مختار كامل يكتب : جغرافية مصر ومشكلة الاستعباد

profile
مختار كامل سياسي- تكنوقراط مصر
  • clock 28 أكتوبر 2021, 12:20:43 م
  • eye 9401
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

حين نتحدث عن الثورة المصرية وأهدافها بشكل عام، وما كان وما يجب أن يكون، أتصور أن جوهر الشكوى التي يمكن أن تندرج تحتها كافة الأهداف الأربعة لثورة ٢٥ يناير: عيش- حرية - عدالة اجتماعية- كرامة إنسانية ، هو هذه القضية الجذرية : الاستعباد. إن ما ثار عليه المصريون في كل تاريخهم الحديث (الذي أرى أنه يبدأ من ١٨٠٥ وليس منذ ١٤٥٣ كما يتوافق معظم المؤرخين) هو في جوهره ثورة على أسلوب الاستعباد، ومفاهيم الاستعباد، وممارسات الاستعباد، سواء كان من جانب المحتل الأجنبي أو من جانب الحكومة التي يطلق عليها وطنية. 

ويهدف هذا المقال إلى النظر في بعد غير شائع الانتشار بين الناس، هو البعد الجيوبوليتيكي للإقليم المصري، ومدى تأثيره، سلبا أو إيجابا، في مسألة الاستعباد.


يجب البدء بتعريف أهمية الجغرافيا في حياة الأمم، إذ أن الخصائص الجغرافية لإقليم أي دولة تمثل أكثر العوامل ثباتا في حياة مواطنيها، ولهذا السبب تميل آثارها إلى الاستمرارية على امتداد تاريخ الأمة فتتحول بفعل الثبات والاستمرار إلى عادات وسلوكيات عميقة لدى الدولة وشعبا وحكومة، حتى بعد التطورات التكنولولوجية في مختلف العصور، تظل العادات والسلوكيات شائعة بين الناس وإذا تغيرت فببطء شديد، ولشارل ديجول قولة مشهورة في هذا الصدد : “الجغرافيا هي قدر الأمم”.

وقد أدى تفاعل المعطيات الجغرافية والتاريخية في مصر إلى سيادة نموذجين أساسيين في العلاقة بين من يملك ومن لا يملك وبين الحاكم والمحكوم: نموذج التناغم الوطني، ونموذج الاستعباد. وارتبط الأول بازدهار الروح القومية المصرية في ظل منظومة ثقافية مصرية خالصة، بينما ارتبط الثاني بتحلل الروح القومية المصرية واغتراب المصري عن ثقافته. 

هناك ثلاث عوامل جغرافية رئيسية لعبت أعمق الأثر في تكوين الشعب المصري : جغرافية النيل ، وكون مصر واحة خضراء وسط أضخم كتلة صحراء رملية في العالم، وموقع مصر وسط العالم القديم. وأدى تفاعل هذه العوامل الثلاث مع بعضها من ناحية ومع إرادة الشعب المصري من الناحية الأخرى إلى آلية يمكن أن تقدم واحدا من العوامل الشديدة الأهمية التي تفسر واقعنا الحالي.

وتسير آلية التفاعل بين العوامل الثلاثة كالتالي : تفرض جغرافية النيل تكاليف مرتفعة للإنتاج الزراعي الذي هو تاريخيا عصب الحياة الاقتصادية في مصر، مما يقلل من أي فائض رأسمالي ينتج عن النشاط الزراعي. وسبب ذلك أن النيل يشق مصر طوليا لمسافة تقرب من ١٥٠٠ كيلومترا مع ضآلة التفرعات بالنسبة لطول المسافة. وتنحصر الأرض الزراعية المروية من مياه النيل جنوب الدلتا في شريط ضيق محاط بصحراء قاحلة. 

ولذلك فالبنية التحتية اللازمة لإدارة عملية الري النهري وربط سكان الإقليم على امتداد الوادي تغطي مسافة طويلة ولكن لتروي مساحة  صغيرة نسبيا، وهو ما يعني ارتفاع تكلفة الوحدة من الناتج الزراعي، ويزيد الأمر تفاقما ندرة الأمطار، التي هي مصدر مجاني للري. ولمزيد من الإيضاح، فإن مساحة مصر تساوي تقريبا ضعف مساحة ألمانيا، لكن مساحة الرقعة المنتجة تعادل تقريبا نصف مساحة تونس (نعم، نصف مساحة تونس) ! فكأنك تنفق على بنية أساسية بطول مصر كلها كي تروي مساحة تساوي نصف مساحة تونس. وهنا تكمن المعجزة الكبرى للمصريين الأوائل، فقد وهبتهم الطبيعة قطعة أرض مرتفعة التكاليف، ودون عبقرية حضارية خلاقة، كان من الممكن أن تظل مصر مجرد أجزاء فقيرة مهلهلة على امتداد وادي النيل.

