أرض السناكيح .. قصة قصيرة .. إبراهيم القاضي

profile
إبراهيم القاضي كاتب و روائي
  • clock 28 مايو 2021, 1:08:07 ص
  • eye 1190
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

حتى وقت قريب، كان يمكنك أن ترى حلمة أذنيك، ولا تسمع أحدًا من بلدتنا يسب آخر، سوى على سبيل الهزار والتهريج.. كانت قريتنا ميت سنكوح مثالية، يساعد سكانها بعضهم بعضًا.. بينما الأغراب كانوا ينظرون إلينا بعين الحسد والضيق، فلو اقترنت صبية من بلدتنا بجدع منهم، كان يزحف خلفها يوم زفافها جيش، كجيش المعتصم حين نادته الأعرابية، ما يثير الرعب والفزع في صدر العريس، الذي إن كان عاقلًا هو وأهل بلدته، يهتدي ويُقصر الشر ويلم نفسه من ناحية الصبية من أولها، لعلمه بالأيام السوداء التي تنتظره إن أطال لسانه..

لكن العين فلقت الحجر، ونجح الحاسدون في مسعاهم، وأصبحت ميت سنكوح الهادئة ساحة لفتن ومعارك مثل الفيضانات جرفت في سبيلها الجميع بين عائلتين.. وصار الرجل يمسك في خناقه جاره، لأتفه الأسباب.. وشاعت الكراهية في بلدنا، ولم يعد لحب زمان مكان حتى في بئر ذاكرة البلد العميق..

الله لا يسامحه ولا يبارك له، سيد بيه أبو العجول، هو من أشعل الفتن بعد ما لعب في دماغ أكبر رأسين في قريتنا، وراح يزيغ إليهما كالشيطان الرجيم، يغويهما بمجلس النواب وجنته، التي أُعدت للفائزين، ما أشعل حرائق الطمع في قلب الرجلين.. ومازال الناس يضربون الكف بالكف، وهم يرددون غير مصدقين: الحاج مسعود أبو دماغ والحاج عطية سبعاوي كانوا مثل مؤخرتين في سروال واحد!


في الماضي، أعطت قريتنا ظهرها للبرلمان وانتخاباته وما تجلبه من وجع الدماغ.. و كان المُرشح "المتودك" الذي يعرف أهل دائرته، يوفر فلوسه ولا يُعلق لافتة واحدة فيها.. أما المرشحون الذين دخلوا بصدورهم، وليس لديهم مستشارين انتخابات عُقر، من الذين يعرضون خدماتهم، في مقابل المال، كانوا يأتون إلى بلدنا، ويطوفون كل شبر فيها، يلثمون خدود صغارها، ويقبلون أيادي كبارها، ويلقون خطب رنانة، تجذب التصفيق والتهليل، بيد أنها كانت مثل الزفة "الكدابة"، ينتهي تأثيرها بعد آخر كلمة تخرج من فم المرشح الغشيم.. ومن تقاليد قريتنا أنها كانت تُرحب بالضيوف، وتتطرف في إكرامهم، لذا لم تكسر بخاطر مرشحًا يومًا، بل كان يرجع إلى بلده وفي بطنه بطيخة صيفي، أن ميت سنكوح صارت في جيبه الصغير.. 

كان هبوط سيد بيه أبو العجول إلى بلدتنا، مثل القضاء المستعجل، تاريخًا فاصلًا، أعلنت فيه قيم الحب والتسامح والرحمة الرحيل بلا رجعة من قلوب الخلق.. كلنا نعرف البيه، وخطوته الواسعة عند الحكومة، فإشارة من أصبعه، أوامر ينفذها أكبر رأس في المحافظة، وانتشر على نطاق واسع، أنه يشارك الكبار قوي في مشاريع وأراضي على مدى الشوف، ويحكي البعض أنه سمع أبو العجول بعظمة لسانة يقول، أن لديه أموال لو أُضرمت فيها النيران سنين، لن تنفد.. لذا كان المرشح المخضرم، يسعى إليه، برأس منكس، وبلسان لا يعرف سوى مفردات التذلل والخضوع، لينال البركة، ويُدون اسمه في سجلات البرلمان، نائبًا للشعب العظيم!

كان البيه حين يسمع اسم ميت سنكوح، تحمر أذناه، ويحطم ما يظهر أمامه، مثل الثور الهائج، رغم أنه من أبناء القرية، لكن الله فتح عليه من وسع، وأقام في قصر في مصر، ولم يُفكر في زيارة مسقط رأسه، لأسباب يعرفها العيل الصغير عندنا قبل الكبير..

 كان البيه -الله يسترها علينا- وهو عيل صغير، غاوي حمير، وكان أهل البلد يحذرون بعضهم من ربط مطياتهم خارج الزرائب، حتى لا يأتيها أبو العجول، متسترًا في جلباب ليل قريتنا شديد السواد.. ولكن الولد لم يرجع عن ما في رأسه، وسقط على زريبة زكريا الحلوف، الذي كان يتفقد لحظتها مواشيه بلمبته "الكشف"، ورأى ما يصنعه سيد بحمارته، ما لم يستطع هو نفسه- الحلوف- فعله مع امرأته في فراش الزوجية.. فأمسك به، وربطه في جزع شجرة عريانًا، ولما طلع النهار، استحلف الناس زكريا بالغاليين أن يترك الولد، لأجل أبيه المسكين، الذي يُكمل عشاه نوم، ومتوعدينه بالحرق حيًا، إن هو عاد إلى تلك الأفعال.. 

