- ℃ 11 تركيا
- 8 نوفمبر 2024
لماذا تفكر أوروبا في إعادة ضبط علاقاتها مع الصين؟
لماذا تفكر أوروبا في إعادة ضبط علاقاتها مع الصين؟
- 27 أكتوبر 2022, 6:15:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شكلت الحرب الأوكرانية صدمة استراتيجية للدول الغربية، وخاصة الأوروبية؛ حيث كشفت عن إمكانية تعرض هذه الدول لضغوط من قبل روسيا والصين؛ إذ عملت الدولتان على استغلال نقاط الضعف التي تعاني منها البلدان الأوروبية من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة ومستقبل الاقتصاد العالمي، حتى أصبح هناك شبه إجماع أوروبي نحو ضرورة اتخاذ مسار أكثر استقلالية في تعاملاتهم مع الجانب الصيني في كافة المجالات؛ إذ حثت ورقة بحثية أعدتها الخدمة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي، في شهر أكتوبر الجاري، الدول الأعضاء على تشديد موقفها إزاء الصين، والتعاون مع الولايات المتحدة لتعزيز الوضع الأمني لدول الاتحاد، وتنويع سلاسل إمداداتها بعيداً عن الصين، بهدف تفادي تكرار الأخطاء التي ارتكبتها أوروبا عندما اعتمدت على روسيا في مجال إمدادات الطاقة.
التوترات القائمة
بالرغم من قوة العلاقات الصينية–الأوروبية، فإنها شهدت العديد من التوترات في بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك؛ الأمر الذي دفع بروكسل إلى ضرورة إعادة التفكير في سياساتها الحالية تجاه بكين، وبمكن تناول أبرز تلك الملفات على النحو التالي:
1- الدعم الصيني لروسيا في الحرب الأوكرانية: منذ الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، قدمت بكين دعماً ضمنياً غير محدود لموسكو، بداية من عدم انتقاد العملية العسكرية الروسية وإلقاء اللوم على التوسع الشرقي لحلف الناتو في إثارة هذه الحرب، إلى الالتفاف حول العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وتنشيط التبادل التجاري بينهما لتعويض خسائر الاقتصاد الروسي، حتى أضحت الصين أكبر مشترٍ للنفط والغاز الروسي؛ ما جعل الأوروبيين ينظرون إلى بكين كأنها تقف في الجانب الخطأ من الحرب، بل وضعها في مركز منافسة أكبر وأكثر شراسة معهم.
2- التنافس على منطقة الهندو-باسيفيك: في عام 2021، كشف الاتحاد الأوروبي عن استراتيجية جديدة لزيادة حضوره في المحيطين الهندي والهادئ بهدف تعزيز التعاون مع دول المنطقة نظراً لما تتمتع به من أهمية استراتيجية؛ الأمر الذي من شأنه أن يضع الاتحاد في مواجهة مع نفوذ الصين المتزايد في المنطقة، خاصة في ظل النهج الفردي الذي يتبعه اتحاد “أوكوس” في تحركاته تجاه تلك المنطقة دون إشراك الاتحاد الأوروبي معه؛ لذلك قد تواجه تحركات بروكسل في هذه المنطقة تحديات متعددة الأبعاد، في ظل عدم رغبتها في توسيع ساحات التعاون مع بكين.
كما تعاني الدبلوماسية الصينية في أوروبا من العديد من الانتقادات بسبب الضغوط الصينية المستمرة على تايوان، التي تؤكد الصين أنها جزء من أراضيها، في حين أن الاتحاد ينظر إليها على أنها دولة مستقلة ذات سيادة، بل ينظر لها أيضاً بأنها تخضع للحكم الديمقراطي، ومن ثم يجب على دول الاتحاد مساندتها على حساب رغبات بكين؛ فقد أصدر أعضاء البرلمان الأوروبي، في شهر سبتمبر 2022، بأغلبية ساحقة قراراً يدين تصرفات الصين الاستفزازية تجاه تايوان، وقالوا إن التحركات الصينية قد يكون لها عواقب وخيمة على العلاقات الصينية–الأوروبية.
3- الانتقاد الأوروبي للأوضاع الحقوقية في الصين: عادة ما يحذر الاتحاد الأوروبي حكومة بكين على خلفية القضايا الحقوقية، وتحديداً في إقليم شينجيانج؛ حيث كشفت المفوضية الأوروبية، في الشهر الماضي، عن حظر مقترح على المنتجات المصنوعة من العمل القسري، بعد ضغوط مكثفة من المشرعين ونشطاء حقوق الإنسان القلقين بشأن الأوضاع في هذا الإقليم، في خطوة مماثلة قامت بتطبيقها الولايات المتحدة منذ نهاية العام الماضي على خلفية التقارير الغربية التي تشير إلى اضطهاد مسلمي الأويجور. والجدير بالذكر أن بروكسل قامت، في مارس 2021، بفرض عقوبات على بعض المسؤولين الصينيين على خلفية قضية شينجيانج، وفي المقابل ردت بكين بفرض عقوبات مشابهة على أعضاء من البرلمان الأوروبي وغيرهم.