علاوة على ذلك فالنقل النهري التجاري محدود نسبيا بسبب جعرافية النيل ايضا، مما يعني دورا أكبر للنقل البري الذي تزيد تكلفته بنسبة ١٠٠٠٪- ٣٠٠٠٪ عن النقل النهري. كذلك لا توجد تفرعات طبيعية صالحة للملاحة إلى البحر المتوسط، حيث مواني التصدير، ولا إلى البحر الأحمر (تم حفر قناة في فترات متعددة تربط النيل بالبحر الأحمر- تكلفة أيضا).  

وكانت وسيلة التغلب على عقبة ارتفاع التكلفة هي دمج أجزاء الإٌقليم المصري في وحدة مركزية واحدة قوية يمكنها معالجة مشكلة البنية التحتية بكفاءة وإدارة عمليتي الإنتاج والتوزيع، فنتج عن ذلك اقتصاد مركزي، توزيعي تعاوني أكثر منه اقتصادا تنافسيا، وهكذا نشأت الدولة المصرية عند توحيد القطرين كأول دولة إقليمية قومية في التاريخ. لكن السلطة المركزية المتحكمة في مفاتيح الإنتاج والتوزيع تشكل سلاحا ذو حدين : ففي حالات الانضباط والاستنارة يقفز المجتمع خطوات تقدمية بسرعة إلى الأمام، وفي حالات الترهل والجمود يهبط المجتمع بنفس السرعة إن لم يكن أسرع.

 ونظرا لأن مفهوم الديمقراطية لم يكن معروفا في العصور القديمة، كان لابد من ابتكار وسيلة للحد من شطط السلطة المركزية حماية للمجتمع بل وللدولة ذاتها. لهذا ابتكر المصريون القدماء أدوات روحية/ أخلاقية لعبت فيها أربعة مفاهيم أساسية  دورا محوريا كأداة لضبط العلاقات بين مكونات المجتمع: الحقيقة - العدالة - التوازن- النظام، وتمثلت هذه المفاهيم في ”المعت“.  أي أن عبقرية النظام الحضاري المصري لم تتوقف عند حد تحويل الموارد المحدودة إلى وفرة وثراء، بل إلى أداة لتطوير الإنسان ذاته ودفعه نحو الأرقى، ومن هنا يأتي الاحتفاء العالمي الواضح بالحضارة المصرية. 


وبفعل التوازن بين الحق والعدالة والنظام أمكن التغلب على مشكلة ارتفاع التكلفة عن طريق رفع الإنتاجية وزيادة كفاءة الإنتاج من خلال نموذج للتناغم الوطني بين الطبقات، وبين الحاكم والمحكوم. ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك دون روح قومية عالية تستند إلى منظومة روحية وثقافية راقية. وكان الضمير، حيث كانت باكورة إشراقه على أرض مصر، من الهدايا القيمة التي قدمها الشعب المصري للإنسانية كلها. ونجحت الوسيلة في معظم الأحيان، فنشأت حضارة شديدة الرقي استمرت لآلاف السنين. 


لكن فور أن يتراخى الانضباط الذاتي بفعل تراخي المنظومة الروحية /الأخلاقية، تتدهور الدولة فتقع فريسة للغزو الأجنبي، ذلك أن موقع مصر جاذب للأطماع الخارجية بحكم توسطه في بؤرة العالم القديم وبحكم كونها هي الرقعة الزراعية الأكبر والأكثر استقرارا وسط المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج . ولذلك واجهت الدولة المصرية ضغوطا أمنية شديدة منذ غزو الهكسوس، مما فرض أعباء عسكرية إضافية على الإنتاج الزراعي المرتفع التكلفة أصلا.  وتمكنت مصرمن طرد الهكسوس، بل وعدلت من سياستها الخارجية، فقد اكتشفت مصر بعد الهكسوس أن الصحراء لم تعد تحميها من الغزو الأجنبي فغيرت سياسة العزلة إلى سياسة غزو سوريا الكبرى تأمينا لحدودها.


