لكحل رابح يكتب: فن إدارة الخلاف.. الأزمة الفرنسية نموذجاً

profile
  • clock 15 يوليو 2023, 6:28:50 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في حوار من حواراتنا التي لا تتوقف، طرح صديق لي أفكاراً أظنها متقدمة ومثيرة، خلص من خلالها إلى إمكانية انفجار فرنسا من الداخل، وقدم لذلك مجموعة مؤشرات وقرائن قدر أنها كافية لتدفع بفرنسا إلى الفشل! وذكر مما ذكر:

1- المظاهرات العنيفة التي أعقبت اغتيال الشاب نائل، والتي في تقديره ليست فقط تنفيساً عن غضب الناس من قتل الشرطي للبراءة، بل هي صورة تشنج مجتمعي وشرخ كبير في النسيج الداخلي، ودلل على نتيجته هذه بكون الأحداث ليست الأولى، فقد سبقتها أحداث مماثلة في 2005، ثم اضطرابات أو حراك السترات الصفراء في 2019، ثم الاضطرابات والمظاهرات التي أعقبت تمديد سن التقاعد… وغيرها، فالظاهر أن التعبير بالاحتجاجات العنيفة أصبحت ظاهرة مزمنة لدى المجتمع الفرنسي.

 2- طغيان ظاهرة التمييز على أساس العرق واللون أو المعتقد، وتحولها إلى ظاهرة مخيفة حالقة لترابط المجتمع وتماسكه، واعتبرها صديقي من أكثر مشاكل فرنسا تعقيداً، وحلها ليس بسيطاً ولا قريباً، وعضّد كلامه بتعداده لمجموعة مؤشرات إحصائية كشفت عنها مراكز الدراسات الفرنسية نفسها وصنفتها بالخطيرة، كنسبة توقيف المسلمين، العرب وأصحاب البشرة الداكنة عموماً، ونسبة تمثيلهم السياسي، وحتى نسبة استفادتهم من الخدمات العمومية، ومستوى تعليمهم ونسبة حصولهم على الوظائف المحترمة وغيرها، وذكر مما ذكر في سياق تأكيده لطرحه ما تعرض له حتى النجوم الذين صنعوا أمجاد وأفراح فرنسا من عنصرية وتنمر، من أمثال اللاعبين زيدان وبنزيمة وغيرهما كثير.

3- العلمانية المتطرفة التي تَدِين بها الطبقة السياسية في فرنسا، والتي لا تُخفي كرهها لمعتقدات المجتمع الفرنسي عموماً، وإعلانها الحرب على معتقدات الفرنسيين المسلمين خصوصاً، فما مَنْع البوركيني ومحاربة الحجاب وفرض الغرامات المالية المجحفة على الملتزمين منهم إلا دليل على ذلك، وأضاف صورة أخرى وهي التضييق على اللاعبين الملتزمين بصوم رمضان ومحاصرتهم، وحتى التهديد بفسخ عقودهم.

4- تأزم الاقتصاد الفرنسي الذي تنعكس آثاره بالضرورة على الوضع الاجتماعي، خاصة وباء كورونا ثم الحرب الأوكرانية، ومما ذكره تجاوز حجم الدين العام الفرنسي لـ3 تريليونات دولار، وأزمة الطاقة والعجز عن إيجاد بدائل لما كانت توفره روسيا.

5- الإنهيار الأخلاقي الذي تحول إلى تهديد وجودي، بانتصارهم لقيم الشذوذ والمثلية والقفز على القيم الإنسانية الراقية التي بنت مجد فرنسا والغرب عموماً، والتستر تحت عنوان مقدس كاذب تحول إلى إله جديد يسمى الحرية الشخصية للأفراد.

6- تراجع الدور الخارجي للدولة الفرنسية مؤشر آخر للانهيار، ومن صور ذلك فقدان نفوذها في العديد من مستعمراتها السابقة لصالح روسيا والصين، وحتى تركيا. ومما أعجبني في طرحه حول هذه النقطة قوله حتى المملكة المغربية كمنطقة نفوذ فرنسية خالصة فقدتها، وتحولت تحت كفالة ورعاية الاحتلال الإسرائيلي.

كل هذه المعطيات وغيرها يقدّر صديقي أنها:

أ- ستدفع دون شك إلى تهلهل وتفكك البنية السوسيولوجية للمجتمع الفرنسي، خاصة إذا أخدنا بعين الاعتبار أن المهاجرين غير الأوروبيين يشكلون نسبة معتبرة، ويُتوقع تضاعف أعدادهم على المدى القريب، وهي الفوبيا الجديدة التي يروج لها اليمين المتطرف الذي تتوسع قاعدته عاماً بعد عام تحت عنوان "الاستبدال العظيم".

ب- تُشجع وتَدفع العديد من الدول لاغتنام الفرصة وفك الارتباط السياسي والاقتصادي بفرنسا الاستعمارية، تحت ضغط ووطأة ثقل الفاتورة الباهضة للإرث الاستعماري الذي لم ولن تنساه الشعوب.

