- ℃ 11 تركيا
- 24 ديسمبر 2024
يحيى مصطفى كامل يكتب: الحرب على غزة وقضية تحرر البشرية
يحيى مصطفى كامل يكتب: الحرب على غزة وقضية تحرر البشرية
- 4 نوفمبر 2023, 8:03:01 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بأعصابٍ متوترة ونفوسٍ مضطربة، أزعم أن الملايين، خاصةً في عالمنا العربي والإسلامي، تتابع أحداث المجزرة الانتقامية، البدائية والوحشية على غزة، ذلك الجيب المحاصر، التي بات لزاماً أن نصفها بحملة إبادة أو تطهير عرقي ومشروع نكبةٍ جديدة، ما أردنا الدقة العلمية؛ مع كل دقيقةٍ تمر يرتقي عشرات الشهداء من الأطفال، وما لا يقل عنهم من الكبار، وبذا نستطيع أن نقرر بأن إسرائيل تبيد الحاضر وتحاول وأد وقتل المستقبل.
ولما كانت هذه الحرب كاشفةً تماماً كما قلنا من قبل، فلعل أول ما كشفته هو عمق الشعور بالإهانة والقهر، الذي تشعر به الجماهير العربية والإسلامية إزاء الكيان الصهيوني، وكم الشوق إلى النصر والعزة والكرامة، فتَحتَ مظاهر اللامبالاة والانصراف إلى المشاكل المزمنة والقضايا الملحة، اتضح على وقع المأساة ونزيف الدم والدمار المستمرين، أن ثمة وعياً وشعوراً وتضامناً، أياً كانت بواعثها ومصادر تماهيها، قومية كانت أو دينية، أو حتى محض إنسانية، أو خليطاً من كل ذلك، يكمن عميقاً في نفوس تلك الجماهير تحت ركام البلادة والإحباطات المتكررة، حتى تلك التي أبرمت حكوماتها اتفاقيات سلامٍ ( أو من هي في سبيلها إلى ذلك)، بل ربما بالأخص تلك الجماهير، التي كانت تراقب بعدم اكتراثٍ مساعي تلك الأنظمة الحثيثة وخطواتها متسارعة الوتيرة للتطبيع الأقرب والأكثر دفئاً مع الكيان الصهيوني والرهان المتعاظم عليه، كمدخلٍ لأروقة الكونغرس والبيت الأبيض ومن ثمة الرضا والدعم الأمريكيين وشيئاً فشيئاً النفوذ والمقدرة على التأثير لديها.
ثم جاء طوفان الأقصى لا ليكشف لنا وللجماهير، بل للأنظمة ذاتها ولإسرائيل والغرب مدى هشاشة هذه الترتيبات، فهي مبنيةٌ في الهواء، لا تستند إلى أي أرضٍ صلبة ولم تستطع أن تضرب لها جذوراً، رغم عقودٍ طويلة من إفساد الوعي المنهجي، من قبل الأنظمة المستبدة المتسلطة، بل إن كانت هذه الأرض تحفلٍ بجذورٍ غائرة راسخة، وتختزن شيئاً، فهو الرفض الجارف الحارق لكل محاولات التطبيع أو إدماج الكيان الصهيوني في هذا المحيط العربي المشرقي الأصيل، بغض النظر عن دوافع هذا الرفض الهوياتية في ما لن نتطرق له هنا، ويكفينا تقرير وجوده الراسخ ودوره الفاعل.
المظاهرات لا تهدف إلى تحرر وكرامة الشعب الفلسطيني فحسب، بل تفتح الطريق لانبعاث حركة تحررٍ للبشرية من نظامٍ عالمي يسحق الإنسان لكن بحرفية وعن بعد ومن راء ستار
في ما مضى، حين كنا نكتب عن هذا الرفض الغريزي، أو»الحشوي» لنقل، كنا نُتهم بالمبالغة والطوباوية والأفكار الرومانسية، أما الآن، في خضم مظاهر التضامن رغم قمع الأنظمة، وبعيداً عن إثبات صوابية وجهات نظرنا، والثأر لقناعاتنا، فإننا نشاهد الدليل العملي الدامغ على صدق منطلقاتنا. منذ تَفَجُر المعارك كنت وما زلت على قناعةٍ تزداد ترسخاً يوماً بعد يوم بأن هذه الجولة مُؤسِسَة وستشكل ملامح الحقبة المقبلة، بل هي بالفعل تدشنها، بالقدر نفسه الذي تخط به ندوباً وجروحاً عميقة في نفسية شعوبنا وفي الوعي الجمعي العربي، وأننا سنناقش نتائجها لسنين مقبلة؛ لكنني، على الرغم من ألمي من شلال الدم، وعوضاً عن التكهن بالنتيجة القريبة من حسابات الخسائر في الأرواح، وكم ستكبد المقاومة الجانب الإسرائيلي من خسائر وكيفية وصيغة التسوية (التي أعلم وأجزم أنها مؤقتة