 لكن عقلية الواحة الخضراء المنعزلة وسط الصحراء ظلت فيما يبدو كامنة بعمق في الثقافة المصرية، وتحولت فيما بعد إلى انطواء على الذات وعزلة حضارية وثقافية شجعها الحاكم الأجنبي، كما شجع العزلة بين الحاكم والمحكوم، أي بينه وبين الشعب، فانتفى شرط التناغم الوطني، مفسحا الطريق لنموذج الاستعباد. لكن مع أفول نجم الحضارة المصرية تمكنت ثقافات أكثر شبابا من غزو مصر، التي هي بالطبع الجائزة الكبرى لأي إمبراطورية شرق أوسطية أو بحر متوسطية، بحكم موقعها ونيلها وشعبها المعتاد على النظام والإنتاج. وتزامن ضرب الثقافة الوطنية مع ضرب الروح القومية المصرية في الصميم، بل وفقدان الشعب المصري ذاكرته التاريخية. 


وبسبب عدم انتماء الحاكم الأجنبي لثقافة الشعب المصري، إلى جانب المشكلة الاقتصادية المزمنة المتمثلة في ضعف رأس المال اللازم للتنمية كما أشرنا، تحول نموذج التناغم الوطني إلى نموذج استعباد من الحاكم للمحكوم، إذ بهذا الشكل يحل الحاكم الأجنبي مشكلة انخفاض العائد الاقتصادي على الانتاج، أي عن طريق العمالة الشديدة الرخص، فعن طريق تجويع الشعب تعيش الطبقة الحاكمة في بذخ خرافي. ويستغل الحاكم الأجنبي ما جبل عليه الشعب المصري من انضباط  ناتج عن التعود على الحكم المركزي، ويستخدم الجهاز الإداري الذي ينظم تحكم المركز في مفاتيح الإنتاج والتوزيع، للاستمرار في استعباد الشعب.

 وهنا تحول دور العزلة التي تفرضها الصحراء من حاجز ضد الغزو الأجنبي إلى أسوار سجن يؤدي إلى حبس الفلاح داخل الوادي دون إمكانية الاتصال بالعالم الخارجي، لأن الهرب عن طريق الصحراء يعني الموت جوعا أو عطشا أو بضربة شمس. وبهذا تم حل مشكلة ارتفاع تكاليف الإنتاج عن طريق توفير تكاليف العمالة، لأن الفلاح كان يعمل في ظل أوضاع تقترب جدا من حد السخرة، إن لم تكن السخرة ذاتها. 


ويمثل تاريخ  الشعب المصري في أحد جوانبه الجوهرية صراعا مستمرا بين قوى التناغم الوطني التي تعكس روحا وطنية متميزة وبين قوى الاستعباد، حيث ارتبطت الأولى بالثقافة المصرية الأصيلة، بينما ارتبطت الثانية بالحكم غير المصري. ويلاحظ بوضوح أنه رغم التخلص الظاهري حاليا من حكم الأجنبي وإحلال الحكم المصري، فإن الطبقة الحاكمة المصرية تتصرف الآن من تراث الطبقة الحاكمة الأجنبية وتعمل وكأنها احتلال، فتتعالي على الشعب، وتحتقر الفلاح الذي هو أعظم رأسمال لمصر، والذي أخرج لنا كل من نعرفهم ومن لا نعرفهم من أبطال مصر في مختلف المجالات. 

هذا بشكل عام، رغم وجود فترات ازدهار هنا وهناك ومحاولات للتخلص من نموذج الاستعباد والانتقال إلى نموذج التناغم الوطني، غير أنه لابد من الاعتراف بأننا لم نصل إلى شاطئ الأمان بعد، رغم مرور قرابة قرن ونصف قرن من الزمان على وقفة أحمد عرابي ابن الفلاح المصري الأصيل أمام الخديو توفيق قائلا له في وجهه : ”فوالله الذي لا إله إلا هو لن نورث أو نستعبد بعد اليوم“- رغم هذا لم نتمكن حتى الآن كشعب أن نحقق قسم عرابي الذي ألقاه في وجه الخديو الذي يحترم الأتراك ويحتقر الفلاحين.

