى قريش، قرر النبي صلى الله عليه وسلم التوجه إلى الطائف، يدعو أهلها إلى الإسلام، ويبحث عن مناصرة لدعوته. لكن أهل الطائف قابلوه بالصد والإهانة، بل سلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فرموه بالحجارة حتى سال دمه.

لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظل بستان، ورفع يديه بالدعاء المشهور:
"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس... إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي".
رغم هذا الأذى الشديد، كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالًا للصفح والعفو، حيث رفض أن يدعو عليهم حين جاءه ملك الجبال يعرض أن يطبق عليهم الأخشبين، وقال:
"بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".

أذى قريش في مكة:
قريش استخدمت كل وسائل الأذى النفسي والجسدي ضد النبي صلى الله عليه وسلم، منها:

محاولة قتله ووضع الشوك في طريقه.

رمي الأوساخ عليه وهو يصلي عند الكعبة.

سبه والسخرية منه ووصفه بالكذب والجنون.


كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه ذلك بالصبر والحلم، ملتزمًا بأمر الله:
"فَصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" (المعارج: 5).

 

---

3. فقد الصحابة

النبي صلى الله عليه وسلم لم يفقد فقط أهله، بل فقد أيضًا عددًا كبيرًا من أصحابه، الذين كانوا من أحب الناس إليه:

فقد الصحابة في غزوة أحد:
في غزوة أحد، فقد النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من أصحابه، وكان من بينهم حمزة بن عبد المطلب، عمه وأقرب الناس إليه. كان حمزة "أسد الله" من أعظم المدافعين عن الإسلام، وقُتل بطريقة مؤلمة، إذ مثل المشركون بجثته.

حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم جثمان حمزة، بكى وقال:
"لن أصاب بمثلك أبدًا". ومع ذلك، دعا الله أن يغفر لقاتله، إظهارًا لرحمته وصبره.

فقد الصحابة في بئر معونة:
في حادثة بئر معونة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من القراء والدعاة إلى إحدى القبائل لدعوتها إلى الإسلام، لكنهم غدروا بهم وقتلوهم جميعًا.
كان هذا الحادث مؤلمًا جدًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فظل يدعو على القتلة في صلاته شهرًا كاملًا.

بلاء الصحابة بشكل عام:
الصحابة كانوا يعانون من الحصار والتعذيب والتشريد، ورغم ذلك كانوا مخلصين للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه. فقد النبي صلى الله عليه وسلم بعض أعظم رجاله، مثل مصعب بن عمير، الذي قُتل في أحد وهو يحمل الراية، وترك أثرًا عظيمًا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
---
ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم كانت من أعظم الابتلاءات، لكنها كانت سببًا في إظهار صبره وثباته، وتعليمه للأمة كيف تواجه المحن والشدائد. فقد الأحبة، وأذى قومه، وفقد أصحابه، كلها مواقف تجسد صبره وثقته في نصر الله، وهو القائل:
"أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".

كانت هذه الابتلاءات سببًا في تمكين الإسلام وانتشاره، ودرسًا للأمة في كيفية مواجهة المحن بقوة الإيمان والصبر.
رغم هذه المصائب، كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس"، وكان دائم الرضا بقضاء الله
تحمل أذى قريش وصبر على مقاطعتهم له، حتى مكّن الله له بفتح مكة ونشر الإسلام، وقال تعالى:
"إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ" (النصر: 1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وأمره الله أن يعلن:
"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" (الشرح: 4).

ابتلاءات الصحابة والصالحين

إن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل جيل عرفته البشرية بعد الأنبياء، وقد واجهوا من البلاء والابتلاءات ما أظهر صبرهم وثباتهم على الدين، فأصبحوا قدوة للأجيال في الصبر والتضحية. فيما يلي بيان لبعض أعظم الابتلاءات التي تعرض لها بعض الصحابة:
---
1. بلاء بلال بن رباح رضي الله عنه

بلال بن رباح، الصحابي الحبشي، كان أحد أوائل من آمنوا بالله ورسوله. لم يكن له عشيرة تحميه من بطش قريش، فأذاقه سيده أمية بن خلف أشد العذاب، فقد كان يخرجه في حر مكة القائظ، ويطرحه على الرمال الساخنة، ثم يضع الصخر الكبير على صدره ليجبره على الكفر.

