- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
د.اشرف الصباغ يكتب : الرسالات الخادعة للفن والثقافة
د.اشرف الصباغ يكتب : الرسالات الخادعة للفن والثقافة
- 22 مايو 2021, 9:12:14 ص
- 877
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من الممكن أن نوجد علاقة قسرية بين الفن والدين، والفن الوطن، والفن والأيديولوجيا. العقل الإنساني صار قادرا على كل شيء، وبالذات على التدليس والخداع والتضليل. بل وخداع نفسه بالدرجة الأولى.
أعتقد أن الفن للفن والفن للحياة والفن للروح والفن للذوق معادلة عميقة وشبه نهائية. وهي بالقطع تتعارض تماما مع أكاذيب واجتهادات بيزنطية من قبيل الفن للدين، والفن للوطن (والوطن هنا يعني عمليا الدولة)، والفن للأخلاق.
الفن والحياة ملك الإنسان بشكل عام، ملك الجميع، لأن الفن والحياة لا يفرقان بين الناس ولا يميزان بينهم بأس شكل من الأشكال. لكن الوطن (الدولة) والدين والأخلاق بهم مشاكل ولديهم مشاكل مع البشر، ويصنعون مشاكل بين الناس وبعضهم البعض، وبين الناس والسلطة أيا كان شكلها: دينية أو سياسية!
لا فن أيضا من أجل السلطة أو من أجل النظام السياسي أو من أجل الأجهزة الأمنية. الفن فعلا للفن وللحياة وللروح بدون تمييز أخلاقي وديني ووطني.
لا علاقة للفن بالوطن (الدولة)، لأن "الوطن" مجرد "دولة" بمؤسساتها وأجهزتها ونظامها السياسي. وهذه الهياكل والتراكيب والمنظومات تقوم بهرس الناس وتهدم كل الأسس والقواعد والمعايير والتجليات الخاصة بالفن والثقافة. بل وتقوم باستخدام الدين والأخلاق لعقاب الفنانين والمثقفين والمبدعين، ولتجريف الفن والثقافة، ولتجريدهما أيضا من رسالتهما الإنسانية والجمالية الحقيقية.
قال الكاتب والمخرج المسرحي الألماني برتولد بريخت، عندما تجد الدولة نفسها في مأزق، أو أمام حرب ما، فإنها تطلق على نفسها اسم "الوطن". أي أن النظام السياسي ومؤسساته وأجهزته التي تقوم بمص دم الناس وإهدار كرامتهم، عندما يشعرون بأنهم أمام تهديدات ومخاطر تتعلق بمصالحهم وبحياتهم، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من السقوط والانهيار، يطلقون فورا على دولتهم اسم "الوطن"، ويطلبوا من الناس الذهاب إلى الحرب من أجل "الوطن". وبعد أن يموت نصف المدافعين عن "الوطن"، ويعود النص الثاني متعب ومنهك ومصاب وجريح وعاجز، نجد أنهم غيروا اسم "الوطن"، وعاد ليصبح "دولتهم" مرة تانية. وعادت معه كل أشكال القمع والاستهتار والعدمية والتجريف وإهدار الكرامة.
هذه الكيانات والهيئات والتراكيب "الشاذة" تطالبي دوما، وتسن القوانين، وتدفع المليارات من أجل أن يصنع الناس فنا من أجل "الوطن". وجاء أصحاب "الدين" هم الآخرون ليطالبوا الناس بصنع فن من أجل "الدين". بعد ذلك يتحالف الاثنان ويقولا لنا: "اعملوا فنا من أجل الأخلاق"! ويقوما معا بزراعة فكرة الرسالة "الوطنية" للفنان في وعي الناس. ثم تصبح الرسالة الوطنية، رسالة أخلاقية، وتتحول الأخيرة إلى رسالة دينية. وفجأة نجد الناس يقومون بمحاكمات أخلاقية بمعرفة الدولة وتحت إشرافها، ونجد إعلام الدولة يقوم هو الآخر بمحاكماته للفن والفنانين ويحرض الناس ضدهم. وذلك لأن لرسالة يجب أن تكون "وطنية" ومرضي عنها، أو "دينية" أو "أخلاقية" بمعايير تتماشى مع العقل الوطني- الديني، سواء كان بوجهين في رأس واحدة، أو برأسين، وكل رأس له وجهه الخاص ويسعى لامتلاك وجه منافسه أو حليفه، عبر عمليات معقدة يكون الناس هم أول ضحاياها.
العقل السليم، والتفكير المنطقي، لا علاقة لهما، بأي موقف سياسي لأي ممثل، ولا علاقة لهما بالدور الذي يقوم به الممثل في علاقته بالأخلاق وبالحرام والحلال، ولا يربطان بين شخصية الفنان وأفكاره في الواقع بالدور اللي يقوم به. هذه أمور بديهية، يحاول العقل من خلالها عدم الخلط بين مواقف الممثل السياسية والحياتية وبين أدواره من جهة، وبين مواقفه السياسية والحياتية وبين قدراته الإبداعية من جهة أخرى.
