د. محمد سيف الدولة يكتب : القـدس رايتـنـــا

profile
محمد سيف الدوله مفكر سياسي
  • clock 8 مايو 2021, 4:42:11 م
  • eye 1247
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في الحروب القديمة، كان لكل جيش من المتحاربين راية، يحملها مقاتل شجاع، يتم انتقاءه بعناية، مهمته الوحيدة هي الإبقاء عليها مرفوعة مرفرفة على الدوام. وكان يكلف بالصمود حتى اللحظة الأخيرة مهما كانت الصعاب 

او اشتد الكر والفر او حمى وطيس المعركة.وفى مواجهة احتمالات الهزيمة، كان يوصى بان يكون هو آخر المتراجعين أو المنسحبين،

 وان يحاول إن جُرح أو ضُرب في مقتل، إن يرفع رايته عاليةً ولو لبضعة دقائق إضافية، الى ان يتسلمها منه مقاتل جديد.

لماذا؟

لأنه فى ذروة القتال حين يكون كل إمرئ مشدودا بكل جوارحه الى ظرفه الخاص من كر وفر، وهجوم ودفاع، وحين تكون حياته على المحك،

 كانت أطرف الأعين تسترق لمحات خاطفة الى راياتها. فان وجدتها متقدمة ومقتحمة لصفوف العدو، دل ذلك على ان النصر قريب، فزادهم ذلك همة وحماسة وقدرة على التحمل ومواصلة القتال.

وان تراجعت الرايات، أدركوا ان أحوال المعركة لا تسير لصالحهم، فتهتز ثقتهم قليلا او كثيرا، فيتدبرون أمرهم، ويبحث قادتهم عن خطط وتكتيكات جديدة.

 كانت حركة الراية ومكانتها وموضعها أثناء المعارك تقوم بنفس الدور الذي تقوم به اليوم البيانات العسكرية وأجهزة الإعلام وإدارات الشئون المعنوية.

وكان ظهور راية الجيش المهاجم فى قلعة العدو، بمثابة إعلان ان الحصار قد نجح وان الحصن على وشك السقوط.

وان سقطت الراية، واختفت ولم يعد هناك من يرفعها، كان هذا مؤشرا على هزيمة أصحابها واندحارهم.

ان القدس بهذا المعنى البسيط، هى رايتنا كعرب ومسلمين، وسقوطها يختلف عن سقوط غيرها من المدن العربية، كحيفا وغزة ورام الله وبغداد.

 فسقوطها يعنى سقوط حامل الراية، الذى مات او استشهد او انكسر او جبن عن ان يحمل رايته ورمز أمته.

فالحروب الصليبية التى دارت معاركها من 1096 حتى 1291، شاهدت سقوط عديد من المدن والإمارات العربية والإسلامية في يد الغزاة، ولكن كان لسقوط القدس عام 1099 دويا أليما، وكأنها عاصمة الأمة.

وكذلك شاهدت نفس هذه الفترة انتصارات ومعارك تحرير عربية إسلامية كثيرة فى عهود عماد الدين زنكى، ونور الدين محمود، والناصر داوود الايوبى، والظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون.

ولكن كان لتحرير القدس على يد جيش صلاح الدين عام 1187 وقعا مختلفا ودلالة تاريخية فارقة.

 وعندما مات صلاح الدين، كان لا يزال هناك عدد من الامارات الصليبية فى اراضينا، ولكن معركة حطين كانت هى الضربة القاصمة التى توالى بعدها انهيار المشروع الصليبى بأكمله.

لماذا للقدس هذه المنزلة؟

اولا ــ لما لها من قدسية خاصة منذ أسرى الله سبحانه و تعالى بالرسول عليه الصلاة والسلام الى المسجد الأقصى. وهو الرسول الذى مثلت رسالته، 

نقطة تحول فارقة فى تاريخ هذه المنطقة، فبها أسلمنا وتعربنا، وخرجت الى الحياة امة وليدة جديدة، كانت لقرون طويلة، واحدة من القوى الكبرى فى العالم.

وثانيا ـ  لان القدس هى البوابة التي كان المعتدون على مر التاريخ سواء من الصليبيين الفرنجة او من الصهاينة، يحاولون الولوج منها إلى أوطاننا، بذرائع دينية كاذبة؛

فهى ارض المسيح التى يجب تحريرها من العرب الكفرة، وفقا لخطبة البابا أربان الثاني فى فرنسا عام 1095 م.

وهى الأرض المقدسة لليهود، التى ذكرت فى التوراة اكثر من 660 مرة، وفيها هيكلهم المزعوم، والتي احتلها الغزاة العرب المسلمون على امتداد 14 قرنا، حسب فتاوى الحاخامات والقادة الصهاينة المعاصرين.

فجميع الغزاة، استخدموا القدس لاختلاق مشروعية دينية مقدسة لغزواتهم، علهم ينجحون بذلك فى انتزاع مشروعية قومية، مشروعية لاغتصاب أوطاننا والبقاء فيها.

وكان رد أسلافنا على مر التاريخ، هو القتال لطرد الغزاة وتحرير الأرض المغتصبة، انطلاقا من الحقيقة التاريخية الموضوعية، وهى ان هذه أرضنا نحن،

 التى تعربت وتعربنا معها منذ الفتح الإسلامي، وعشنا فيها قرونا طويلة، و لم نغادرها أبدا منذ ذلك الحين، فاختصصنا بها دونا عن غيرنا من الشعوب والأمم.