محكومٌ عليها بالانفجار في جولة صراعٍ أخرى لا محالة) أرى لزاماً لفت النظر إلى الأثر الأوسع، الإنساني والكوني، الذي أحدثته المقاومة، على الأغلب دون حسابٍ أو تخطيط، كأي انفجارٍ أو بركانٍ لا تستطيع التكهن بآثاره واتساع دوائره. لقد شاهدنا وسمعنا انحياز الإعلام الغربي لإسرائيل في تغطية الأحداث، وتبني روايتها، بل إن المراقب لا يراه يتناول الشهداء الفلسطينيين كبشرٍ أو ضحايا، بل مجرد أرقام، وكم علق كثيرون منا على السقوط المهني المريع والصادم والمزري لهذا الإعلام، الذي كان كثيرون منا حتى البارحة يشيدون به، ويستشهدون به على إعلامنا المنحط مكشوف الوجه، تماماً كما شاهدنا كيف هُرعت الحكومات الغربية إلى الإدانة والدعم غير المشروط للكيان الصهيوني، بل هُرع بلينكن يطوف بالعواصم العربية بعد إسرائيل، حيث إن الرؤساء العرب (والسيسي مثالٌ فاقع) لم يبدوا ما كان ينتظر منهم من غضب، بل كلٌ يبحث عن مصالحه ويصدر تصريحاتٍ لا مفر منها أمام جمهورٍ غاضب هائج منتظرين بفارغ الصبر أن تمر العاصفة. وشاهدنا المظاهرات الحاشدة في عواصم الدول الغربية، على الرغم من أنها ضد المواقف الرسمية، ورغم الحظر في حالة فرنسا مثلاً في تعدٍ صارخٍ على الحريات، في بلدٍ يتشدق ويزايد بها كما لو كانت بنته أو ملكية خاصة به.
هل هناك رابط بين ردة فعل هذه الأنظمة وتحركات الشارع؟ هذا هو الاستنتاج الأهم والسؤال الجوهري في رأيي، وأحد الكشوفات السنية والمبهرة لطوفان الأقصى.
ملأى هي الحياة في عالمنا المعاصر بالتفاصيل، ويزيد الإعلام بوسائله وتسلله الجبارين من تعقيد الأمور، وإضفاء غلالةٍ ضبابية عن طريق تزييف الوعي من فوضى الأفكار، ولعل المنقبة الكبرى لطوفان الأقصى هو كونه شفَّى هيكل علاقات الدول والرأسماليات الغربية، فأزال كل الشوائب والزحام والضجيج، ولم يُبقِ سوى ما هو أساسي، وقديم في حقيقة الأمر إلا أن الناس، بسبب فقدان طروحات اليسار (وتياره وحركته الأعرض من الناحية الفعلية) لبريقه، وللُهاث حكامنا وراء الغرب، صاروا يتجاهلونه: إن إسرئيل ليست إلا قطعةً مزروعةً من الغرب… قلعةٌ متقدمة لا تختلف كثيراً عن ممالك الصليبيين، ومن ثمة الحامي لا لمصالحهم فحسب، بل لجملة الترتيبات التي تشكل العلاقات الاقتصادية والدولية، التي تشكل عالمنا اليوم بما فيها من سيادة وسيطرة رأس المال؛ هذا ما حرك المظاهرات في أنحاء العالم، فالكثير لا ينتفض للإنسانية المسحوقة والمهانة والمستغلة والمستلبة في فلسطين فحسب، بل يعلن عن رفضه لجملة الترتيبات التي أوجدت وخلقت هذا الظلم وهذا الوضع والعالم الشائهين القبيحين، الذي تثري فيه هذه الرأسماليات بتغذية الصراعات وتتحدث عن حقوق الإنسان، وهي تصنع فوائضها المالية من مبيعات الأسلحة الفتاكة.
إن هذه المظاهرات لا تهدف إلى تحرر وكرامة الشعب الفلسطيني فحسب، بل هي تفتح الطريق لانبعاث حركة تحررٍ للبشرية من نظامٍ عالمي يسحق الإنسان لكن بحرفية وعن بعد وراء ستار، حتى تأتي معركةٌ كتلك فتكشف قبحه وظلمه ودمويته.
إن طوفان الأقصى فضح زيف هذه الأنظمة الغربية ونفاقها، وذلك العالم الذي يسيطر فيه رأس المال ويرسم خرائطه وسياسته بأنهارٍ من الدماء، كما فضح الإعلام الغربي بانحيازه الصارخ، وفضح هُزال وتهافت الأنظمة العربية، وكشف أن الشعوب، رغم الإفقار، بل التجويع، والإهمال والتهميش لم تزل بخير ومعدنها نقي وأصيل. لكننا لم نر كل شيءٍ بعد، وكصخرةٍ ألقيت في بركةٍ راكدة، سوف نرى توابع وآثار طوفان الأقصى لعقود مقبلة، وستتكشف نتائج أخرى، وإن للحديث لبقية.
كاتب مصري