نستخلص التالي مما سبق:

١- حين تولي المصريون حكم أنفسهم بأنفسهم، سواء حين كان رؤساء وزراء مصر في القرن العشرين من الباشوات المصريين أو حين حكم الضباط مصر، وهؤلاء لم يكونوا باشوات بل من صميم البيئة الشعبية، ففي الحالتين شهدنا ظاهرة انفصالهم عن الشعب وكأنهم ذات الحاكم الأجنبي، خاصة في حالة الضباط لأنهم أتوا من صميم البيئة الشعبية وكان معمظمهم نتاجا للطبقة المتوسطة إن لم يكن المتوسطة الدنيا، فقد انتحل هؤلاء شخصية الحاكم المملوكي والتركي والأوروبي، من حيث الاستعلاء على الشعب، وخداعه، سواء بحسن نية أو بسوء نية فهذا لم يغير النتائج، والنتيجة النهائية هي الفشل ويقوم الشعب كالعادة بدفع الثمن، ويعتاد الناس على دفع الأثمان الباهظة ويعتبرونها جزءا طبيعيا من الحياة! 

٢- أثبتت تجارب محمد علي وإسماعيل وعبدالناصر، وهي تجارب للإصلاح من أعلا، أثبتت فشلها، والاستنتاج الواضح هو ضرورة الإصلاح من أدنى، أي من القاعدة الشعبية، مع التنويه بأن الوقت يمر وإسرائيل تتقدم بينما نحن محلك سر، وهو ما يشكل خطرا شديدا على الوجود المصري ذاته، ووصل الخطر إلى حد التهديد بالقضاء على الإقليم المصري بخصائصه التاريخية عن طريق سد النهضة وعلاقة إسرائيل الواضحة به (وأخيرا تشجيعها للانقلاب العسكري في السودان).

٣- أن كل من جغرافية مصر وتاريخها يشيران إلى أن إدارة الإقليم المصري أمر شديد التعقيد كما نوهنا أعلاه، وأن مراحل الازدهار قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بمنظومة روحية وأخلاقية متقدمة، تشجع روح الابتكار. وهنا يتعين القول بأن ما نشهده حاليا من تشدق بالتدين إنما هو ستار يخفي تحته أعطاب روحية وأخلاقية واضحة للعيان، نتيجة اختصار المسألة في الطقوس والشكليات وإغفال القدوة والجوهر، وتحول المجتمع إلى مجرد مجتمع مواعظ، دون تطبيق حقيقي لروح الأديان في العلاقة بين الناس، خاصة بين طبقات المجتمع غنيها وفقيرها، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الشيوخ والشبان، بل ينسحب ذلك أيضا في العلاقة بين العبد وربه، حيث نشهد رجل الشرطة الذي يمسك بالمسبحة بينما يقوم بتعذيب مواطن غلبان، والحاج الذي يختلس ويقبل الرشوة.. الخ.

٤- مع الاعتراف بما يواجهه المصريون من صعوبة بالغة في حل المشاكل العويصة الماثلة، وشعورهم بالإنهاك، فلابد لكل من يقدر أن يعمل على نشر التفتح والوعي الفكري إزاء الحقائق، وتشجيع التفكير العلمي والابتكار، والاستمرار في الطريق وتحمل الأذى من العقول ذات الترابيس المغلقة والنفوس ذات الأمراض المستعصية، بعيدا عن الجمود الفكري الخانق الذي بدأ منذ منتصف عهد السادات ثم أتمه مبارك بجدارة واستحقاق، إذ حكم ثلاثين عاما كان لها أسوأ الأثر في زيادة عمق ووتيرة تحويل الحياة المصرية روحيا وفكريا ووجدانيا إلى بركة راكدة، ولا عجب فقد كان العقل السياسي للرجل بركة راكدة.


موضوعات قد تهمك :

جيمس زغبي يكتب: الديمقراطية المُحرّفة

عمرو حمزاوي يكتب: الهجمة السلطوية على المواطن والمجتمع من تونس إلى السودان ولبنان

جلال نشوان يكتب: أمريكا والصين ومعركة (كسر العظم )

د. محمد إبراهيم المدهون يكتب : في ذكرى وفاء الأحرار ..الأسرى أولا

ماهر الملاخ يكتب: تجربة العدالة والتنمية نهاية أطروحة ونكسة مشروع ٢



كلمات دليلية
التعليقات (0)