 أما المقدسات الدينية فإنها لا تعطى وحدها، أهل هذا الدين أو ذاك، أى حق في امتلاك الأرض التى تحتضن مقدساتهم. فالأمم ليست مقدسات فقط،

 وإنما هي ايضا شعب وارض وتاريخ طويل ولغة واحدة وحضارة متميزة ولا نقول ممتازة.

وهكذا كانت القدس على الدوام رمزا للجميع: رمزا لهويتنا العربية والإسلامية، وهى هوية صادقة وحقيقة موضوعية ثابتة تاريخيا.

وكانت أيضا رمزا كاذبا ومختلقا ومزعوما للصهاينة ومن قبلهم الصليبيين.

وبالتالي فان حماية القدس من السقوط، هي فى الأولوية دائما، لان حمايتها تمثل حائط صد ضد تحصين الاغتصاب الصهيوني بمشروعية دينية زائفة. 

   ولان الدفاع عنها هو دفاع عن اختصاصنا التاريخي بكل فلسطين، بل وكل الأرض العربية.  ولأنها قضية لا يملك أحدا فى السلطة الفلسطينية من جماعة أوسلو،

 ان يدعى اختصاصه وانفراده بها، فهى قضية كل العرب مسلمين ومسيحيين وكل المسلمين من غير العرب،

 وليست قضية فلسطينية فقط، وهو ما يستدعى من ناحية أخرى إخراجها من أجندة المفاوضات العبثية بين السلطة والصهاينة.

ولأنها قادرة برمزيتها المقدسة، على تعبئة جماهيرنا في كل مكان للاشتباك مع العدو الصهيوني، فهي البوابة الأنسب لهذه المهمة. 

  وأخيرا وليس آخرا، لأنها قضية ملحة وعاجلة، حيث يقوم العدو الآن بتصعيد وتكثيف العدوان عليها، لهضمها وابتلاعها فى اقرب وقت.

التهويد قديم :

ومسلسل اغتصاب القدس وتهويدها قديم، بدأ منذ بدايات الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922، عندما تركزت الهجرات اليهودية الوافدة، غرب المدينة القديمة،

 لتكون نواة ما يسمونه الآن بالقدس الغربية. ثم توالى المسلسل باغتصاب القدس الغربية عام 1948 ضمن ما تم اغتصابه من فلسطين. 

وقام الصهاينة بطرد ما يقرب من 60 ألف عربي منها. ثم جاء احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، وما تلاه عام 1980من ضم القدس الشرقية إلى الغربية تحت اسم القدس الموحدة عاصمة لدولة الكيان.

 لتتابع الاعتداءات ببناء أحزمة من المستوطنات لحصار المدينة القديمة من الشرق لعزلها عن محيطها العربي، والحيلولة دون امتدادها وتوسعها فى هذا الاتجاه ايضا،

 لوأد أى مشروع لاسترداد القدس الشرقية فى اى مفاوضات مستقبلية. وذلك من خلال زرع اكبر عدد من المستوطنات والمستوطنين الصهاينة فى القدس الشرقية 

ليبلغ عددهم فيها اليوم ما يزيد عن 300 ألف مستوطن، ويبلغ عددهم فى الضفة الغربية ما يقرب من 700 الف.

ولنتذكر معا أن جملة عدد اليهود فى كل فلسطين عام 1917 لم يتعدَ 60 الف، وهو ما جعلهم يكتفون بطلب حق اقامة وطن قومى لهم هناك،

 ولكن عام 1947 عندما بلغ عددهم 650 الف، كان لديهم الجرأة ان يطالبوا بدولة وليس بمجرد وطن، وهو ما اخذوه بالفعل من الامم المتحدة فيما سمى بقرار التقسيم.

ولكن الآن بلغ عددهم كما أسلفنا 700 الف يهودي فى الضفة الغربية وحدها. فلنا ان نتصور حجم المشكلة وعمق التهويد الذي تم هناك.

 والذي يستكملونه على قدم وساق بالتربص بالمسجد الأقصى وإزالة منازل أهالينا المقدسيين وغيرها من الإجراءات اليومية التى كادت ان تنجح فى التهويد الكامل لمدينتنا المقدسة.

والراية على وشك السقوط:

وطوال هذه العقود، لم تتوقف مقاومتنا للمشروع الصهيوني عامة، ولتهويد القدس على وجه الخصوص، فمنذ ثورة البراق فى أغسطس 1929 وإعدام قادتها الثلاثة،

 الشهداء عطا الوزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي فى سجن عكا في 17 يونيو 1930، مرورا بانتفاضات 1987 و 2000،

 وما تلاها من صمود ومقاومة بطولية ضد حروب الاحتلال على غزة، بالاضافة الى الاشتباكات الدائمة التى يمارسها شعبنا الأعزل هناك يوميا، في مواجهة ماكينات القتل والابادة والتهجير والأسر الصهيونية.

إن أبطالنا المقدسيين، يلتزمون بوصايا الأجداد، فهم لا يزالون يحملوا الراية، ويحفظونها من السقوط بما تبقى لهم من طاقة. ولكن جروحهم أُثخنت، وهم في انتظار مقاتلين جدد، يشدون من أزرهم، ويتسلمون منهم الراية التي كادت ان تسقط، فهل من مجيب؟

التعليقات (0)