4- بداية مقاطعة مجموعة الصين ودول وسط وشرق أوروبا: أطلقت بكين، عام 2012، مجموعة 17+1 للتعاون مع دول أوروبا الوسطى والشرقية، التي يتمتع أغلبهم بعضوية الاتحاد الأوروبي، بهدف تعزيز العلاقات معهم، وتعزيز حملتها لمشروعها الطموح “الحزام والطريق” لبناء الجسور والسكك الحديدية ومحطات الطاقة والبنية التحتية الأخرى عبر القارتين الأوروبية والآسيوية، بيد أن هذه المجموعة قد انخفض عدد الشركاء الأوروبيين بها إلى 14 عضواً، بعد خروج كل من أستونيا ولاتفيا وليتوانيا؛ وذلك بسبب عدم تماشي أهداف المجموعة مع الأهداف الاستراتيجية للدول الثلاث المنسحبة منها.
وبالرغم من استمرار 14 دولة في صيغة التعاون هذه، فإن شكوكهم بشأن جدوى هذا التنسيق تتزايد، وتأتي دعوات داخل المؤسسات الوطنية لتلك الدول من أجل الخروج من المجموعة، لدعم استقلالية بلادها عن التبعية الاقتصادية للصين، وخصوصاً مع عدم وفاء بكين الكامل بالاستثمارات التي وعدت بضخها منذ بداية تأسيس المجموعة.
5- توقف إعادة بيع الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا: طلبت السلطات الصينية مؤخراً من شركات الطاقة الصينية العملاقة المملوكة للدولة التوقف عن إعادة بيع شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا المتعطشة للغاز، وهو ما قد يكون ضربة للآمال الأوروبية في استمرار التدفقات الكبيرة للغاز الطبيعي المسال بحجة ضمان توافر إمدادات الغاز الصينية مع اقتراب فصل الشتاء؛ وذلك بعد أن كان مستوردو الغاز الطبيعي المسال في الصين يبيعون فائض مخزوناتهم إلى أوروبا ويحققون أرباحاً كبيرة منها بسبب ضعف الطلب المحلي في الصين، على خلفية التضرر من عمليات الإغلاق المفاجئة المستمرة لفيروس كورونا وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي. وكانت تلك المبيعات توفر مصدراً للارتياح من جانب الأسواق الأوروبية خلال العام الجاري، بل كانت تنظر لها باعتبارها جزءاً من تعويض انقطاع إمدادات الغاز الروسية.
6- تبني خطاب تصعيدي تجاه التحركات الاقتصادية لبكين: شهدت الآونة الأخيرة تبني خطاب أوروبي تصعيدي تجاه بكين وتحركاتها الاقتصادية في أوروبا؛ فعلى سبيل المثال، ذكر رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشيل”، يوم 21 أكتوبر الجاري، أنه يجب “العمل على ترسيخ مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الاقتصادية بين الصين والاتحاد الأوروبي”؛ وذلك بالتزامن مع حالة الجدل التي شهدتها ألمانيا حول خطط استحواذ الصين الجزئي على محطة حاويات في ميناء هامبورج الألماني، ومطالبة بعض المسؤولين الألمانيين – على غرار وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك – بإيقاف هذه الخطط.
تحديات فك الارتباط
دفعت التغيرات الأخيرة في الوضع الجيوسياسي في منطقة أوراسيا الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في تقليل اعتماده على الصين تجنباً لتكرار سيناريو الأزمة الروسية–الأوكرانية، بيد أن هناك عوامل متعددة تقف عائقاً أمام تلك الدوافع الأوروبية، التي يمكن تحليل أبرزها كالتالي:
1- معضلة الإجماع الأوروبي حول تقليص العلاقات مع الصين: ثمة شبه إجماع بين دول الاتحاد الأوروبي إزاء قلقها بشأن التبعية الاقتصادية للصين، لا سيما أنه يتم النظر إليها في المقام الأول بأنها منافس لدول الاتحاد في عدة مجالات، ومن ثم ترجح تلك الدول ضرورة التوجه نحو تعزيز التعاون مع الدول الديمقراطية، ولكن في ذات الوقت يخشى بعض الزعماء الأوروبيين أن يتم تطوير هذا الاتجاه، ويكتشفوا أنهم قد أصبحوا امتداداً للسياسات الأمريكية، بل يرجح البعض منهم أن يكون لدى الاتحاد سياسات خاصة به تجاه الصين، بعيدة عن نقل التبعية الكاملة للولايات المتحدة، وهو ما قد شهدناه بالفعل عندما عرقلت اليونان جهود الاتحاد الأوروبي في الأمم المتحدة لإدانة انتهاكات الصين لحقوق الإنسان عام 2017.