بيد أن أثره اختفى من البلد ومن الناحية كلها بعدها، وظن الناس أن ربنا افتكره، إلى أن ظهر في تليفزيون الدمايغة الوحيد أيامها في ميت سنكوح، برفقة مذيعة شهيرة، سألته عن نشأته، فأجاب باقتضاب، ذاكرًا اسم بلدتنا.. كان يتحدث بلسان مثل ألسنة أفندية البندر المتنورين، ويلفظ مفردات عصية على فهم الخلق، مثل الديمقراطية والاشتراكية، رغم أنه  كان في صغره يفك الخط "بالعافية".. 

كان مخططًا من أبو العجول للانتقام من بلدتنا، يوم زارنا بدعوة من أكبر رأسين فيها.. ووقعت الفأس في رأس، واندلعت المعارك بين الدمايغة والسبعاوية ، وصرنا كل يوم نحصي، أعداد الجرحى والقتلى وحالات الطلاق بين أزواج من الفريقين.. وحاول أهل الله في البلد، التقريب بين العائلتين، وإحلال السلام.. لكن الشر قد أحكم مقاليده.. وانتشرت حروب اللافتات المعلقة فوق الأشجار وفي الغيطان، وفي إحداها كُتب "حتى البهايم تؤيد كبير الدمايغة"، وأخرى "العجل في بطن أمه سبعاوي أبًا عن جد"..

ومن المعروف عن مسعود وغريمه عطية، أنهما بالرغم من شيبهما، وعلو مكانتهما في قرية ميت سنكوح، كانا من أبناء الحظ الأوفياء، الذين لا يتركون سبيلًا للمسخرة، إلا وسلكوه.. وأن ما يعرفانه عن البرلمان، ليس أكثر مما تعرفه الحمير في الغيط عن اللغة اليابانية.. لكن سيد بيه أبو العجول، لعب في رأسيهما، وقال لهما كل على حدة سرًا، أن أبواب الدنيا ستُفتح للنائب، وذكر لهما النعم التي كان يتمرمغ فيها معوض اليتيم رحمه الله، نائب الدائرة السابق، الذي تزوج إحدى نجمات السينما، وصار يمتلك أكثر من توكيل لشركات سيارات عالمية، وعاش في دنيا غير الدنيا، وأصبح اسمه على  طرف كل لسان في بر مصر..             

عليه العوض ومنه العوض، ربنا ينتقم منه أبو العجول، ظل خلف الرجلين، حتى باع أرضيهما، لنيل عضوية البرلمان، وصارا على الحميد المجيد.. كان الغريمان يحوذان ثلاثة أرباع أطيان ميت سنكوح، وأخذها منهما سيد بيه، فدان وراء فدان، دون أن يدس يده في جيبه، ويخرج مليمًا واحدًا..

وفي الحقيقة سيد بيه، لسانه يقطر عسلًا مصفى، يدخل الدماغ  دون استئذان، وكل مرة كان يقنع كل منهما، أن ما باعه اليوم لأجل عيون البرلمان، سوف ينال عشرات أضعافه، حين ينال العضوية، والناس تقول حضرة النائب راح، وحضرة النائب جاء، وتُفتح له أبواب السماء، ويصير مثل اليتيم رحمه الله، غرقان في النعم والنسوان، اللائي لم تطأ أقدامهن من قبل أرض ميت سنكوح ولا الناحية كلها.. ولو ركب الفقر صاروخًا وركض خلفه، لن يلحقه أبدًا..

بيد أن الفقر، ظل في مكانه، ولم يحرك ساكنًا، وأتى الرجلان إليه هرولة، في خضوع وانكسار.. ظل أبو العجول خلفيهما، حتى لم يبقى لديهما غير سرواليهما، وبعدها أمك في العش ولا طارت..

كان يوم لم تطلع فيه شمس، بدى من صباحه، حيث ذهب أهل البلد إلى صناديق الانتخابات، هذا يهتف بحياة الدمايغة وآخر يرقص على أنغام المزمار، ويردد "إن جيت للحق، ابن السبعاوية، أحق"، ولم يقتصر الشر عند المكايدات اللفظية، وامتدت الأيادي، وتلاطمت النبابيت، ورفعت النسوان عقيرتهن بالصويت والشتم والتهديد، ولم ينتهي، إلا حين أُعلن فوز ابن معوض اليتيم بعضوية البرلمان باكتساح مبين.. فأنزلت الصدمة النبابيت أرضًا، ووضع المتحاربين أذرعتهم جانبًا، وأدخلت النسوان ألسنتهن في أفواهن، إلا امرأتا الغريمين، اللائي ولولن على حال بعليهما بالصوت الحياني.. 

لكنهما اعتصما بالأمل، ولم يطرق اليأس أبوابهما، واتفقا في مقرهما الجديد بمستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية، أن يترشح أحدهما في الانتخابات القادمة، وسوف يحصد العضوية، مثلما يحش الفلاح بشرشرته البرسيم.. وإن كان تبقى عائقًا وحيدًا، لم يأخذ من بالهما سوى لحظات، وهو من أين يأتيا بالدعم المادي؟، فالأمر جد يسير، وسيد بيه أبو العجول ابن حلال، لن يسمح لنفسه بأكل الحرام، وسوف يُرجع إليهما أطيانهما أو يُزيد..          


موضوعات قد تهمك:

د.يحيى القزاز يكتب : لست وحدك المحبوس ياجمال


النظام السعودي يسخر إعلامه للهجوم على المقاومة الفلسطينية


د. يسري عبدالغني يكتب: إبداع أسامه أنور عكاشه الذي لانعرفه---!!!!


التعليقات (0)