- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
ياسر رافع يكتب: دولة واحدة ونظامان عسكريان.. ما الذي يجب أن يكون عليه “الموقف” المصري من الصراع في السودان؟
ياسر رافع يكتب: دولة واحدة ونظامان عسكريان.. ما الذي يجب أن يكون عليه “الموقف” المصري من الصراع في السودان؟
- 25 أبريل 2023, 3:02:15 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يكن مشهد الضباط والجنود المصريين وهم مأسورون على يد ميليشيات الدعم السريع السودانية، والتي هاجمت مطار "مروي" السوداني على وقع القتال الدائر بينها وبين الجيش النظامي السوداني، مشهداً اعتيادياً بالنسبة للشارع المصري الذي ينظر لقواته المسلحة بنوع من التقدير المتصل بتاريخ عسكري كبير من الإنتصارات العظيمة، فقد رأى جنوده مطروحين أرضاً يقوم بعض أفراد تلك الميليشيات بسبهم والاحتكاك بهم.
مشهد الجنود المصريين في السودان أثار شحنة عارمة من الغضب! وأسئلة كثيرة حول طبيعة تواجد القوات المصرية في السودان، وهل لتلك القوات علاقة بالصراع الدائر بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع! وهل مصر تساند طرفاً على حساب طرف في تلك الأزمة؟!
أسئلة لم تدم لساعات حتى خرجت مصر الرسمية لتعلن عن أسفها لما حدث لقواتها والتي تقوم بمهام روتينية في إطار تعاون مسبق مع الجيش السوداني، وأن مصر ليس لديها أي علاقة بالصراع على السلطة الدائر بين الجيش والدعم السريع، وأن على قوات الدعم السريع تأمين سلامة قواتها وضمان عودتهم مرة أخرى إلى مصر سالمين.
جاءت تلك التصريحات على لسان رأس السلطة في مصر أثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية برئاسة "عبد الفتاح السيسي".
على الرغم من التهدئة الضمنية التي أوصلتها القيادة المصرية للشعب على سلامة موقفها من الصراع الداخلي السوداني، وكذلك التأكيد على سلامة وعودة القوات المصرية من السودان، وهو ما حدث بالفعل، إلا أن التساؤلات ظلت محبوسة داخل الصدور حول طبيعة الدور المصري في السودان فيما هو قادم، خصوصاً مع احتدام المعارك هناك.
لقد أصبح بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يحتاج لتفسير حول دور مصر في حال تحولت الأزمة في السودان لحرب أهلية، هل تظل بعيدة عن ذلك الصراع أم ستتدخل لحماية أمنها؟! ومع من ستقف الجيش السوداني أم ميليشيا الدعم السريع؟ وهل كانت هناك إشارات لذلك الصراع؟
الحرس الثوري الإيراني – رويترز
الحرس الثوري الإيراني
في العام 1979، وفي أعقاب الثورة الإسلامية في إيران قام الحكام الجدد "الملالي" بتأسيس ميليشيات الحرس الثوري بجانب الجيش الإيراني الذي عزل وحوكم معظم قواده بعد الثورة بسبب انتماءاتهم لنظام الشاه البائد، وكان سبب تكوين قوات الحرس الثوري وهو حماية النظام الثوري من أعدائه، ويكون بجانب قوات الجيش المعاد تنظيمه قوة لا يستهان بها في الإقليم.
لكن بمرور السنوات كبرت وتوحشت قوات الحرس الثوري؛ حيث أصبحت أقوى تسليحاً، وعتاداً من الجيش، بل تمتعت بإمبراطورية مالية وسياسية كبيرة؛ مما جعل أي تغيير في رأس السلطة في إيران يمر عبر موافقة تلك القوات، والتي يرأسها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وامتد تأثيرها من الداخل الإيراني إلى كامل الإقليم وأصبح ظهور اسم تلك القوات أو انخراطها في أي نزاع إقليمي مثار خشية من طبيعتها العسكرية والأيديولوجية، وتشعبت علاقاتها الدولية وكذلك تحالفاتها.
هكذا كانت الإشارة الأولى لمصر التي فوجئت بدولة ونظامين عسكريين، وعلى ما بدا من سياق الأحداث، فإن مصر تعاملت مع الوضع بالطريقة التقليدية في إطار العلاقات العربية الإيرانية سياسياً، وليس من منطق طبيعة انشقاق القوة العسكرية الإيرانية ومدى تأثيرها مستقبلاً على المنطقة.
فهل تكررت الإشارات؟!
من رحم الحرب الأهلية اللبنانية وبعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني 1982، تأسس في لبنان "حزب الله" في العام 1982 ليؤسس كياناً سياسياً واجتماعياً يدافع به عن الطائفة الشيعية في الجنوب اللبناني، وليؤسس لشرعية جديدة في تكوين فسيفساء الجدار السياسي اللبناني، ولكنه حدد أيديولوجيته قائلاً: "مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين، هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني".
