الجاسوسية أسرار وألغاز (20): بهجت حمدان.. الجاسوس الهارب من الإعدام

profile
مصطفي إبراهيم رئيس التحرير التنفيذي لموقع 180 تحقيقات ورئيس تحرير موقع 180ترك
  • clock 9 سبتمبر 2024, 8:39:55 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار وتغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.

ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطورة الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان.

ولأهمية الجاسوسية أفردت لها الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية صفحاتها لتسجيل أغرب الحوادث وأندر الحالات، وهو ما حولت جمعه وطرحة بين يدي القارئ في هذه السلسلة "سلسلة الجاسوسية أسرار وألغاز ..  التي سبق أن نشرتها في جريدة النهار الكويتية في عام 2013 ولأهمية الموضوع ولحب الجمهور لقراءة ملفات المخابرات نعيد نشرها في موقع 180 تحقيقات ... خدمة لقراء الموقع الأعزاء إلى قلوبنا..  وذلك بمعدل حلقة أسبوعية .

وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.

ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم.

الحلقة 20

الجاسوس الهارب من الإعدام

>> شاب أُرسل إلى ألمانيا لدراسة الهندسة.. فقادته الملذات إلى فخ مزدوج للمخابرات

>> زور شهادته الجامعية بسبب انغماسه في المراقص والملاهي

>> صوروه مع سكرتيرته الحسناء وسجلوا سبه للعرب وقادتهم

>> أدخلوه عالم البورصة  وصنعوا منه تاجر سلاح يعرض صفقاته على الدول العربية

>> راقبته المخابرات المصرية ودفعته لاصطياد قائده الضابط في الموساد  

>> الصحف العالمية تهكمت على المخابرات الإسرائيلي والجيش الذي لا يهزم

 

سيطرة شهوة جمع المال وحلم الثراء على الجاسوس المصري بهجت حمدان.. فلم يعد يشعر ولو للحظة بشيء من الندم أو الإحساس بـتأنيب الضمير على خيانته لبلده، وتسريبه أدق وأهم الأسرار لأعداء وطنه، وعقب نكسة يونيو 1967، وبينما الطائرات الإسرائيلية كانت تمرح آمنة كيفما تشاء في سماء مصر، كان بهجت حمدان ينقل إلى العدو أولاً بأول خرائط وصور القواعد العسكرية المصرية، ويشعر بنشوة غامرة لنجاحه في العمل.. ولثقة الموساد في معلوماته. وأمام تدفق الأموال عليه، كوّن شبكة جاسوسية خطيرة في القاهرة، لكي يزداد ثراءاً ورونقاً.. وتوحشاً، ولحظة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية.. صرخ غير مصدق: مستحيل.. مستحيل.. كيف توصلتم إليّ؟ لقد دربوني جيداً في أوروبا.. بحيث لا أسقط أبداً.

لغة الجسد

صدمة قاسية أصابت المخابرات الإسرائيلية عندما انكشف جاسوسها المدرب بهجت حمدان، وزلزل النبأ كبار ضباطها الذين أعمتهم الثقة وغلفهم الغرور، ذلك لأن الجاسوس مدرب جيداً في أوروبا بواسطة أمهر الخبراء.. وحصل على دورات تؤهله لكل المهام التجسسية الصعبة.. دون أن يثير شكوك المخابرات المصرية، وظل العميل المدرب نائما لسنوات في أوروبا انتظاراً للحظة الانطلاق..

لقد أجاد فنون التجسس دراسة وليس تدريباً فقط، بخلاف غالبية الخونة الذين يُدفع بهم عقب تجنيدهم مباشرة لممارسة العمل ضد بلادهم.. وكان تجنيده قد تم بواسطة نقطة ضعفه المال الذي ظل يلهث وراءه.. الى أن وقع في أيدي المخابرات المصرية.

ولد بهجت يوسف حمدان في الإسماعيلية في 24 ديسمبر 1932 لأب ثري يعمل في التجارة اجتهد في عمله لتأمين حياة كريمة لأسرته، مضحياً بكل ما لديه في سبيل تعليم أولاده وتبوئهم مناصب مرموقة في المجتمع.