ورغم كل هذا، لم يتراجع بلال عن دينه، وكان يردد كلمة التوحيد: "أحد أحد"، مؤكدًا إخلاصه لله.

استمر تعذيبه حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأعتقه. رفع الله ذكر بلال، فصار مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أوائل من صعدوا على الكعبة يوم فتح مكة ليعلنوا كلمة التوحيد بصوت الأذان.

---
2. بلاء آل ياسر رضي الله عنهم

آل ياسر، وهم عمار بن ياسر ووالداه ياسر وسمية، كانوا من أول من آمنوا بالدعوة الإسلامية. ولم تكن لهم عشيرة قوية في مكة لتحميهم من أذى قريش، فتعرضوا لتعذيب وحشي.

كان ياسر وسمية يُربطان في حر الشمس ويضربان بالسياط حتى قُتلا في سبيل الله. وكانت سمية أول شهيدة في الإسلام، إذ طعنها أبو جهل بحربة في موضع عفتها حتى ماتت.

أما عمار، فقد تعرض لتعذيب شديد حتى اضطر تحت وطأة العذاب إلى النطق بكلمة الكفر بلسانه، بينما كان قلبه مطمئنًا بالإيمان. نزل فيه قول الله تعالى:
"إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ" (النحل: 106).

قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مواسيًا:
"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"، فكانت هذه الكلمات بلسماً لقلوبهم وسط العذاب.

---
3. بلاء خبيب بن عدي رضي الله عنه

خبيب بن عدي، الصحابي الجليل، أُسر بعد معركة أحد، ثم بيع لقريش التي أرادت الانتقام منه لقتلاها في بدر. قُيد بالسلاسل، وعُذب عذابًا شديدًا، حتى قرروا صلبه وقتله.

قبل أن يُقتل، طلب أن يصلي ركعتين، فكان أول من سنَّ صلاة ركعتين قبل القتل في الإسلام. ثم قال لقومه:
"لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعًا، لأطلتها".

عندما رُفع على الخشبة، قال وهو يواجه الموت بثبات:
"اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبقِ منهم أحدًا".

كما أنشد:
"ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ... يبارك على أوصال شلو ممزع"

فقتلوه ومزقوا جسده، لكنه ظل ثابتًا على إيمانه، وقد ترك لنا نموذجًا عظيمًا للتضحية في سبيل الله.
---
4. بلاء صهيب الرومي رضي الله عنه

صهيب بن سنان الرومي، الصحابي الكريم، عاش طفولته في الرخاء، لكنه أُسر وهو صغير، ثم بيع كعبد في مكة. عانى كثيرًا حتى استعاد حريته، وكان من أوائل من أسلم.

عندما قرر الهجرة إلى المدينة، اعترضته قريش وأرادت منعه. فقال لهم:"إنكم تعلمون أني من أغنى قريش، ولدي مال كثير. أتركه لكم مقابل أن تتركوني أهاجر".

وافقوا على ذلك، فتخلى صهيب عن كل ما يملك في سبيل الله وهجرةً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. عندما وصل إلى المدينة، استقبله النبي صلى الله عليه وسلم مبتهجًا، وقال له:
"ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى".

كان هذا البلاء العظيم في التخلي عن المال مثالًا واضحًا لتقديم الإيمان على الدنيا، فأصبح صهيب من النماذج الخالدة في التضحية.
---
الخاتمة

كانت هذه النماذج المشرقة من حياة  الانبياء والصحابة دليلًا على صدق إيمانهم وتضحياتهم في سبيل الله. تعذيب بلال، وصبر آل ياسر، وشجاعة خبيب، وتضحية صهيب، كلها أمثلة يجب أن تُلهمنا في حياتنا، وتُذكرنا أن البلاء طريق التمكين، وأن التضحية في سبيل الله سبيل الوصول إلى الجنة.

خاتمة
كل نبي من أنبياء الله  وصحابي من الصحابة مر بابتلاءات عظيمة، لكنها كانت سبيلًا لتمكينهم في الأرض ورفعتهم عند الله. الابتلاء هو طريق العبودية الصادقة، والتمكين هو ثمرة الصبر والثبات على الحق.

اللهم اجعلنا من الصابرين في البلاء، والشاكرين في النعماء، والممكَّنين في الأرض بنصر دينك ورفعة رايتك، وأن يمكّن لدينه في الأرض كما مكن لأنبيائه وصالحي عباده.

التعليقات (0)