هكذا حددت عوامل الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي والطبيعة الأيديولوجية طبيعة حركة الحزب وفلسفته فيما هو قادم، الذي ما إن انتهت الحرب الأهلية 1990 حتى أصبح الحزب بمرور السنوات الأكثر تسليحاً وعتاداً بل الأكثر تأثيراً في السياسية اللبنانية التي أصبح جيشها الرسمي كياناً لا يذكر أمام تسليح قوات حزب الله الأكثر تدريباً وتسليحاً، بل أصبح للحزب تمثيل دولي يتمتع بشرعية القوة على الأرض في لبنان لدى كثير من الدول، وأهمها بالطبع الدولة الإسلامية في إيران.
كانت تلك الإشارة الثانية أمام القيادة المصرية لظهور قوة عسكرية برأسين، ولكن في بلد عربي، ولكن هذه المرة انتبهت مصر لطبيعة القوة العسكرية الناشئة، ولكن كان التعامل معها وفق رؤية مشتركة مع دول الخليج، وخاصة السعودية، وهو ما ثبت فشله بعد ذلك.
هل انتهت الإشارات؟
أدى سقوط نظام الرئيس صدام حسين على يد القوات الأمريكية في العام 2003، إلى إعادة تشكيل القوى السياسية والعسكرية، ولظروف الاحتلال الأمريكي وتسريح قوات الجيش العراقي القديم ثم إعادة تشكيله مرة أخرى، ظهرت قوة "داعش" التي اجتاحت العراق ولم يستطع الجيش العراقي صدها ولا الوقوف في وجهها، واحتلت مساحات واسعة من العراق، واستباح التنظيم كل شيء، الأرواح والأجساد، مما دعا المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف إلى تكوين ميليشيات مسلحة أطلق عليها اسم "الحشد الشعبي"، والتي كان لها دور فعال مع الجيش العراقي والقوات الدولية في القضاء على تنظيم داعش.
لكن مع القضاء على "داعش" تحولت قوات الحشد الشعبي غير الرسمية إلى فاعل رئيسي في الشأن العراقي، وبدأت تحدث احتكاكات ومناوشات بين تلك القوات والمكونات السياسية العراقية، مما بدأ ينذر بتشكل قوات موازية على نمط الحرس الثوري الإيراني، وهو ما قوبل برد فعل شعبي وإقليمي ودولي رافض لتلك الخطوة، وهو ما أدى في النهاية إلى سن قانون وافق عليه البرلمان العراقي بدمج قوات الحشد الشعبي في الجيش العراقي.
مع تلك الإشارة الثالثة يبدو أن مصر استفاقت وسارعت إلى مساندة الدولة العراقية في مواجهة قوات الحشد الشعبي ولجمها حتى لا تقع الدولة العراقية في براثن حرب أهلية، ومحاولة احتواء التمدد الإيراني في المنطقة، والذي تشابكت أذرعه العسكرية خارج حدوده لتشمل كامل الإقليم في سوريا واليمن والعراق؛ بل امتد إلى أرمينيا وأوكرانيا، وأصبح الذراع العسكرية خارج المؤسسة العسكرية هو شبه مهيمن على العلاقات الدولية في المنطقة.
في الأزمة السودانية في دارفور احتاجت الدولة إلى من يساعد الجيش في حربه ضد المتمردين من القبائل الإفريقية، فقامت بتسليح قوات من القبائل العربية بقيادة "محمد حمدان دقلو" الشهير بـ"حميدتي" وهو رجل غير متعلم احترف التجارة غير المشروعة عبر الحدود، ولكنه يتمتع بقدرات تنظيمية هائلة، مكنته من تكوين ميليشيات عرفت باسم "الجنجويد"، والتي ارتكبت فظائع وجرائم حرب في دارفور جعلت المجتمع الدولي ينتبه لها ولخطورتها.
لكن مع انتهاء الأزمة ظهر احتياج آخر لتلك الميليشيات ولكن هذة المرة لمساندة رأس السلطة في الخرطوم، فالرئيس "عمر البشير" أراد مساندة قوات ولاؤها بالكامل له في وجه بعض جنرالات الجيش السوداني الذين ينتمون أيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين في السودان والذي حدث انفصال بينها وبين الدولة السودانية عقب مساندتها للانقلاب العسكري لعمر البشير في 1989.
قام "البشير" بتقنين وضع تلك الميليشيات وأطلق عليها اسم " قوات الدعم السريع" وأطلق يدها في كل نواحي الحياة وأصبح قائدها بين يوم وليلة من مرتزق ومهرب عبر الحدود وغير متعلم يحمل أرفع رتبة عسكرية في البلاد وأصبح لقبه "الفريق حميدتي".
