- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
مالك التريكي يكتب: جغرافيا التمرد على سلطة الخريطة
مالك التريكي يكتب: جغرافيا التمرد على سلطة الخريطة
- 9 سبتمبر 2023, 5:00:00 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نشرت «القدس العربي» قبل أيام خبرا مفاده أن عضو البرلمان الأردني صالح العرموطي وجه إلى وزير الخارجية أيمن الصفدي سؤالا حول مدى صحة الأنباء القائلة بوجود سفارة لـ«فرسان مالطا» في عمّان وحول ما إذا كان لهم سفير معتمد لدى الأردن. وتساءل العرموطي حول حقيقة وجود اتفاقيات تعاون بين الأردن وفرسان مالطا وحول موضوع هذه الاتفاقيات، إن وجدت، وعن طبيعة عملهم ونشاطهم داخل البلاد.
وأضاف العرموطي أسئلة، من المرجح أنه يعرف أجوبتها، من قبيل: «ما هو ترتيب فرسان مالطا على الخريطة السياسية؟ وهل لها كيان معترف به دوليا كدولة؟ وأين توجد؟ وما هو نظام الحكم فيها؟». ولكن البادي أنه ما طرح هذه الأسئلة إلا تمهيدا للسؤال الجوهري: «هل تعلم الخارجية الأهداف والغايات التي يمارسها (لعل المقصود يسعى إليها) فرسان مالطا؟».
وقد بحثت عما إذا كانت وزارة الخارجية الأردنية ردت على أسئلة نائب البرلمان، فلم أجد أي خبر. وربما لم يسمع كثير من العرب بجماعة فرسان مالطا إلا عندما قرر البابا حل قيادتها وسن دستور جديد لها. وقد صدر قرار البابا في 7 سبتمبر/ايلول 2022، تزامنا مع إحياء الجماعة للذكرى السنوية لنجاحها في صد الهجوم الذي شنته البحرية العثمانية على جزيرة مالطا عام 1565، بعد أن أحكمت عليها حصارا مديدا أبدى فيه الفرسان شجاعة نادرة. وقد بقي هذا الحصار منتقشا في الذاكرة الشعبية، خصوصا في أوروبا اللاتينية، إلى حد أن فولتير زعم أنه ليس ثمة واقعة يعرفها الناس أكثر من حصار مالطا. وهكذا تمكن العثمانيون من الانتصار على الإمبراطور كارلوس الخامس (شارلكان) بتخليص تونس والجزائر من الاحتلال الإسباني الذي استمر حوالي أربعة عقود، ولكن شارلكان نجح، بما كان يقدمه لفرسان مالطا من دعم، في تثبيت الجزيرة الصغيرة صلبَ الحضارة المسيحية.
وجه الغرابة في هذه الجماعة هو أنها تعرَّف بأنها كيان ذو سيادة، حيث تسمى سياسيا «نظام السيادة العسكري لمالطا» وأنها تحظى بصفة مراقب دائم لدى الأمم المتحدة
وكانت الجماعة الدينية، التي تسمى رسميا «نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي في رودس ومالطا» قد أنشئت عام 1048 لتقديم العون الطبي لحجيج بيت المقدس. ولكن فرسان القديس يوحنا تحولوا، بعد بدء الحروب الصليبية، إلى مجموعة قتالية شرسة استماتت في تنفيذ المهمة التي كلفها بها الفاتيكان، أي حماية الاحتلال الصليبي للمشرق العربي. وقد اقترن اسمها عهدئذ بسلسلة من المذابح والفظائع. أما في عصرنا، فإنه تحوم حولها شبهات، منها احتمال ارتباطها بشركات تجنيد المرتزقة الأمريكيين، وخصوصا شركة بلاكووتر، ومنها أن مديري السي آي أي السابقين وليام كيسي وجون ماكون من أعضائها. بل إن الصحافي المرموق سيمور هيرش كشف عام 2011 أن العديد من كبار قادة الجيش الأمريكي هم أعضاء في جماعة فرسان مالطا أو هم، على أقل تقدير، من أنصارها.
وأيَّا تكُنْ حقيقة الأمر، فإن وجه الغرابة في هذه الجماعة هو أنها تعرَّف بأنها كيان ذو سيادة، حيث تسمى سياسيا «نظام السيادة العسكري لمالطا» وأنها تحظى بصفة مراقب دائم لدى الأمم المتحدة، كما أن لها ممثلين في عدة منظمات دولية، مثل بنك القارة الأمريكية للتنمية ومنظمة الصحة العالمية. ولكن العجيب أن الكيان ذا السيادة هذا ليس له لا شعب، ولا أرض (باستثناء بناية في روما)!
على أنه إذا كانت ملموسية مفهوم الدولة تقاس بحجم الاعتراف الدولي، فإن نظام مالطا دولة بلا شك، لأنها تحظى باعتراف أكثر من مئة دولة، منها ست دول عربية! كما أن لها جيشا يعمل في شكل وحدة طبية مستقلة في صلب الجيش الإيطالي ويسيّر قطارا طبيا يتسع لـ192 سريرا. بل الأعجب أنه قد كان لفرسان مالطا في الماضي سلاح جوي! وقامت إيطاليا عام 1947 بتحويل كثير من طائراتها الحربية إلى فرسان مالطا بغية الالتفاف على الحظر الجوي الذي فرض عليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فهل أن فرسان مالطا هي اليوم الكيان الشاذ الوحيد في السياسة العالمية؟ كلا! لقد أحصى باحث الجغرافيا الاجتماعية أليستر بونّت في كتابه الصادر حديثا، بعنوان «أبعد من الخريطة» ما لا يقل عن 39 كيانا كل منها قائم الذات، على نحو ما، رغم عدم وجوده في الجغرافيا الرسمية. ويصنف بونّت هذه الكيانات أصنافا، منها: الجزر المتمردة، والأماكن الطوباوية، والأماكن الخفية. أما فرسان مالطا فيدرجها، مع أماكن مثل «روسيا الجديدة والجدار الرملي الصحراوي» ضمن صنف «الجيوب الداخلية والأمم غير المتحققة».