عندما نتحدث عن دور ما للمثل أو عن أدائه في فيلم ما، لا علاقة لنا بحياته الشخصية وأفكاره ومواقفه السياسية واختياراته وحياة أولاده وزوجته واختياراتهم. وعندما نقوم بتقييم مشوار ممثل ما، نسعى لعدم الخلط بين الموقف السياسي وبين قدرات الممثل. ونتفادى إلغاء أو تجاهل الجوانب المهمة من شخصيته الإبداعية لصالح جوانب أخرى من شخصيته كإنسان عادي في الحياة. وعندما نتعامل مع إنتاج ممثل، من المستحيل أن نحمله المسؤولية عن كل المصائب والكوارث، لأن السينما صناعة تساهم فيها أطراف كثيرة وأموال ضخمة وأوراق مكتوبة وإخراج وممثلين آخرين، وعوامل كثيرة أخرى.
عندما نقارن بين ممثل وآخر، ينبغي الالتزام بسياق المقارنة، والإقلاع عن التدخل في اختيارات الممثل الفنية أو انحيازاته السياسية أو الدينية أو الأخلاقية وإدانته عليها، والدعوة لمقاطعته أو اغتياله معنويا. دينه عليها.
من الطبيعي أن يقوم الممثل الجيد المهني المدرك للأبعاد المهنية والحِرَفية والجمالية بجميع الأدوار، بما في ذلك الأدوار التي تتعارض مع نمط حياته في الواقع، والتي تتعارض مع اختياراته السياسية وقناعاته العقائدية وانحيازاته الاجتماعية. مثل هذا النوع من الممثلين له تقييمات خاصة للغاية عند تناول إبداعه، ونفس الشيء عند تناول اختياراته وقناعاته وانحيازاته. بكن من الضروري الفصل بين هذين المسارين وعدم الخلط بينهما. لا علاقة لنا بأن هذا الممثل التزم بقضايا بلده أو بقضايا بلد زوجته أو بلد ابنة خالته. ولا علاقة لنا بأنه أدى أدوارا "وطنية ودينية وأخلاقية" من عدمه. ولا علاقة لنا أيضا بأنه أدى أدوار خير أو شر أو دعارة أو خدش حياء أو تحرش أو اعتصاب وقتل..
في الحقيقة، لا شيء اسمه رسالة وطنية للفن أو للثقافة، ولا رسالة دينية للممثل أو المثقف. على الممثل أو المثقف أن يمتلك قدراته الفنية والإبداعية، ويمتلك أدواته التي تأهله للعمل كممثل أو كمثقف وليس كنبي أو مبشر أو رسول. وعليه أن يشتغل على نفسه ويطور أدواته، وإلا ستتقلص إمكانياته وتنهار قدراته ويتلاشى رصيده ومنابع إبداعه مع الوقت.
إن موضوع الرسالة الوطنية أو الرسالة الدينية أو الرسالة الأخلاقية للممثل، مجرد لغو فارغ يتم فرضه في المجتمعات أحادية النظرة، والتي تقع تحت وطأة نظم قمعية واستبدادية. وللأسف الشديد أشباه المثقفين وأشباه النقاد وأشباه الصحفيين يلعبون دورا حقيرا في تحمل الفنان العديد من هذه الرسالات الوطنية والدينية والأخلاقية، فيما تلعب الأجهزة الأمنية أدوارا أوسخ وأحط من أشباه المثقفين وأشباه النقاد وأشباه الصحفيين.
في نهاية المطاف، لا شيء اسمه فنان أو كاتب يحمل رسالة، ولا شيء أصلا اسمه رسالة وطنية أو دينية أو أخلاقية. هنا فقط كاتب وفنان يعرفان شغلهما وصنعتهما بحرفية وبجودة، ويعملان على نفسيهما من أجل تطوير مهاراتهما وأدواتهما وإمكانياتهما. هذا الكلام لا يتعارض إطلاقا مع أن يمتلك الفنان رؤية ما لمجتمعه أو يحمل ثقافة سياسية ما، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.
موضوع الرسالة هذا، يأتي فيما بعد عبر تقييمات فنية وإبداعية لها سياقاتها وقوانينها وقواعدها، ويكون عادة عن مجمل أعمال الكاتب أو الفنان في سياقات وتحولات اجتماعية وتاريخية معينة. هذا التقييم يتعامل مع جوانب عدة بدون أن يطغى جانب على جانب أو أن يتم تدمير جانب لصالح جانب آخر.
إن رسالة الكاتب أو الفنان تتلخص في أن يقدم إنتاجه بحرفية وإتقان عبر أدوات يتقنها. أما تأويل الرسالة، فهذا أمر آخر. واستخدام هذه الرسالة وتوظيفها، فهو أمر ثالث! وبالتالي، فالمجتمعات المغلقة والمتأخرة والواقعة تحت وطأة القهر والاستبداد والقمع تخلط الأدوار وتستجيب لحقارة وانحطاط النظم السياسية ووسائل إعلامها ونقادها ومفكريها وكتبتها وتُنَصِّب من نفسها قاضيا ومُنَفِّذا للحكم في آن معا. تلك المجتمعات المغلقة والغارقة في التعاليم الأخلاقية والدينية والسياسية تستريح لفكرة الرسالة الوطنية والدينية والأخلاقية للفن وللفنان وللمثقف بشكل عام، ولا تدري أن هذه هي لعبة الأنظمة السياسية لقمع الفن والفنان واستخدامهما في أغراض منافية للفن ولرسالته، بل ومن أجل تدجين الناس باسم الدين والوطن والأخلاق.