تكبير الخط تصغير الخط

لم تكن حرب احتلال العراق حرب فجائية أو اجتهادية لليمين الأمريكي الحاكم ... بل هي جاءت نتيجة تحالفات وتفاهمات واتفاقيات خطيرة منها علنية ومنها سر ّية بين الدول الكبرى من جهة وبين بعض الدول الإقليمية وبعض فصائل المعارضة العراقية
من الجهة الأخرى . فمشروع احتلال العراق في 2003 استند كليا ً من الناحية السياسية والأخلاقية
على مشروع تحرير العراق الذي تبناه الكونغرس الأمريكي في أيار 1998 , وهذا المشروع استند هو الآخر بدوره على (( إعلان التضامن )) , أما إعلان التضامن وكما سمي إعلان على الملأ ... فكان من جملة الموقعين عليه ثلاثة من أكبر باحثي ومفكري أمريكا وهم " زبينغو بريجنسكي " صاحب نظرية (( الاختيار )) و " صاموئيل همنغتون " صاحب نظرية (( صراع الحضارات )) و " فرانسز فوكوياما " صاحب نظرية (( نهاية التاريخ )) , وجميع هذه النظريـــــات في مكنونهــــا الداخلــــي (( تشرع نشر النموذج الأمريكي أي الديمقراطية زائدا ً الإقتصاد الحر , جميعها
تحرض باحتلال الدول والشعوب والأمم لكي تقلد النموذج الأمريكي وتتبعه سياسيا ً واقتصاديا ً وثقافيا ً )) .
ويبدو أ ّن انهيار الشيوعية العالمية بشقيـها الإيديولوجي العقائدي والعسكري المخابراتي (( حلف وارشو )) جعل جميع الأبواب والمنافذ مفتوحة على مصراعيها لنشر النموذج والثقافة الغربية إعلاميا ً واقتصاديا ً وسياسيا ً وإن تعذر ذلك يتم اللجوء إلى القوة العسكرية الفتاكة التي تمتلكها واشنطون ـ لندن ـ برلين ـ باريس ـ روما فيما يسمى بحلف (( شمال الأطلسي )) , وما احتلال غرينادا وبنما وهاييتي وأفغانستان
والعراق إلا ّ دليلا ً واضحا ً فيما نذهب إليه .
فالغرب الرأسمالي ـ الليبرالي لم يعد ينتظر المفاجئـــات ولا قوانيــن الميتافيزيقيـــا

لكونية لكي تنجب له إتحاد سوفيتي جديد أو صين كبرى عظيمة أخرى . لذا اتخذ قراره الستراتيجي السري بالإنقضاض على جميع الدول الضعيفة  والمتهرئة والتي تسمى أمريكيا ً بالدول القلقة والفاشلة فيحتلها ويحولها إلى مدينة تابعة من مدن الغرب الرأسمالي ... والعراق كان في عهد صدام والبعث واحدة من هذه الدول القلقة والفاشلة بسبب الحصار الإقتصادي ذو 13 عاما ً متواصلة والسبب الآخر الجهل والرعونة السياسية التي كانت تغلف جميع تصرفات قيادته على المستوى
الداخلي والخارجي على ح ٍد سواء .... فالشعب في عهد النظام السابق كان يقيم في وادي وصدام وقيادته تقيم في وادي
آخر ... ونظرية القائد الأوحد والبطل الأوحد والزعيم الضرورة جعلت العراق بأكمله يعيش دون مستوى خط الفقر ودون مستوى خط الجهل ....
فرأت أمريكا وبريطانيا فرصة ذهبية في ذلك وراحت تر ّوج لفكرة أسلحة الدمار الشامل الموهومة وتخدع الرأي العام الأمريكي والإقليمي بضرورة التخلص والإطاحة بصدام والبعث لئلا تحدث أحداث حادي عشر من أيلول جديدة , ولكن هذه المرة بالأسلحة النووية والكيميائية المزعومة التي يمتلكها صدام وحزبه ... وسخـّرت لذلك مبلغا ً قدره 191 مليون دولار تنفق على أحزاب المعارضة العراقية في المنفى , وعقدت الإجتماعات واللقاءات بين أطراف المعارضة العراقية في كل من لندن , نيويورك , ف ّينا ... ثم عقدت ندوات أخرى في الكويت ومنتجع صلاح الدين في العراق وكلها تهيء الرأي العام الإقليمي والدولي بضرورة التخلص من صدام والبعث لما
يشكله هذا النظام من تهديد خطير للأمن والسلم الإقليمي والدولي على ح ٍد سواء . كما تمت عملية تدريب أكثر من ثلاثة آلاف عراقي من عراقيي المهجر بصفة مترجمين فوريين للقوات المحتلة وكانت تجري هذه الدورات في كل من رومانيا
وبلغاريا وبولونيا ولمدة ثلاثة أشهر فقط .... وبتاريخ 2003/2/2 زار نائب الرئيس الأمريكي " ديك جيني " خمس عواصم
عربية وأخرى أجنبية أي قبل الإحتلال بخمسة وأربعين يوما ً أوضح فيه تشيني لهذه العواصم إصرار واشنطون ولندن القوي والمبدئي على إسقاط الحكومة المركزية في بغداد ... وهذه العواصم هي , الكويت , أبو ظبي , ألرياض , ألقاهرة , ألدوحة ,
والعاصمة الأجنبية هي أنقره . وحاولـت قــطـر جاهـدة إقنــاع صـدام بالتخلـي عـن السلطـة مـع نجليـه إلا ّ أنهـــ

فشلت في مسعاها هذا ... وقد أبدت جميع هذه الدول استعدادها الكامل للتعاون مع واشنطون ولندن باستثناء أنقره التي رفضت ذلك لأسباب ستراتيجية منها سياسي ومنها أخلاقي , وقد أثبت التاريخ صحة الموقف التركي .
فتحشدت الجيوش وحاملات الطائرات والغواصات العملاقة ذات الوقود والسلاح النووي تهيأ ً لتنفيذ الخطة المرسومة , فبدأت الحرب بتاريخ 20 / 3 / 2003 وسقطت بغداد وقيادات الدولة وكافة مؤسساتها في 9 / 4 / 2003 لتبدأ مرحلة دموية جديدة من مراحل وعمر تاريخ العراق المعاصر