- ℃ 11 تركيا
- 27 ديسمبر 2024
"واشنطن بوست": جدار الصمت ينهار في حماة بعد أربعة عقود
"واشنطن بوست": جدار الصمت ينهار في حماة بعد أربعة عقود
- 26 ديسمبر 2024, 2:42:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لأكثر من أربعة عقود، حرصت عائلة الأسد على أن تبقى الفظائع التي ارتكبتها هنا غير قابلة للحديث — بعد ان قتلت عشرات الآلاف من سكان حماة خلال حصار وحشي استمر شهراً كاملاً، ثم طاردت أولئك الذين احتفظوا بالذاكرة.
قليلون في هذه المدينة الواقعة غربي سوريا تجرأوا على وصف كيف أنهم كانوا يختلسون النظر من خلف ستائرهم لرؤية الجنود يفصلون الرجال عن النساء لتنفيذ الإعدام في فبراير 1982.
لقد حاولوا نسيان قطعان الكلاب التي جابت الشوارع لفترة طويلة بعد أن مزقت الجثث.
هنا في حماة، عزز حافظ الأسد، والد الرئيس المخلوع بشار الأسد، حكم العائلة الوحشي بسحق انتفاضة قادتها جماعة الإخوان المسلمين.
انهار حكم العائلة هنا هذا الشهر، والجدار الصامت الذي فرضوه لفترة طويلة، خلال أيام معدودة.
قادت قوات المعارضة، التي خاضت حرباً طويلة ضد الحكومة السورية، هجوماً خاطفاً من معقلها في الشمال نحو العاصمة، حيث تمكنت من التغلب على جيش محبط المعنويات والاستيلاء على السلطة في دمشق بينما فرّ الرئيس إلى روسيا.
كانت الخنادق مليئة بالزي العسكري الأخضر والطعام الذي حمله الجنود معهم إلى الجبهة وكانت جثثهم ملتوية على العشب حيث سقطوا، وذلك على تلة مغطاة بأشجار الصنوبر قرب حماة، حيث خسرت القوات الحكومية معاركها الأخيرة مع المتمردين الإسلاميين.
في المدينة الواقعة تحت تلك التلة، كان السكان لا يزالون يحاولون التكيف مع الإغلاق المفاجئ لفصل كانوا يظنون أنه لن ينتهي أبداً.
تُقدر أعداد القتلى خلال الهجوم العسكري عام 1982 بين عشرة الاف واربعين الف شخص، معظمهم من المدنيين، وقال السكان إن حجم الفقد كان مُضاعفاً بسبب الصدمة الخفية التي أفرغت روح حماة من الداخل.
كان القمع الذي نفذه حافظ هنا في نواحٍ كثيرة، نموذجاً استخدمه ابنه لسحق المظاهرات المناهضة للحكومة في عام 2011، مما أغرق البلاد في حرب أهلية، ورغم أن معظم السوريين لم يعرفوا تفاصيل ما حدث هنا، إلا أنهم فهموا أن حماة أصبحت مرادفاً للمجزرة، وتحذيراً بأن الموت أو السجن هو الثمن الذي يدفعه من يعارض.
قبل أهوال سجن صيدنايا سيء السمعة، كان هناك سجن تدمر، حيث سُجن رجال من حماة وتم إعدامهم.
وصف أحد السجناء السابقين، وهو شاعر، المكان لاحقاً بأنه “مملكة الموت والجنون".
وُلدت ميساء زلوك عام 1982 في ظل الحصار الحكومي، وأخبرتها عمتها أن والدها كان دافئاً واجتماعياً في السابق، لكنه أصبح رجلاً بلا أصدقاء، فالذين نشأ معهم قُتلوا أو اختفوا، وقالت زلوك: “كان خائفاً للغاية لدرجة أنه لم يثق بأي أحد".
أول مرة رأته يبكي، كما قالت، كانت عندما دخلت قوات المعارضة المدينة في 5 ديسمبر، وفهم أخيراً أن النظام على وشك السقوط.
وأضافت: “كان الأمر لا يُصدق، كان سعيداً للغاية.. قال إنه كان يعتقد أن هناك سبع عجائب فقط في هذا العالم، ولكن الآن هذه هي الأعجوبة الثامنة".
وعلى مقعد في حديقة قريبة، نظر حامد شعبان (54 عاماً) وصديقه حسن إلى بعضهما البعض وضحكا عندما سُئلا عن المرة الأولى التي تحدثا فيها بصراحة عن الحملة القمعية قبل 42 عاماً.
قال كلاهما: "الآن".
من موقعهما المرتفع، استطاعوا رؤية الساحة العامة التي ضجّت بالمتظاهرين في عام 2011، حيث كانوا يرقصون ويهتفون مطالبين بالتغيير السياسي، أطلقت قوات الأمن النار عليهما، ثم شكّلت “لجان تحقيق” لاعتقال دائرة متزايدة من المدنيين بتهم مزعومة بالمشاركة في الاحتجاجات، سواء كانت حقيقية أم وهمية.
قال شعلان: “كنت فقط أراقب من بعيد في ذلك الوقت.. كنا نعرف تكلفة الانتفاض، وكنا خائفين للغاية".
