- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
منصف الوهايبي يكتب: الجنة للعدائين وراكبي الدراجات
منصف الوهايبي يكتب: الجنة للعدائين وراكبي الدراجات
- 16 يوليو 2023, 4:38:55 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
وجدتني منذ مدة غير بعيدة، وأنا أقرأ قصيدة للمصرية جيهان عمر، أعود إلى الدراجة في الشعر؛ وأستذكر كيف كانت جزءا من عالم طفولتنا، أو من عالم الرياضة والمسابقات عند بعضنا. وهذه القصيدة النثرية، تنطوي على إيقاع يتغير مفاجئا سلسا، كلما انتقلنا مع الشاعرة من مشهد إلى آخر؛ وكأننا نركب الدراجة نفسها مترادفين حيث تجري الحياة اليومية بعناصرها وتفاصيلها المألوفة وغير المألوفة؛ في إضاءات لغوية ذكية، وبعجلتين: عجلة التجربة الحسية، فالدراجة جسم من حديد وكاوتشوك، وعجلة التجربة الباطنية أي تجربة الحركة أو الإضاءة الداخلية حيث الدراجة في هذا النص الممتع، أشبه بطائر يستوفز ثم يطير ثم يُشرع جناحيه (الذراعان في النص) والعجلة أشبه بكوكب. وهي من ثمة، تكتسب حياة ثانية بواسطة إيقاع الأفعال والقدرة على التجسيد أو «الإخبار غير المألوف» وهو كنه الاستعارة.
مشهد بل مشاهد مدارها على الإدراك الحسي/ الباطني حيث يتزاوج الصمت والضوضاء في آن. بل إن الدراجة هي الراكب وليست المركوب، أو هي التي تقودنا بدل أن نقودها؛ عبر صفاء المكان وهدوئه حينا بشتى أشيائه حينا، وتعكره وضجيجه حينا. وما أكثر الدراجات في الشعر الغربي: دراجة فرانسيس بونج ودراجة جاك دريدا أو دراجة بابلو نيرودا… حيث نعيد اكتشاف الأشياء اليومية وهي تغتسل في ضوء جديد.
أما شعرنا اليوم فأكاد أقول إن أكثره أكان موزونا أم منثورا مرسلا، شعر «نيئ»، مداره على الكلمة، لا الكلمة شيئا وحدثا كما هو الشأن في الخطاب اللغوي الحي حيث الكلمة جزء من حاضر وجودي حقيقي، كما هو الشأن في النص الشعري النابض الحي، أو «الناضج/ المطبوخ» إذا استعرت عبارة ليفي ستروس؛ فهي لا تقوم أبدا بذاتها وإنما تحتاج إلى مرسل ومرسل إليه وسياق. والشعر، وهذا ما يغيب عن كثيرين، ليس قائما بنفسه، وكأنه في غنى عن صاحبه، مثله مثل النص الذي ينتظمه. ولكنه في حاجة إلى قارئ أو إلى مخاطب. على أن المخاطب مخاطبان: مخاطب أول هو المنشئ نفسه، ومخاطب ثان هو القارئ الذي يمكن أن يتخيل لنفسه مكانا في النص. ونحن إنما نضع نفسنا في موضع هذا القارئ، الأمر الذي يخول لنا قراءة النص في سياقه الكتابي الذي تصاب به حقائق الأشياء، وينتظم أمرها. إنه الشعر من حيث هو رمز القدرة والسلطة؛ والدلالة على قدرة الكتابة على فصل العارف عن المعروف والمدرك عن المدرك. فثمة مسافة بينهما، وفي حيز هذه المسافة تنشأ الكتابة الحية التي تذكي التحليل وتجعل اللغة فاعلة بذاتها وتعزل القول على سطح مكتوب.
والنص الشعري الحي يفيد من المخزون الثقافي والذاكرة الجمعية، ومن قدرته على التصرف بالمفردات والمعاني؛ لكن دون أن يسوق ذلك إلى القول بـ«واقعية» الشاعر، أو بنوع من التعلق الحتمي بين الشاعر وعصره، فتخلط المجرب بالمقول؛ أو بأن شعره أقل «صفوية»؛ ما دام لا يتردد في استجلاب القاصي والداني من الكلام، كأن يستخدم في التركيب كلمة مألوفة وكلمة شعبية وكلمة مستهجنة، أو يتوسل بـ«كلمات القبيلة» بعبارة مالارميه في رثاء إدغار ألان بو.
والحق أن»التهجين» اللغوي حيث تحرف الكلمة «العامية» مجراها، وتُستفرغ من مدلولها قديم جدا؛ وقد لفت أنظار القدامى أنصارا وخصوما. ولم يكن المعنى في سياق هذا الشعر «الواقعي»، وإنما هو»معنى الصنعة» على نحو ما ذكره ابن رشيق في تعليقه على قول لابن الرومي معتذرا عن بيت لأبي تمام: «كان يطلب المعنى، ولا يبالي باللفظ حتى لو تم له المعنى بلفظة نبطية لأتى بها» نسبة إلى النبط، وهم قوم من العجم كانوا ينزلون بين العراقين. ثم استعملت اللفظة في أخلاط الناس وعوامهم. ويقال «كلمة نبطية» أي عامية.
وقد خلص ابن رشيق إلى توضيح المقصود بـ«المعنى» في كلام ابن الرومي. قال: «إن المعنى الذي أراده، وأشار إليه من جهة الطائي، إنما هو معنى الصنعة كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما، لا معنى الكلام الذي هو روحه».
