- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
وائل عصام يكتب: جادرية بغداد من ناجي اللامي حتى السيستاني
وائل عصام يكتب: جادرية بغداد من ناجي اللامي حتى السيستاني
- 26 أغسطس 2023, 3:42:19 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في الايام الاخيرة ضجت بغداد بقضية استيلاء الميليشيات المسلحة على الأراضي والبساتين في حي الجادرية الراقي في بغداد، وتدخل المرجع الديني السيستاني شخصيا وتوجيهه بإعادة الأراضي المسلوبة لأصحابها بعد سنوات من تواطؤ أجهزة الدولة الرسمية، لتبدأ سلسلة من الإجراءات الحكومية والقضائية لملاحقة المتورطين وإزالة المباني المتعدية.
هذه القضية تعني لي الكثير على المستوى الشخصي، قبل المستوى العام، فهذه البساتين في الجادرية هي مراتع الصبا وذكريات الأيام الأولى في بغداد، وأصحاب الأراضي الذين ظهروا في لقاء السيستاني واللقاءات الإعلامية، حيدر ومحسن اللامي هم جيراني وملاك البيت الذي أقمت فيه لأول مرة في بغداد، خلال أيام دراستي الجامعية منتصف التسعينيات، حينها كان عمري 17 عاما، كانت تلك البساتين التي تطل على بيتنا مباشرة من جنان بغداد، التي لا يعرفها سوى أهل الحي ومعظمهم من عشيرة بني لام، بستان ممتد لعشرات الدونمات، يبدأ من زقاقنا وينتهي بقصور سدة الهندية، جنة من النخيل وأشجار المشمش والتفاح والرارنج، تتخللها سواق مائية، نشرب من حليب «الهوايش» (الأبقار) صباحا، ونشوي «الكباب والتكة» مساء، أو همبرغر علي اللامي الشهير في الشارع الرئيسي. نسائم الهواء البارد منحت سكان هذا الزقاق تبريدا طبيعيا في صيف بغداد، بحيث أن الحرارة تقل بنحو 3 إلى 5 درجات عن بغداد بفضل نسائم البستان العليلة.
قضية أراضي الجادرية تثبت أن رجال الدين أقوى من الحكومة في مجتمعاتنا، وأن الدولة غائبة لأن قيم مجتمعاتنا العربية تفهم أعراف العشيرة والشريعة أكثر من قانون القضاء والمحكمة
وبينما تعج مداخل زقاقنا اليوم بـ»السيطرات» ونقاط التفتيش للحرس الرئاسي والميليشات، كان في زماننا هادئا ليس فيه إلا «سيطرة» واحدة تتوسط الزقاق، هي سيطرة الحاج شاكر ناجي اللامي، رحمه الله، يجلس على كرسيه ويمد «العوجية» (العصا) على الأرض مترصدا بعينيه المارة الغرباء، فارضا رقابة صارمة على بيتي كوننا «عزابية»، معلنا أنه «يمنع منعا باتا اصطحاب الصديقات خارج الحرم الجامعي، وإلا فـ»العوجية راح تتكسر على راسك»، وطبعا هناك نقطة أمنية أخرى هي كرافان حراسة للسفارة التشيكية في نهاية الزقاق. أما ولداه حيدر ومحسن اللامي وبقية جيراني فقد كانت النقاشات معهم تختصر التنوع الفكري في بغداد، واحد يقرؤني نهج البلاغة للإمام علي، والاخر يحدثني سرا عن آرائه بصدام حسين، خاصة عندما يرى صورته داخل بيتي. وأكمل جاري الآخر الصديق جعفر الشماع الحلقة بكتيبات تصلني عبر جدار الحديقة عن الشيوعية والحركات اليسارية الثورية، بينما استقبلني جاري في الزقاق الآخر المحامي داوود الأسود نقيب المحامين الأسبق، ليحدثني في سنوات حياته الأخيرة عن الحزازات الطائفية القديمة، في عهد حكومات العراق، بل في داخل حزب البعث الذي ينتمي له، بتفاصيل مهمة سأرويها يوما، في الحقيقة كانت هذه النخبة من بيوتات الجادرية من أطيب الناس معشرا وخلقا، ولن أنسى أيضا الحجية والدة حيدر ومحسن اللامي، التي كانت نموذجا للمرأة العراقية بشخصيتها القوية المحافظة، كان كلامها غنيا بالحكم والأمثلة الشعبية العشائرية، التي ما زالت ترن في أذني حتى اليوم، تماما كما كان اللبن الخاثر الذي تجيد صناعته دوائي وشفائي عند كل وعكة صحية.