هذا عموماً ما استطعت بكل أمانة علمية نقله عما طرحه محاوري، وكان جوابي على طروحاته المثيرة قولي ابتداءً، مع تسليمي بِجُّل ما ذكرت من عوامل وغيرها كثير، فما لا أشاركك فيه هو خلاصتك في نقطتيها الأساسيتين:

1- لا أظن فرنسا في حالة ما قبل الانفجار الاجتماعي، لا على المدى القريب ولا على المدى المتوسط، لسبب واضح وهو امتلاكها لخاصية حافظة تحميها من هذا النوع من التحديات، والتي يمكن عنونتها بـ"فن إدارة الخلاف"، وهي ثقافة سياسية بالدرجة الأولى لها تطبيقاتها العملية اجتماعياً، تفتقدها مجتمعاتنا تماماً، وهذا ما يفسر ارتباك مسؤولينا وغلبة الشعور بالخطر الشديد لدى الناس عند كل أزمة سياسية أو اجتماعية  تظهر في المسار الطبيعي لتطور المجتمعات والتغيرات التي تطرأ عليها بمرور الزمن، أو بتغير ثقافات وأحوال الناس.

ففرنسا العميقة بمؤسساتها السياسية، العلمية وحتى الأمنية، تمتلك تقاليد راسخة تظهر على شكل ميكانيزمات مرنة فعالة ودقيقة لإدارة خلافاتها السياسية والمجتمعية، ولا تسمح لأي خلاف مهما كانت شدته بالذهاب إلى الشقاق أو الاحتراب بين مكونات المجتمع. فهم على عكسنا يتعاملون مع الخلاف بين مكونات المجتمع كحق طبيعي وليس كمشكلة وجب قمعها، منطلقين من قاعدة فلسفية واضحة ملخصها "أن الاختلاف هو ما يُولِّد الخلاف.. والاختلاف من سنن الكون"، وبنظرتهم الحكيمة هذه لا يمكن للخلاف أن يخرج عن حدوده لتوفر الحرية للناس في التعبير عن اختلافاتهم أو التقاضي لاسترداد حقوقهم، فلا يشعر الواحد منهم بالغبن والظلم، فيلجأ بسببه إلى التطرف والرد بالعنف أو اللجوء إلى الاحتراب. 

2- السلطة في المستعمرات السابقة والتي تعاني من سطوة النفوذ الفرنسي وخطره على استقرارها لا أظنها في وضع يسمح لها بالتمرد أو تجاوز المصالح الفرنسية، لأن مشكلتها بالأساس ثقافية، فنخبها مند الاستعمار إلى اليوم نخب مستلبة حضارياً منبتّة تماماً عن ثقافة ومعتقدات شعوبها، فتجدها من جهة لا تعي أصلاً ما يدور حولها، فقد حدث أن مرّت فرنسا بأضعف وأسوأ حالاتها في التاريخ الحديث عندما احتلتها ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لكن الغريب أنها ظلت محافظة على مصالحها ووضعها العادي في مستعمراتها بفضل أذنابها هناك، ومن جهة أخرى فهذه السلطة بما تعانيه من ضعف شرعيتها الشعبية لا تملك من أمرها الشيء الكثير، فكل تحركاتها تصب في هدف واحد، وهو ضمان الاستمرار في الحكم وفقط، وتعتقد جازمة أن إمكانية بقائها مشروطة بالدعم الخارجي عموماً والفرنسي على وجه الخصوص، وما قصة لبنان وتَوْلية ساسته وجوههم باتجاه باريس إلا مثالاً صارخاً على ذلك.

 أما ما نراه أو نسمعه هنا وهناك بما يفهم أنه سعي لقطع رجل فرنسا عن المنطقة؛ فلا يعدو أن يكون مسرحيات ملهية، أو نزوات لعبت برؤوس أصحابها خمرة السلطة والحكم، أو لنقل خبط عشواء لمن يفتقد التجربة والحس الاستراتيجي، فسلطة تقوم على الدبابة لا تملك القدرة على  ضمان استقلال وحرية شعوبها. والتجارب أمامنا كثيرة، وأظنها كافية، فمثلاً الزعيم عبد الناصر الذي ملأ الدنيا صراخاً وتهديداً، واقتنعت بشعاراته الرنانة أمة كاملة؛ لم ينجح إلا في قيادتها من هزيمة مذلة إلى أخرى أشد، فأنظمة قائمة منذ نصف قرن على الأقل منذ خروج الاستعمار المباشر لم تحقق شيئاً غير المراوحة في مكانها.

أخيراً نقول: أمة ما زالت تعيش منذ 15 قرناً على ظلال خلاف بين شخصين أو أكثر، وتقتات به ومنه، وتغلق ثقافتها السياسية بحيث لا تستمد قيمها إلا من خلال غواشي هذا التاريخ، فشلت في إدارة الخلاف رغم ما يوفره تراثها من وسائل وميكانيزمات رائدة، وحرصت على تصدير الخلل عبر التاريخ، وما زالت تراوح مكانها، فلا تحسن إدارة خلافاتها، وتقفز مباشرة إلى إصدار الأحكام وتصنيف الناس بتحويل كل اختلاف طبيعي إلى خلاف عقدي يقتضي صراعاً وجودياً، ويُصْبَغ بهالة من التقديس عن طريق لي أعناق نصوص الوحي.. وانتقل هذا حتى إلى خلافاتنا الأسرية أو خلافاتنا في العمل، حيث تتحول إلى مواقف مصيرية لا تحتمل إلا الصفر أو الواحد، يحكمها منطق متطرف يقوم على قاعدة "من ليس معي فهو ضدي".. فيوم ننتبه لهذا الفن الغائب عن يومياتنا سنحل الكثير من أزماتنا، ونبتعد تماماً عن التفسير المؤامراتي المرعب عند كل اختلاف.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)