تمددت ميليشيات قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي تحت مظلة قانونية وشرعية وأصبح لها نفوذ سياسي واقتصادي ضخم دعمه نفوذ إقليمي ودولي، وأصبح الفريق "حميدتي" رقماً صعباً في الصراع الليبي والصراع اليمني، حيث كان المورد الرئيسي للمرتزقة لتمويل آلة الحرب في هاتين الدولتين، وهو ما جعله شريكاً في الثورة السودانية واحتكر مناجم الذهب، وجزءاً لا يستهان به من النشاط الاقتصادي.
لكن مع ثورة الشعب السوداني 19 ديسمبر 2018 ضد نظام "عمر البشير"، سارع كل من الجيش وقوات الدعم السريع بالتخلي عن الرئيس السابق للسودان عمر البشير وسط هدير الجماهير في الشارع السوداني، وهذا مكنهم من أن يعيدوا امتلاك زمام الأمور ومسك دفة التفاوض مع الكتل السياسية من أجل الوصول لحل سياسي وتشكيل حكومة وإجراء انتخابات.
لكن تحت السطح كان هناك صراع مكتوم بين قوة الجيش النظامية التي ترى الحق في أن تحكم وتمتلك السلطة، ولا تريد أن تنازعها قوة مسلحة أخرى، وبين قوة الدعم السريع التي أدت الظروف والعلاقات الدولية وامتلاك الثروة الذهبية بها أن تحاول إقصاء الجيش عن المشهد وصولاً لحكم السودان.
لقد أصبح الصراع بين يوم وليلة الذي كان مكتوماً بالأمس اليوم تراشقاً بالبيانات العسكرية وبكل أنواع الأسلحة في العاصمة السودانية "الخرطوم" ومناطق أخرى في السودان، وتحول النموذج السوداني من أن يكون نموذجاً ناجحاً كالنموذج الداخلي الإيراني وأصبح كابوساً لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا أصبحت الإشارة الرابعة لمصر كابوساً حقيقياً على حدودها، فالحرب الأهلية آخر ما كانت تتمناه مصر، وكذلك وجود قوتين عسكريتين تتحكمان في مفاصل الدولة السودانية الاقتصادية والسياسية والعسكرية يجعل من التفاوض المستقبلي معهما أمراً مستحيلاً! وكذلك من الوارد جداً تورط مصر لمساندة أحد الطرفين إذا استمر أمد الحرب الأهلية حماية لمصالحها المباشرة.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان – رويترز
هل هناك حل أمام مصر؟
هكذا استفاقت مصر على وضع شبه عسكري موازٍ على طول الإقليم وعرضه أصبح يشبه في قوته ورعبه ثعبان "هيدرا" في الأساطير اليونانية ذا التسعة رؤوس، ومطالب أن تتعامل عسكرياً وسياسياً معها بطبيعة الأمر الواقع، وهو ما ينشئ أوضاعاً جديدة واستراتيجيات عسكرية تتماشى مع تلك المستجدات، فـ "رؤوس الهيدرا" تتقاطع جميعها مع الأمن القومي المصري "الحرس الثوري الإيراني، حزب الله اللبناني، الحوثيون في اليمن، تنظيم داعش، التنظيمات المسلحة الليبية، ميليشيات الدعم السريع السودانية".
بما أن زمن البطل الأسطوري "هيراكليس" الذي قتل "الهيدرا" قد ولى، فإن مصر عليها أن تتعامل مع رؤوس "الهيدرا" بحذر كبير عسكرياً وسياسياً وربما اقتصادياً، وأن تتعلم الدرس جيداً وأن أي محاولة لتدريب ميليشيات تحت أي مسمى داخل البلاد هو بداية النهاية لتماسك الدولة.
العالم بدأ يتجه ناحية تجزئة القوة العسكرية، وأصبح استخدام المقاولين العسكريين، كالشركات الأمنية الخاصة للقيام بأدوار الجيوش مثل "بلاك ووتر" الأمريكية، و" فاغنر" الروسية، أمراً مستساغاً ومعتاداً لدى كثير من الدول.
لذلك وجب على مصر أن تتعلم في ضوء الأزمة السودانية أن التعامل مع دولة ونظامين عسكريين أصبح أمراً معتادا، ليس في السودان فقط وإنما في دول أخرى، لذا يجب أن تكون لغة المصالح واحدة مع مراعاة الانتباه للقوة العسكرية وسلامة الجبهة الداخلية، وخصوصاً مع تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "إيهود باراك" من تكوين قوات الحرس الوطني في إسرائيل كقوة منافسة للجيش، لأن ذلك قد يؤدي بتلك القوات مستقبلاً للتحكم في السلاح النووي الإسرائيلي، وهو ما لن ترضى عنه القوى الغربية. وهو التحذير الذي جرى التراجع عنه تحت ضغط الجماعات المتطرفة.
دولة ونظامان عسكريان.. ومقاولون وشركات أمن.. وحكومات دينية.. واقع إقليمي وعالمي يجب التعامل معه وفق استراتيجية مصرية محددة الملامح وليس التعامل بالقطعة.