مرت الأيام وإذا بحيدر ومحسن ابني الحاج شاكر ناجي اللامي يصارعان قيادات ميليشيا من عشيرتهم نفسها، صفاء اللامي يتزعم الحملة لسلب البساتين، عمه هو أبو زينب اللامي مسؤول أمن الحشد الشعبي، ومنذ عام 2018 وهذه المجاميع المسلحة تقضم الأراضي، تجرف البستان وتعمر فوق أنقاضها كتل الإسمنت وتبيعها، ومن بين نحو 49 دونما، ابتزت الميليشيات ملاك الأراضي لبيع نحو 29 دونما، بعد أن وضعوهم تحت الأمر الواقع واحتلوا أراضيهم، ثم أجبروهم بالضغط والابتزاز على بيعها بمبلغ 400 دولار للمتر المربع، بينما في مدينة الصدر يصل السعر لثلاثة أضعاف هذا السعر، بالمقابل صمد أصحاب الأراضي الأخرون، واحتفظوا بنحو 19 دونما من الأراضي، لتواصل الميليشيات حملة التضييق ونشر الحواجز والـ»صبات» الكونكريتية لتخنق سكان الحي، وكان أن قرر أصحاب الأراضي المواجهة، وهم يملكون طابو صرف 1925، ورغم ذلك لم تفلح محاولاتهم وشكواهم للقضاء، بل تعرضت شقيقة أحد ملاك الأراضي للإهانة، ولم تجد قضيتهم آذانا صاغية، إلا عندما بدأت بعض الصفحات في وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عنها، معظمها صفحات تابعة للتيار الصدري، ثم جاء القيادي الصدري حاكم الزاملي لزيارة البساتين وسط تغطية إعلامية، وهكذا استفاد أصحاب الأراضي من النزاع بين الصدريين وأحزاب السلطة، فعادة ما يبحث الصدريون عن أي زلة للحكومة، أو القوى المرتبطة بها، ما فتح الباب لدعم قضية الجادرية، لتفد القنوات الفضائية مثل «البغدادية» و»الشرقية» وتلحق بها باقي وسائل الإعلام العراقية.
لكن الحدث المفصلي كان اللقاء الذي جمع وفد أهالي الجادرية مع السيستاني بضمنهم الجار محسن الحاج شاكر اللامي، ليحصلوا على دعم السيستاني، وروى لي محسن أن السيد السيستاني ترحم على روح جدهم الحاج ناجي اللامي، وهو شخصية بارزة تحدثت عنه المس بيل البريطانية في مذكراتها بالعشرينيات.. وبعد لقاء السيستاني، بدأت الإجراءات الحكومية، بتوجيهات رئيس الوزراء السوداني بإلقاء القبض على المتورطين، بعد أن كان قد شكل أصلا لجنة تحقيقية، حتى اجتماع رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان بوفد الجادرية، وصولا لقدوم قوة أمنية قامت بإزالة وتجريف بعض التعديات والتجاوزات.. قضية أراضي الجادرية تثبت من جديد أن رجال الدين أقوى من الحكومة في مجتمعاتنا، وأن الدولة غائبة لأن قيم مجتمعاتنا العربية تفهم أعراف العشيرة والشريعة أكثر من قانون القضاء والمحكمة.