وتشكل ألمانيا نموذجاً لمعضلة الإجماع الأوروبي إزاء العلاقات مع الصين؛ فبالرغم من تحذيرات أجهزة الاستخبارات الألمانية من محاولات حصول الصين على المهارات الاقتصادية والعلمية الألمانية، خوفاً من محاولات بكين الوصول إلى المعارف الألمانية عن طريق هجماتها الإلكترونية لتحقيق هدفها لتكون أكبر قوة اقتصادية في العالم بحلول عام 2049، فإن الشركات الألمانية الكبرى ليست مستعدة للتخلي عن هذه السوق العملاقة، بل أعلنت شركة Volks Wagen الألمانية للسيارات، بحسب تقرير قناة الشرق يوم 17 أكتوبر الجاري، عن استثمارات بقيمة 2.4 مليار يورو في شراكة مع شركة Horizon Robotics الصينية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، لتطوير القيادة الذاتية في الصين.
2- قوة الشراكة التجارية بين أوروبا وبكين: منذ عام 2011، برزت الصين كواحدة من أكبر الشركاء التجاريين للاتحاد الأوروبي، بل أكبر مصدر لوارداته، ومن ثم يتمتع الجانبان بشراكة تجارية قوية يصعب التخلي عنها بسهولة؛ فبالرغم من تأثر حركة التجارة العالمية بسياسات الإغلاق العالمي الناتجة عن تداعيات فيروس كورونا خلال عام 2020، فإنها لم تؤثر على حركة التعاملات التجارية بين الجانبين؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 587.9 مليار يورو في ذات العام، مقارنة بنحو 562 مليار يورو في عام 2019، بل انتعشت حركة التجارة بينهما بصورة أكبر خلال عام 2021، بفضل عودة الأنشطة الاقتصادية لطبيعتها، حتى وصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 695.5 مليار يورو.
ومن المتوقع أن يقترب التبادل التجاري بين الطرفين من تريليون دولار خلال العام الجاري، نتيجة الاعتماد الأوروبي الكبير على الواردات الصينية وارتفاع مستويات الأسعار العالمية، خاصة أن دول الاتحاد تعتمد على الصين بشكل أساسي في توريد أكثر من 20 منتجاً، خاصة أشباه الموصلات ومجموعة من المعادن النادرة؛ الأمر الذي يجعل موقفها ضعيفاً استراتيجياً في مدى قدرتها على النأي بالعمل بعيداً عن الصين.
3- المكاسب المحتملة من مبادرة الحزام والطريق: ترتبط الصين بعلاقات اقتصادية وتجارية قوية بالعديد من البلدان الأوروبية، على خلفية انضمام بعضها إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالرغم من سعي بعض الدول الأوروبية لإبطاء تنفيذ تلك المشروعات المرتبطة بالمبادرة، فإن الاتحاد الأوروبي قد كثف خلال العامين الماضيين جهوده للاستجابة لمبادرات الاستثمار الصينية في ذات الشأن؛ حيث من المتوقع استثمار 300 مليار يورو بحلول عام 2027 في مشاريع تتعلق بالبنية التحتية والرقمية والمناخية، بهدف تعزيز سلاسل التوريد وحركة التجارة في الاتحاد الأوروبي والمساعدة في مكافحة تغير المناخ.
خلاصة القول: يمكن القول إنه من الصعب تحقيق النوايا الأوروبية نحو تقليل الاعتماد على الصين في المستقبل القريب، خاصة في ظل حالة عدم اليقين العالمي إزاء تطورات الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن الحرب الأوكرانية؛ فالاتحاد الأوروبي لا يزال في أشد احتياجه خلال الفترة الراهنة لجميع البدائل الاقتصادية المتاحة أمامه لمساندته في تخطي الأزمة الحالية، كما أن عملية إيجاد بديل سريع للعملاق الصيني ليس بالأمر اليسير في ضوء قوة ومتانة العلاقات التجارية بين الجانبين، وفي ظل الشكوك الأوروبية حول مدى قدرة الاعتماد على البديل الأمريكي، الذي كان قد استغل الأزمة في تحقيق أكبر المكاسب الممكنة في مجال بيع الغاز الطبيعي إلى أوروبا. كما لا توجد أي مؤشرات على أن بكين تفكر في تغيير مسار علاقتها ببروكسل، بيد أنه في حالة تجاوز أوروبا للأزمة الراهنة، فقد تضع الأخيرة استراتيجية متوسطة أو طويلة المدى تسمح لها بتحجيم اعتمادها على بكين، ولكن ليس من المتوقع أن يكون بالقدر الذي توليه أوروبا حالياً لإنهاء اعتمادها الكامل على المنتجات الروسية، وخاصة الطاقة.