- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
معصوم مرزوق يكتب : أمة تراثها الكلام
معصوم مرزوق يكتب : أمة تراثها الكلام
- 4 أغسطس 2021, 5:26:35 م
- 4742
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
القاعدة الذهبية والحكمة الصافية هي أنه إذا كان الكلام من فضة، فان السكوت من ذهب، وهي التي تطبقها الممارسة الشعبية وغير الشعبية حين يقاطع أحدهم الآخر قائلاً بنفاد صبر : «هات من الآخر»!!، أو عندما تطول سنوات الزواج وتصبح بلاغة الزوج مع زوجته مقتصرة على الصمت الجميل!!
فالكلام ورطة كبيرة لا يعرف فداحتها إلا من أدرك قيمة «الكلمة»، وإذا كان الكلام كلاماً في السياسة فالورطة أشد وأعمق، والويل كل الويل لمن أطلق للسانه العنان، وظن - مع عدم نية الإثم - أنه لا ينطق عن الهوى، فالهوى مفترض مهما بالغ الشخص في تجرده، وقواعد ميكانيكا اللغة تبرهن على أنه لكل كلام رد كلام، ولن يفلت الشخص من التأويل والتفسير وقراءة الظاهر والباطن، ولن يعدم حاقداً أو جاهلاً أو منافقاً يأخذ كلامه كي يفصل منه ما تنطبق عليه حفنة من مواد قانون الجنايات.
لا جدال في أنه «لن يكب الناس على وجوههم في النار يوم القيامة إلا حصاد ألسنتهم»، لذلك فأن العقلاء يؤثرون الصمت باعتباره طريق السلامة، ولو أتيح لهم أن يخيطوا أفواههم أو يقطعوا ألسنتهم لفعلوا بالتأكيد، وأنا أعرف صديقاً عاقلاً لا يتحدث إلا بلغة الإشارة معظم الوقت، يهز رأسه كالبندول موافقة أو رفضاً، يستخدم حواجبه وعينيه كثيراً لإبداء الدهشة أو السعادة أو الحزن، وشفتيه لإبداء الإمتعاض، ويكاد لا يستخدم أحباله الصوتية سوى في حالة السعال، ومع ذلك فهو دائم الوقوع في المشاكل بسبب زوجته الثرثارة.
وفي القانون أو السياسة يفسر الصمت عادة بأنه إما علامة للرضا والموافقة، وإما ضعف عن المواجهة، رغم أن الصمت في تلك الحالة قد يكون جهلاً أو «تكبير مخ » أي لا مبالاة أو أهمال، وقد يكابر الشخص حين تجادله ويدعي أنه «عارف كل حاجة، وفاهم».. إلا أنه «يتقي بالصمت شر الكلام»، والحقيقة أنه يصمت عندما ينبغي أن يتكلم، ويثرثر حين ينبغي أن يصمت.
ورغم التسليم بمزايا الصمت التي لا جدال فيها، إلا أن تلك القاعدة الذهبية لا تنطبق ولا ينبغي أن تنطبق حين يتعلق الأمر بحق من الحقوق، فهناك قاعدة ذهبية أخرى تقول: «ان الساكت عن الحق شيطان أخرس»، وبالتالي فان الصمت في هذه الحالة يكون جريمة، فكما أن الإعتداء على الحق يكون بفعل إيجابي من جانب المعتدي، فأنه يكتمل بفعل سلبي من جانب الضحية، وكلا الفعلين يكونان الركن المادي لهذه الجريمة، ولا بد أن حساب الضحية يجب أن يكون أشد عسراً، لأن نية المعتدي هي اغتصاب الحق، وبالتالي فهي مبرر للفعل، ولكن ما هو مبرر الضحية ؟.
ان الصمت على الجرائم التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو في حد ذاته جريمة نكراء، بل هي أشد قبحاً من الجرائم الأصلية، وقد حاول العقلاء من طائفة «أهل كوبنهاجن» أن يعللوا ذلك بأنه الحكمة والواقعية، على اعتبار أن المعتدي يمتلك قوة جبارة عاتية، وليس علينا إلا أن نتحمل في صمت، ونتجمل بصبر أيوب، لعل الإعياء يتملك من ذلك المفتري فيتوقف وحده وكفانا الله شر القتال، أو لعل الله يستجيب لدعاء الأرامل والثكالى فيرميهم بحجارة من سجيل، أو لعل نتنياهو يصاب فجأة بفيروس السلام الذي تفشى على الجانب العربي وحده بشكل وبائي.
