ماهر الملاخ يكتب: الحروب السيميائية الظاهرة الخفية -سيميائيات اللباس نموذجا

profile
ماهر الملاخ أكاديمي إعلامي- تخصص سيميائيات
  • clock 26 يناير 2023, 9:13:05 م
  • eye 1230
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تشتد أعصاب الشعوب كلما اندلعت حرب عسكرية بين دولتين، ويعم العالم الخوف الشديد كلما طالت تلك الحروب، خشية تأثيرها على مصالح العالمين ووجودهم.  ويهتم المؤرخون بعد ذلك في رصد أسبابها وتطورها ونتائجها..
غير أن حروبا من نوع آخر، تندلع وتدوم، وتخلف عبر الوقت ضحايا ودمار، لا تنتبه لها عموم الشعوب، ولا تحظى باهتمامها، ناهيك عن انفعالها تجاهها، ورغبتها في انتهائها، ومحاصرة آثارها وويلاتها.
ذلك أنها حروب لا تنتمي للمجال السياسي بقدر انتمائها للبعد الحضاري، فهي لذلك خفية مع شدة ظهورها، وباردة مع شدة ضراوتها.
فآلهة الترويج، تحرّم على منصات الأخبار، عالميا، أن تأتي على ذكرها، ولو كفقرة للتغطية ضمن نشراتها. ومن تلك الحروب، الحروب السيميائية.
ولأنها متعددة الجبهات، معقدة الأشكال والأدوات، فيمكن اليوم، أن نكتفي بإثارة الحديث عن نموذج واحد منها. تلكم هي "حروب سيميائيات اللباس."
فهي تشهد ضراوة شديدة منذ زمن لا يقل عن ثلاثة قرون، حين نظم المصمم البريطاني شارل فريديريك وورث أول عرض للأزياء النسائية في لندن، سنة 1900. ومن حينها بدأت تعرف موضة اللباس بكونها: "مؤشرا مباشرا للقيم السائدة في المجتمع، وطريقة فعالة لاستفزاز النظام القائم، من أجل كسر التقاليد.". في تلك الأجواء، كانت في باريس حوالي 20 دارًا للأزياء الراقي، وبعد 46 سنة ستصل إلى 100 دار، فيما هي الآن لا تتعدى 15 دارا. وهو ما يثير أكثر من تساؤل. 
وقد وصلت تلك الحرب، اليوم، الى لحظة مفصلية، تهدد فيها جوهر القيم الإنسانية، ومستقبل تماسك المجتمعات البشرية، بل لا نبالغ إن قلنا، ومستقبل وجود الإنسان فوق الأرض.
الاستعفاف ضد الدعارة:
فاليوم، يحصل تشويش خطير في مجال اللباس، وذلك إنه، إذا كان من الطبيعي أن الوظيفة الاجتماعية المفترضة له، تتجلى، سيميائيا، في قصد الاحتفاء بالذات في إطار سلوك الاستعفاف، أو حتى يمكن أن تتجلى، جدلا، في قصد الإغراء بالذات في إطار سلوك الاستدعار، بارتداء ما يعزز المقصد المراد سيميائيا مهما كان اتجاهه.
فإن تشابكا مضطربا قد حصل، من شأنه تكريس شيزوفرينية اجتماعية غريبة، عمت المجتمعات البشرية بشكل واسع، من مشرقي المعمورة إلى مغربيها. تتجلى في اتخاذ شكل الهتاك وسيلة للاحتفاء بالذات، تعبيرا عن سلوك الاستعفاف. أو اتخاذ شكل الاحتجاب، وسيلة للإغراء بالتعبير عن سلوك الاستدعار.
شيزوفرينية كهاته، لم تتجلّ دفعة واحدة، بل سبقها اشتغال يومي حثيث، تداعت له، منذ زمان بعيد، مجالات علوم النفس والاجتماع والاقتصاد، والسيمياء.. حتى تسهم في تحقيق هدف التنميط القيمي للبشرية، قصد كسر كل الموانع الاخلاقية لاستهلاك المواد المعروضة، كيف ما كان شكلها، ومهما كانت حمولاتها.
ولئن اعتبرت هذه الحرب هي المرحلة الآنية الرابعة، فقد سبقتها ثلاث حروب أخرى على الأقل:
الفطرية ضد الشذوذ:
تم في إحداها الاشتغال على تكسير الفوارق الذوقية بين الجنسين، حيث تماهت الألوان فيما بينهما كما تماهت النماذج الهندسية للألبسة. حتى التبس الأمر على الزبون، فغدا مضطرا، إذا ما دخل متجرا، أن يتوجه بسؤال عارض السلعة، لتحديد ما إذا ما كان المعروض يخص الرجل أو المرأة، حيث يصبح العارض مرجعا ذوقيا لتحديد ذلك، وإنما هو في حد ذاته "ساعي قيمة" لتصريفها لدى المستهلك النهائي، في غياب أي خلفية تصورية لديه حول الدور الحقيقي الذي يقوم به.