وقضى بهجت طفولته على شاطئ القناة في المدينة الجميلة الساحرة، وبعدما حصل على الشهادة الإعدادية كان والده قد قرر الانتقال نهائياً الى القاهرة بعدما توسعت تجارته واشتهر اسمه، فالتحق بهجت بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية، وتبلورت شخصيته بها وظهر حبه وولعه بالرسم والفنون، للدرجة التي جعلته يهرب كثيراً من المدرسة ليزور المتاحف والمعارض الفنية، وكان ينفق مصروفه على شراء الألوان وأدوات الرسم، الأمر الذي استدعى تدخل والده لصرفه عن هوايته التي رآها الأب مضيعة للوقت على حساب مستقبله العلمي، لكن بهجت حصل على الثانوية العامة بصعوبة بالغة وفي عام 1950وحاول الالتحاق بأحد المعاهد الفنية لتنمية موهبته، لكن الأب عارض بشدة مصراً على تعليمه كأبناء الباشوات، وأرسله إلى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة المعمارية في إحدى جامعاتها.

وانقاد الابن أمام رغبة الأب وإصراره، حزم الشاب حقائبه وطار إلى ميونيخ وفي نفسه ضغينة وفي حلقة غصة لضياع حلمه في أن يكون رساماً.

مجتمع متحرر

وفي ميونيخ تصدع عقل الفتى الأغر، فقد وجد نفسه فجأة بداخل مجتمع غريب عن طبيعته كشرقي، مجتمع يفيض تحرراً وانفتاحاً يستطيع الامتزاج به بسهولة، لذلك انطوى على نفسه في بادئ الأمر، وفشلت الأسرة الألمانية التي يقيم معها في إخراجه من عزلته، فطلبت من إدارة الجامعة استبداله بآخر، وانتقل بهجت بعدها إلى سكن بيوت الطلاب، لدراسة اللغة مبتعداً عن المغريات التي تستهوي الشباب، وكرس كل جهده ووقته لذلك حتى وقعت له حادثة بدلت طريقه وطباعه.

لكن تحت ضغط رفاقه استسلم لما يفعله معظم الشباب في الغربة،وذلك بعد أن دعاه زملاؤه الطلاب لقضاء سهرة الكريسماس بأحد المراقص، وفي النادي الليلي حيث الخمر والرقص والفتيات الحسناوات والغزل، تعرف بشاب مغربي قدمه إلى إحدى صديقاته، وعلى البيست أخذ يراقصها، فتناثرت عنه انطوائيته وضاع خجله، وانقلب من وقتها إلى شاب جديد يمتلئ بالثقة في نفسه، يملك القدرة على إدارة الحوار بشتى أشكاله.

بعدها تعددت السهرات مع الفتاة الألمانية التي أخذت تحيطه بالاهتمام فأحبها، ولم يعد يستطيع الافتراق عنها يوماً واحداً، ومن المصروف الذي كان يرسله أبوه أخذ ينفق عليها في المطاعم والبارات والمنتزهات.. مضحياً بأوقات الدراسة والاستذكار، وكانت النتيجة الطبيعية رسوبه في أولى سنواته الجامعية، بعدما انشغل بمفاتن النساء عن دروسه وتعليمه.

مواهب ماجنة

وهكذا انشغل بهجت حمدان بحياته الأوروبية المتحررة، واكتشف في نفسه مواهب تغري الفتيات وتسحر النساء بالالتفاف حوله، فلم يعد يقنع بواحدة فقط، إلى أن ساءت سمعته بين الأوساط الطلابية العربية، ولما علم أبوه بنبأ رسوبه أصيب بخيبة أمل، وبرر له الابن أسباب فشله التي أرجعها إلى صعوبة اللغة الألمانية واختلاف الطقس وظروف الحياة، فسكت الأب على مضض، وحذره من تكرار الرسوب مهدداً بأنه سيضطر إلى قطع المصروف عنه إذا حدث ذلك.

ولم ينفع تهديد الأب لأن الشاب العابث لم يبد رغبة بينه وبين نفسه في تغيير مساره الشائن، إذ استمر على حاله في المجون حتى جاءت الامتحانات ورسب للمرة الثانية، وأخذت الجامعة بتقارير أساتذته التي تصفه بأنه سلبي لا يبذل جهداً يذكر في تحصيل العلوم فتم فصله، وأرسلت الجامعة بصورة من قرارها إلى والده بالقاهرة فصدم، وكتب في الحال إلى ابنه يطلب منه الرجوع ليعاونه في أعماله التجارية، ولكن هيهات أن يعود الابن الذي أغرته مباهج الحياة وبريق التحلل إلى مصر،و بالطبع كان الأمر شديد الوقع على نفسه، فهو لم يعد يتخيل كيف يرضى بالعيش في مجتمع القاهرة المغلق بعد ذلك، كان مجرد التفكير في ذلك يؤرقه، ويدفعه لأن يقاوم رغبة والده في العودة، بعدما ألف الحياة الأوروبية بكل صنوفها وأشكالها، ويرى في حرمانه منها الظلم والموت البطيء.