في حي الكيلانية، على الضفة المقابلة للنهر من النواعير الشهيرة في المدينة، توقف المارة للاستماع إلى جيرانهم وهم يبدؤون بمشاركة الذكريات التي احتفظوا بها مكبوتة لسنوات طويلة.
كانت القوة المكونة من 12 الف جندي التي أُرسلت إلى حماة عام 1982 بقيادة رفعت الأسد، الأخ الأصغر لحافظ الأسد، وقامت قواته بقصف أحياء كاملة حتى تحولت إلى أنقاض.
جعل الحصار الذي فُرض على المدينة الهروب مستحيلا ثم جاءت عمليات “التطهير”، كما قال السكان.
أشار أحدهم إلى الفراغ حيث كان منزل عائلته يقف، بينما استعاد ذكرياته عن المسلحين وهم ينتقلون من منزل إلى آخر، وأشار آخر إلى سطح منزل وقال إن طفلًا صغيرًا قُتل هناك برصاصة بينما كان يصرخ طلبًا للطعام.
قال أحد الرجال، الذي كان لا يزال خائفًا جدًا من الكشف عن اسمه: “من الصعب تصديق أن هذا يحدث، بصراحة.. لم نتخيل أبدًا ذلك..كنا نظن أنهم بنوا نظامًا سيستمر إلى الأبد".
حتى داخل العائلات، كان الحديث عن المجازر يُعتبر أمرًا خطيرًا لدرجة أن معظم الآباء حذروا أطفالهم من التحدث عنها أبدًا.
لذلك، عندما بدأ عبد العزيز شما، البالغ من العمر 57 عامًا، في التقاط صور للأحياء المعاد بناؤها عام 2011، اختار نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي تحت اسم مستعار، ومع مرور الوقت، أصبح أكثر جرأة، وقال إنه بدأ في مقابلة سكان المدينة وسؤالهم عما شهدوه.
في الرابع عشر من ديسمبر، بعد رحيل الأسد، نشر عبد العزيز شما مقطع فيديو لحماته، فاطمة محمود منتش، التي استطاعت لأول مرة مشاركة قصتها الكاملة.
قال شما: “كانت تبدأ بالكلام، لكنها لم تكن تستطيع الاستمرار.. لم تكن قادرة على إنهاء حديثها".
قالت فاطمة أمام الكاميرا إن الجنود جاءوا إلى منزلها وأخذوا اثنين من أبنائها وابنتها وضربوا بقية أفراد العائلة ونهبوا المنزل وسرقوا المال قبل مغادرتهم، ولم تسمع أي خبر عن أبنائها المفقودين، ووجدت عزاءها في الجلوس مع نساء أخريات من المدينة يعانين الألم نفسه.
عندما كانت تصلي، لم تكن تعرف ما إذا كان يجب عليها الدعاء بأن يتم إطلاق سراح أبنائها وابنتها رؤى أحياءً، أم بأن تُسمح لأرواحهم بالراحة في الموت.
قالت: “كنت أبكي كل يوم وليلة، وأتمنى أن أراهم مجددًا، حتى لو كانوا أمواتًا.. أريد أن أراهم أمواتًا".
ثم توجه شما بالكلام إلى الكاميرا: “إلى كل الأمهات اللواتي شاهدن أبناءهن يؤخذون، رغم أنهم لم يكن لديهم أسلحة.. أبنائكم لم يكونوا إرهابيين، كانوا من أهل الشام”، مستخدمة المصطلح العربي لبلاد الشام الكبرى.
وأضاف: “نريد أن نخرج هذه القصص إلى العلن.. كل شخص هنا لديه قصة".
مات العديد ممن كانوا بالغين عندما دخلت قوات النظام المدينة في عام 1982 الآن، وقال شما إن عمته، التي أُعدم زوجها محمد وأبناؤها الستة، قد أصيبت بمرض الزهايمر مضيفا: “تمر بأيام جيدة وأخرى سيئة".
وعندما زارها الصحافيون في منزل العائلة هذا الأسبوع، كانت أمينة برادة، 88 عاماً، طريحة الفراش، ملفوفة ببطانيات سميكة لصد برد الشتاء، وكانت شبكة الكهرباء في سوريا تعاني بشدة بعد عقود من الفساد والحرب والأزمة الاقتصادية، لكن في ذهن برادة كانت لا تزال تعيش ثمانينيات القرن العشرين.
كانت تخطئ في كثير من الأحيان في صوت فتح الباب الأمامي على أنه صوت أصغر أطفالها آنذاك، مخلص البالغ من العمر 11 عامًا، وهو عائد من المدرسة.
كانت تصرخ منادية على الأولاد في الليل "أين هم؟" ثم تضيف "لماذا لا يعودون إلى المنزل؟"
اقترب شما من السرير وانحنى برفق لتقبيل خدها بينما لفّ ذراعيه حول خصرها وعانقها بإحكام قائلا "لا بأس"، ظل يقول لها، "لا بأس" .. "يمكنك أن تستريحي الآن".
واشنطن بوست