وهو ما مهّد لنظريات الجندرة، التي طفت على السطح منذ سنة 1988، في أمريكا الشمالية، قبل أن تنتقل إلى أوربا الغربية، بما حملته من تشكيك في التمييز بين الذكر والأنثى، في نفس الوقت، ويا لكيد المفارقات، الذي تركز فيه على الفروق المفترضة بين الذكر وشبه الذكر، والانثى وشبه الانثى، إضافة الى تشريع حق العبور بين الاجناس الأربعة، ذهابا وإيابا، حسب الرغبة التي تطغى في أي مرحلة من مراحل الحياة. دون الحديث عن اتجاه العبور نحو الأنواع، (من الإنسان إلى الحيوان مثلا)، لا فقط العبور نحو الأجناس.
ولم يكن من المصادفة أن لمعت في مجال الموضة كبار الاسماء في حالات الاضطراب الجنسي، ومن بينهم: إيفيس سانت لورون، وكريستيان ديور، وبيير بيرجي.. وكأن إبداع نماذج اللباس، هو حكر محتكر لمن اضطرب نفسيا وشذ جنسيا، دون غيره من الأسوياء.
النضج ضد الاسترهاق:
كما تم في المرحلة التالية، تكسير الفوارق الذوقية بين الأعمار، في اتجاه "ترهيق" الذوق و"تشبيبه"، في إطار تقديس مرحلة المراهقة والشباب، لا باعتبارها مرحلة النشاط والعطاء، بل باعتبارها فرصة العمر الكبيرة في استنفاد المتعة المتفلتة من أي مسؤولية أو التزام.
ولأن المجتمع الرأسمالي المتوحش، قد تعدى قيمة الإنتاج، فأعلى من شأن قيمة المتعة، لتنتصب قيمة مركزية في الحياة، فقد كان من الطبيعي تبريز تلك المرحلة التي تمثل نموذجا لتصريف تلك المتعة، لأنها تفتح أبعاد عالية للاستهلاك. 
فبعد أن كان المراهق يستبق الأيام والشهور كي يسمح له اجتماعيا بتقليد الكهول في شكل اللباس وأسلوب التعامل داخل المجتمع، فيحظى بموقع اعتباري مميز، ينعكس على حياته المعنوية والمادية فقد غدا الكهل، ذاته، يعتبر اللباس "الشبابي" معيارا للذوق الراقي والسلوك الاجتماعي المرحب به. 
وبذلك، قبل من نفسه التصابي مهما شق مفرقيه الشيب، وصدّق سيكولوجيا احتمالية خلود شبابه مهما تقدمت به السنون.
فسُلب، مقابل ذلك، امتيازه القيمي باعتباره مرجعية اجتماعية،
فعاد لا يجد غضاضة بتقليد المراهق في أشكال لباسه وألوانها، بل حتى الاحتذاء به في التأثيثات الجسدية المرتبطة بها، من قلائد وأوشام. فغدا الشاب مرجعا للكهل، حتى يحظى بالقبول في مجتمع يقدس الإغراء، ويتطلع نحو المتعة بشكل مزمن.
التحرر ضد الهيمنة:
حرب سيميائية ثالثة، سبقت ما نحن فيه، وهي تكريس النموذج الذوقي الغربي، كأسلوب راق في اللباس، ونموذج مثالي للعصرنة، في اتجاه تنميط المجتمعات لاعتماد الغرب معيارا مرجعيا ونموذجا للاقتداء.
وهنا لا بد أن نسجل، درجة المناعة التي لا تزال شعوب الخليج خاصة تتمع بها: حيث تشبثت بأسلوبها المميز في اللباس، إن في الحياة الاجتماعية اليومية أو المناسباتية والادارية والرسمية والدبلوماسية. بالرغم من تعرضهم لحرب إعلامية شرسة، تولت كبرها منتحات هوليود، ومستتبعاتها من وسائل الترويج، والتي سعت سعيها لتدمير اعتزازهم بهويتهم الذوقية في اللباس. وقد كشفت كل ذلك، لحظة إلباس أمير قطر، لعميد الفريق الفائز بالبطولة العالمية، للعباءة الرجالية الخاصة بشعوب الخليج.
وتليهم. في مجال الاعتزاز الذاتي في اللباس، ولكن بدرجة أقل، شعوب المغرب وماليزيا واندونيسيا وكوريا الشمالية، ومعظم الشعوب الإفريقية غير العربية.
مع التأكيد على أن البعد التزامني للباس، (التطور عبر الزمن وفق ما تتطلبه الشروط الاجتماعية)، يعتبر بعدا أساسيا في التعامل مع أي ظاهرة اجتماعية، ومن ضمنها اللباس، إلا أن القابلية للتزمين لا تقتصر فقط على النموذج الغربي في اللباس، بل قد تتقبل بقية الأنماط التقليدية لبقية الشعوب. وهو ما هي مطالبة به، للتحرر من تلك الهيمنة القيمية للباس الغربي.
ختام:
هكذا نلاحظ أننا، كشعوب إنسانية، نخوض في مجال اللباس، دون أن ندرك ذلك بشكل واضح، حروبا سيميائية متزامنة: تتجلى الأولى في حرب الاستعفاف ضد الدعارة، والثانية في حرب الفطرية ضد الشذوذ، والثالثة في حرب النضج ضد الاسترهاق. فيما تتجلى الرابعة في حرب الاستقلال ضد الهيمنة.
ليبقى السؤال المطروح في الأخير: 
إلى أي حد بدأت النخب السياسية الحاكمة، تفكر في أن تتبنى استراتيجية سيميائية، لمواجهة تلك الحروب الأربعة، التي تهدد في العمق، كيانها ووجودها؟


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)