وإتباعاً لحكمة «ما قل ودل»، تقتصر التصريحات الرسمية في الجانب العربي على الشجب والاستنكار، حتى اعتاد نتنياهو وجنوده على حكمتنا، وأعتدنا على وحشيتهم، واستقر الوضع على ذلك، وذلك هو الاستقرار المطلوب في الشرق الأوسط، وقد تكرر إتباع نفس الحكمة تجاه ما أسماه العم سام «الحرب على الإرهاب»، تلك الحرب التي لا يبدو لها هدف واضح حتى الآن سوى العرب والمسلمين، فكانت «ما قل ودل» هي فصل الخطاب في الموقف العربي، فنحن نؤكد أن الإسلام ضد الإرهاب، ونكرر ذلك كل يوم باقتضاب بليغ، فإذا لم يستمع العم سام اليوم فمن المؤكد أنه سيسمع غداً، أما إذا لم يستمع غداً فلا جدال في أنه قد يستمع بعد غد، والصبر مفتاح الفرج .
ومن غرائب الطبيعة العربية البديعة، أننا أمة تراثها الكلام، وديوان الشعر هو جوهرتها المصونة، أي أنه من المفترض أن الكلام لعبتها، ونحن بالفعل نمارس ذلك بشراهة نحسد عليها بل وبشراسة فيما بيننا، بينما في اتجاه الآخر نكتفي بممارسة صمت وأدب القرود، فلا يصدر صوتنا سوى بخجل العذارى، ونخاطب الآخر بشكل اعتذاري حتى حين نطلب منه ما هو حق لنا.
ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نجد تفسيراً مريحاً لتلك الظاهرة المحيرة، فهل هو مثلاً أن أمورنا هانت علينا فهان أمرنا على غيرنا ؟، هل نحن أمة قد أبتلاها الله بداء الخرس ؟، أم أن المسألة أعمق من ذلك، فهل تكون مثلاً دعوة المقهورين في الزنازين ومعسكرات الاعتقال، أم صراخ أبناء الفقراء الجوعى، هل هي لعنة الأندلس ما زالت تلاحقنا فتلجم ألسنتنا ؟، لماذا ارتضينا جميعاً دور الشيطان الأخرس ؟ ألم تنبت ألسنتنا في حلوقنا بعد، أم ترانا لم نتعلم بعد أصول الكلام ؟ ..
ان ما قل ليس دائماً يدل، وربما دل على غير ما يريد الناطق، إذ لا بد للعالم أن يسمع صوتنا واضحاً قاطعاً بغير لبس أو إضغام، فهذا عالم لا يفهم لغة الإشارة، ولا يفسر الصمت والتردد سوى باعتباره ضعفاً وقلة حيلة، وبالطبع ليس المقصود هنا هو مجرد استعراض طبقات أصواتنا، والكلام لمجرد إثبات المقدرة على الكلام، وإنما المقصود هو أن تكون رسالتنا واضحة قوية ومؤثرة، وأن يتبع الفعل القول، وأن نكف عن الهمس بأشياء في الغرف المغلقة، والتحدث بغيرها على الملأ، لم تعد الأوضاع تحتمل هذا الترف وهذا الخرف.
وبئس من ظن أنه قد اتقى بصمته شر المقادير، لأنه بصمته يستدعي شر هذه المقادير، وخاب من خدع نفسه بحكمة مزيفة هي في حقيقتها حيلة من لا حيلة له، بل هي خزي وعار، فها نحن في مواجهة لحظة الحقيقة، حيث بعدها إما نكون أو لا نكون، ولننظر إلى عدونا الذي ملأ أسماع الدنيا بباطله الذي يدعيه حقاً له، بينما حولنا صمتنا وحكمتنا إلى إرهابيين وقتلة وسفاكين في نظر العالم كله، واعلموا أنه كما أن «فلسطين» كانت الفريسة الأولى، فان «العراق» لن تكون الأخيرة.
وقبل الختام أجد تلك الذكرى تلح على مخيلتي، حين وقع الإعتداء الثلاثي على مصر، وتفجرت أنابيب البترول في الأراضي العربية، وخرجت المظاهرات واحتشدت مراكز التطوع، وسمعت عواصم العالم كله صوتنا واضحاً قوياً قاطعاً : «سنقاتل .. سنقاتل»، واشتد عود كلماتنا بصدق أفعالنا، وكذلك لا يمكن أن أنسى حين كنا نقاتل في الضفة الشرقية لقناة السويس وصدر قرار وقف ضخ البترول العربي، حيث كان بمثابة جيش أضيف إلي جيوشنا وأجبر أكبر عواصم العالم على الإنصات إلينا وإحترامنا.
ربما تتغير الأحوال إذا توقفنا عن حديثنا للداخل وركزنا جهودنا لمخاطبة العالم كله باللغة التي يفهمها، وتلك اللغة لا يمكن أن تكون لغة الخرس، وإنما لغة القوة والوحدة، لغة شعوبنا العربية التي لا ترضى ولن ترضى بالهوان .