ولذلك اتخذ قراره بألا يعود إلى مصر وعزم على مقاومة تهديدات والده بإثبات ذاته من خلال الإنفاق على نفسه، وساعدته ظروف علاقاته المتشعبة في العمل بإحدى الشركات التجارية، وهيأ له راتبه حياة مجون لا تقل عما كانت عليه من قبل، فداوم على البحث عن ملذاته، وأصبح زبوناً دائماً ومألوفاً بشوارع شتافوس وشراستة وشوانبغ حيث المومسات متراصات في الفتارين وعلى النواصي يساومن المارة. وفي عام 1955 طرأ حادث جديد على حياته، حيث تعرف على الحسناء إنغريد شوالم الألمانية الرقيقة وأحبها، وبادلته الفتاة الحب بإخلاص وسعت لانتشاله من الفشل الذي يواجهه، والحياة الرخيصة التي انغمس فيها، وبعدما تزوجها حرصت إنغريد على تحفيزه لدراسة الهندسة إرضاء لأسرته في مصر، ولكي يحقق ذاته.. هكذا وقفت زوجته إلى جواره ولم يكن من هم سوى الارتقاء به لأجل حياة أفضل، ومرت سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها ألمانيا مهزومة محطمة ومقسمة.. وكانت بحاجة إلى كوادر علمية وفنية لأعمارها من جديد والدخول بها إلى دائرة التنافس الاقتصادي والصناعي مرة ثانية.

حلم الثراء

لكن بهجت كان قد توصل إلى هدف جند كل حواسه لتحقيقه، وهو الإثراء بشتى الطرق ليكون من رجال المال والأعمال المشهورين، ولأنه بلا خبرة، ولا تدعمه شهادات علمية، فشل فشلاً ذريعاً في أن يكون إنساناً ناجحاً ومرموقاً.

وفي عام 1958 حصل بطرق ملتوية على شهادة في الهندسة الإنشائية، قام بتوثيقها في السفارة المصرية وعاد بها إلى القاهرة ومعه زوجته، فأثلج صدر أبيه وغمره بالفرحة، وأحبت إنغريد الأسرة الجديدة وعشقت جو القاهرة، وسرعان ما تأقلمت مع العادات الاجتماعية وأصبحت جزءاً من نسيج الأسرة، وأمام ضغوط أبويه وإلحاحهما المستميت، وافق بهجت على البقاء للعمل والعيش في القاهرة، وبمساعدة الأب التحق بوزارة الإسكان، وعمل في مشروع الخمس سنوات الذي جندت له الحكومة وقتذاك إمكاناتها الهائلة لإنجاحه. كانت ظروف العمل الجديد تتيح لبهجت أن يغش ضميره، ويفتح يديه لتلقي المال الحرام، فعاودته من جديد أحلام الثراء التي تكسرت في ألمانيا، وأراد تحقيقها في بلده، ذلك لأن راتبه الضئيل لا يمكنه من ارتياد المراقص، والظهور أمام زوجته بمظهر أعلى يفوق موارده، لذلك عرف طريق الرشاوى مستغلاً مركزه الوظيفي، وتقرب كثيراً من أصحاب الشركات الأجنبية بالقاهرة، وأطلعهم على أسرار المناقصات والعطاءات التجارية فأغدقوا عليه الأموال، حتى فاحت رائحته بين الموظفين، واشتم فيه المسؤولون فساد الذمة ففصل من العمل، وأغلقت في وجهه أبواب الحياة في مصر، فغادرها إلى لبنان يائساً ومعه انغريد الحزينة، وفي لبنان أدركه الفشل في الحصول على عمل مناسب، فاقترحت عليه زوجته أن يعودا إلى ألمانيا حيث فرص العمل متوافرة هناك، لكنه رفض بشدة.. فهي لا تدري شيئاً عن شهاداته الدراسية المزورة التي لا يستطيع إبرازها في ألمانيا.

