- ℃ 11 تركيا
- 7 نوفمبر 2024
محمد دوير يكتب :ذكريات قديمة
محمد دوير يكتب :ذكريات قديمة
- 26 أبريل 2021, 8:26:16 م
- 861
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
.. كنت وأنا طفل حينما أنظر بانبهار في فاترينة عرض الملابس في أقرب مدينة لقريتي، وأري التماثيل ( المانيكان) يرتدون ملابس نظيفة وجميلة وزاهية.. أشعر بالتضاؤل، وتنتابني حالة من الشعور الداخلي بالغربة، وعدم الرضا عن النفس.. وتظل الأزياء والألوان عالقة بذاكرتي حتي تتلاشي تدريجيا ولكنها سرعان ما تتجدد في أقرب زيارة أخري.
.. ولما كبرنا لمرحلة الصبا، أصبح بمقدورنا أن نجلس علي المقاهي ونري التلفزيون الأبيض والأسود، ثم الملون بعد ذلك ، لنشاهد من خلاله تحدي من نوع أخر.. ففي الحياة بشر يرتدون ثيابا غالية، ويركبون سيارات فارهة، وسيدات من عالم آخر.. يحيطهن البريق واللمعان .. وترتسم علي وجوههن الابتسامات وكل صنوف الماكياج – الذي كنا نتصوره خلقة ربنا –
.. ولما صرنا شبابا تحولنا من حالة الاندهاش بالعالم الخارجي الملون والزاهي.. الي حالة التجريب بدخول هذا العالم، وأن نصبح جزءا منه وكانت الاسكندرية هي حقل التجربة كانت بغداد وعمان والقاهرة وروما ...الخ حقول لتجارب شباب أخر أتي من عالم النسيان الي عالم الموضة والصخب.
.. ولكننا اكتشفنا أن مجتمع الفاترينات والشاشة الفضية ليس هو العالم الحقيقي الذي يقبلنا أعضاء فيه، فنحن أبناء الريف والفقر مؤهلين للعيش علي أطراف المدن الكبري وبعيد عن البؤر المضيئة اجتماعيا واقتصادية فتحولت الفاترينات الي شخصيات حقيقية نراها بأعيننا، ولم يعد يفصلنا بين عالم الغني وعالم الفقر زجاج المحلات بل زجاج السيارات الحديثة التي يقبع خلفها رجال المجتمع والمال وسيدات اللوتاري بنظاراتهن المفخمة.
.. وتدور السنون دورتها.. يزاد الأغنياء غني والفقراء فقرا.. وننسحق نحن تحت عجلات الحياة وبؤسها، فيتحول البؤس الي يأس.. ونعود لنفس النقطة المركزية القديمة من جديد، ويصبح لهؤلاء المتفاخرين بحصاد أموالهم عالمهم الخاص الذي يطلون علينا منه عبر شاشات الاعلانات بمدنهم الجديدة وسياراتهم المفخخة بالاحتقار وكلابهم التي يشع من عيونها الصحة والعافية وأرصدتهم التي تعج بها البنوك ونعود من جديد الي حالة الطفل الذي يمسك بيد والده أمام فاترينة ملابس وكل غايته وأمله أن تساعده لعبته الجديدة التي صنعها من طين الترعة في أن تلهيه عن ما رأي من ألوان وبريق.
.. ما يصدره التلفزيون المصري يوميا من اعلانات تحض علي احتقار النفس والشعور بالدوينة، وتذكرنا دائما أننا عاريا، لافتقارنا الي ملابس غالية وزاهية.. وأننا فقراء لافتقارنا الي السكني في المنتجعات.. وأننا محدودي الأفق لجهلنا بمعالم العالم ومدنه وحضاراته وأننا أغبياء وكسالي لأننا لا نتملك شاليها أو سكنا في قرية سياحية أو رصيدا في البنوك.. وبأننا لسنا سوي جمهور ترسو يجلس أمام الشاشة الفضية يتابع بريق هذه الممثلة أو عبقرية رجل الأعمال فلان الفلاني..
.. لقد حولونا الي عيون تري وقلوب تتمني.. فكرهنا أنفسنا من فرط التنمر علينا.. إنهم يتفاخرون بفقرنا لا بغناهم ويمارسون معنا كافة أنواع الرذيلة وهم يلبسون ثوب البراءة وعباءة الدين والرزق..
ما تفعله اعلانات التلفزيون المصري يفوق كافة أصناف التعذيب النفسي التي مارسها كل الحكام المستبدين في هذا العالم.