ومثل هذه الإشارة اللطيفة من ابن الرومي، وقد جلاها لنا ابن رشيق، تبين علة من علل هذا «التهجين» في الشعر عامة قديمه وحديثه عند البياتي ونزار قباني وسعدي يوسف ومحمود درويش وأمل دنقل ومحمد الماغوط…، أو هذه اللغة المتهمة بـ«سفاح القربى». وعلى أساس من هذه الإشارة التي حملها ابن رشيق على معنى الصنعة ندرك أن الأمر لا يتعلق بـ «واقعية» ينشدها الشاعر القديم وخلَفُه الحديث، وإنما بنص حي هو نوع من تدوين الحياة، أو ربما بـ«قصور لغوي» يجعل الشاعر يطرح الكلام بعضه على بعض حتى يظفر بضالته من الصنعة الشعرية بكل مكوناتها المعجمية والتركيبية والإيقاعية. ونحن وإن كنا لا ننازع في أن كثيرا أو قليلا من مشتملات الشعر وموضوعاته عند الذين تمثلت بهم، وعند غيرهم، مستمد إلى حد كبير من البيئة الاجتماعية، فإن تأثير البيئة في تقديرنا، لا يبلغ من شعرهم أبعد من هذا المدى، ولا نخاله يصلح لتفسير هذا «التهجين» اللغوي الذي يتوخاه الشاعر. فهو خاضع لمنطق الصنعة أو الكتابة إذا شئنا، محكوم بتطورها الداخلي الخاص. على أن ما يتعلق ببعض الصيغ الشعرية وما تنطوي عليه من قدرة على الإيهام بالتصديق والحمل عليه، كان من نتائجه أن قام أكثر النقد على المقاربة بين الشعر وما يذكره من وقائع وكائنات وأشياء، حتى كادت «الجودة تنحصر في الإصابة» بإقامة «أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها» بعبارة الأستاذ الراحل حسين الواد.
إن بميسور الشاعر أن يسائل الكلام العادي وأن يستنبط منه فكرة، لكن دون أن يكون المعنى مبذولا للجميع، إذ قد يحدث أن يستعصي فهمه في سياق شعري، وبخاصة عندما يحيد الشاعر بهذه الكلمات الشائعة عن معناها المألوف. والقراءة السائغة لا تستقيم حين نسلخ الكلمة من سياقها الشعري، ولا تتنبه إلى أن دلالتها محكومة بـ «مقام التلفظ» أو «مقام القول». ونقصد بهذا أنها محصلة كل المؤشرات التي تجعل من الخطاب فعلا لغويا تؤديه ذاتٌ/ فردٌ تعيد استخدام اللغة المشتركة، إذ الكلمة ليست مأخوذة مباشرة بلا وسيط، وإنما تتداولها الأيدي وتلوكها الألسنة قبل أن تنتظم في النص، فتضفي على الخطاب قيمة مثلما يمكن أن تسلبه إياها.
ذلك أن العلاقات اللغوية المتعددة التي تضم قصيدا ما إلى مقام الكتابة، وهي مقيدة فيه من حيث هي أشكال، هي التي تكون «القيمة». فلعل المنشود من قراءة القصيدة هو البحث في هذه «القيمة» من عدمها وليس البحث في معنى افتراضي على أساس مسلمة يصعب الأخذ بها؛ فالقول بـ «لغة شعرية» خاصة، كما ذكرت في مقال سابق، إنما يرجع عند العرب إلى نظرية الشعر التي وضعت استئناسا بنصين أثيرين هما الشعر والقرآن أنموذجا اللغة المثال، أو «اللغة العليا» في هذه النظرية؛ الأمر الذي يفسر في جانب منه، تقسيم الكلمات إلى شعرية وغير شعرية.
وهي «قسمة ضيزى» قد يصعب أن نفهمها حق الفهم ما لم نربطها بسياقها التاريخي وبوضع عام جرى عليه الشعر والنقد مثلما جرت عليه العربية نفسها. وأما انتزاعها من سياقها أو تحويلها إلى قاعدة مرسلة، فليس له من معنى سوى القول بلغة شعرية مطلقة وبأن الشعر يدور على مطلق لغوي. وهذا المنحى ليس مقصورا على الشعرية العربية، فقد ذهبت الكلاسيكية الغربية المذهب نفسه، ورسخت انطباعا بأن هناك معجما خاصا بالشعر تواصل حتى بدايات القرن العشرين.
ومن هذا الجانب، يمكن أن نتكلم على صلة ما بين هذا المعجم والواقع، تلامس نمط «التدلال» المخصوص باللغة نفسها أو «الدلالية» كما يقال في المغرب والجزائر. وهو نمط يضرب بجذوره في السجال الذي يقابل بين رؤيتين: اعتباطية اللغة أو تواطؤيتها من جهة، وتوقيفها أو تعليلها من أخرى. والثانية إنما تدل على تواصل ما بين اللغة والعالم، ذي طبيعة يمكن نعتها بـ«التماثلية». أما في الشعر الذي نحن به، فليس من حقنا أن نتكلف مثل هذا البحث في «واقعية» الشاعر استئناسا بألفاظ هي من المشترك بين الفصحى والعامية أو هي من العربية المولدة؛ ونتخذ من ذيوعها دليلا على واقعية الشاعر. وما نخال ذلك إلا مما يذود عنه طبع الشعر، وبخاصة هذا الذي نحن فيه. لكن ربما أمكن، في سياق التلقي، أن نتكلم على «واقعية»، ما أخذنا بالاعتبار المتلقي الذي لا يتقبل الإيهام إلا إذا انطوى على مطابقة الواقع، أو أمكن تصوره وإدراكه. أما الشعر الحي فسِفاح قُربى ومدونة حياة أو هو أشبه بدراجة الطفولة حيث «الجنة للعدائين وراكبي الدراجات».