ومع احتدام الخلاف بينهما حملت أنغريد حقيبتها غاضبة حانقة وسافرت إلى ميونيخ وحدها، بينما طار هو إلى باريس يمني نفسه بالمال الوفير، والباريسيات الفاتنات وعالم اللهو والمجون.

سوق الجواسيس

كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال، ويرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء، أو لالتماس الهدوء بين ربوعها، وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب، فهي عاصمة النور في أوروبا، ومأوى الفن وملاذ الصعاليك، وهواة تصيد الفرص على مقاهيها، وأيضاً وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات العالمية.

وفي باريس نزل بهجت حمدان بفندق ستار بوسط المدينة، وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين- وغالبيتهم أفارقة وآسيويون لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي، وسهولة المواصلات، ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة، فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانكليزية، أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.

وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام، وتحدث معه بالعربية السليمة، واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إثناء أزمة العدوان الثلاثي عام 1956.

كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس، تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل، أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة، ويتولى بعد ذلك تقديمهم- كل حسب حالته- إلى رجال الموساد، فلما علم بروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل، فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها، فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع. لذلك رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية وهنا قدمه إلى صديقه جورج سيمون ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال، استشعر بهجت الأمان بعض الشيء، واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون، وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً، حتى تطرقا إلى مشروع الخمس سنوات وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة، وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الإسكان.

تشريح الفريسة

وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية بأموال الموساد بالطبع- قام جورج سيمون أثناءها بعملية تشريح متكاملة لفريسته، من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه، فتبين له أن الشاب المصري المفلس يعبدالمال،ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أجل الحصول على النقود.. لذلك لم يكن من الصعب استقطابه، وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء، وجاء الرد حاسماً من تل أبيب: مطلوب تجنيده وبأي ثمن.

وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي،على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع الخمس سنوات، والخطوات التي تمت بشأنه، والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية، وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.

و عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة، ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب، فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن إلى الحيلة وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.

لذلك، فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد، بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف، وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل، ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان، رتب له لقاءً حاراً في مصيدة العسل مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة، تم تصوير اللقاء بالكامل بين بهجت والسكرتيرة.

وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة، وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم، حتى بهت حمدان وتفصد عرقاً وصرخ بهجت حمدان في وجهه.

وهكذا أصبح اللعب على المكشوف بين الصياد والفريسة، وكانت الخطة تقتضي أولاً أن يسافر بهجت إلى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك، بعد ذلك يتم عمل تجاري يستتر وراءه العميل لكي لا ينكشف أمره بسهولة.

وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها، وأرسل إلى زوجته إنغريد فأسرعت إليه سعيدة بقدومه، وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية، ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية، إلى أن زاره صموئيل بوتا الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة، وناضل ضابط المخابرات الإسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح، للدفع به في الوقت المناسب إلى مصر، فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها، مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة، ومن المعلوم أن المخابرات الإسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً، بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة ,أضعاف ما أنفقته.

جاسوس محترف

واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف،انتقل بهجت إلى مدينة بريمن حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة، وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة، وصداقات متشعبة بصفته مواطن ألماني متزوج من ألمانية.

وفي العام 1967، تأكد للإسرائيليين أن الجاسوس النائم بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية، وأعمال البورصة، تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة مصر للبترول يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية، وسافر إلى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة، بعدما تركت نكسة يونيه آثارها على شتى النشاطات في مصر، وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً، وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته، فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يحضر فيها إلى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية، اتجه بتوجيه من بوتا إلى تجارة السلاح، فدرس هذا المجال باستفاضة،وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة، خاصة وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

أعجبته الفكرة تماماً، وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء، فعاد إلى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة، وتقدم إلى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات مهمة في الدولة، وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض، ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق، ومنها سابقة الأعمال.

اصطياد الضحايا

نظر بهجت حوله وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه، وهو المهندس محمد زوج شقيقته، الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه فيزر في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.

لأجل ذلك تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.

طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة، ولتنفيذ ذلك تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته، وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي، فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به، بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري، وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها إلى فيزر الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.

وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور، من أجل ذلك، أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع أن راتبه حينذاك كان لا يتعدى 25 جنيهاً شهرياً.

وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة إلى نعيم وازدهار، فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها إلى ألمانيا.

التعليقات (0)