لطفي العبيدي يكتب: قوى الرأسمالية المتصدّرة وتوابِعِها… أي مسار ومآلات؟

profile
  • clock 16 يونيو 2023, 12:25:43 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يفرضون الإملاءات والشروط المجحفة على الدول بما يهدد السلم الأهلي. ويريدون من الحكومات أن تسايرهم، وترفع الدعم وتزيد في إفقار الناس، أو تشتغل شرطيا تراقب سواحلهم، وتمنع موجات الهجرة التي هم من تسبب فيها من خلال احتلال البلدان الافريقية وامتصاص مواردها وسرقة ثرواتها.
هذا الواقع أصبح مكشوفا، وصرحت به رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني، موجهة الكلام لماكرون وفرنسا تحديدا. في الأثناء، خروج الجماهير بشكل مطرد في أوروبا، والتظاهرات الاحتجاجية في هذه الدول الصناعية الكبرى، تؤكّد أنّ الديمقراطية الليبرالية، التي تنحاز بشكل شبه مطلق للأغنياء هي المسؤولة عن معظم مظاهر التوتّرات الاجتماعية المتصاعدة.. وأشكال الاحتجاج ستبقى تطالب بالتكافل الاجتماعي الذي ترعاه الدولة، لن يثنيها تمرير القوانين بالقوة، ستظل تدفع نحو وجود نظام حكومي يتبنّى التكافل، ويحقّق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وضمان حقوق كل الفئات، خاصة عندما تكتشف الشعوب أنّ الرهانات الاقتصادية والمطالب الاجتماعية أصبحت محلّ تسويق انتخابي لدى كلّ رؤساء العالم، بمن فيهم من يتنافسون على البيت الأبيض في واشنطن، فحديثهم لا يكفّ عن الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي ومستويات التشغيل في مرحلة الدعاية والتنافس، واليوم يتزايد الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين حول ملفات الوثائق، وسوء استخدام السلطة، في حملة انتخابية مبكرة يقوم بها ترامب الملاحق قضائيا. كذلك الاستقطاب بين حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا، وحزب العمال الذي يرغب في استثمار أزمات المحافظين وسوء سياساتهم، وهو ما يبرر دعوة المعارضة لانتخابات مبكرة.
قيم الحرية والعدل والديمقراطية يتمّ اجهاضها منذ نشأة الرأسمالية الكلاسيكية وصولا إلى النيوليبرالية وتحرير السوق، وبالفعل، صارت المواطنة في عيون كثير من الناس اليوم مجرد فعل من أفعال شراء السلع وبيعها، بمن في ذلك المرشحون، ولم تعد فعلا من الأفعال التي تزيد رقعة الحريات والحقوق من أجل خلق ديمقراطية حقيقية. والأسوأ في ذلك أنّ الروابط الإنسانية أهم ضحية من ضحايا الحداثة السائلة التي عالجها زيغمونت باومان في بحثه عن الأضرار الجانبية، وعن معاناة المجتمعات الحديثة بفعل التحول الذي نقل الحداثة من مرحلتها الصلبة إلى مرحلتها السائلة وتمظهراتها المعولمة. العالم يتغير ولا مناص اليوم من أن ندرك أنّ آليات السوق لم تعد قادرة على حمايتنا من الفوضى ومن الجوع والفقر وأشكال التفاوت وارتباك الأطر الاجتماعية والأهلية للدولة الوطنية. ومن الجيد أن ننصت إلى المقترحات التي تبدو لهم شيوعية، وأن تؤخذ مثل هذه التدابير المقترحة بعين الاعتبار والتنفيذ على المستوى العالمي، أي تنسيق الإنتاج والتوزيع من خارج إحداثيات السوق، من حاصل مقاصد ثاوية تؤكّد أنّه لم يعد من الممكن التّسامح اليوم مع هذه القسوة للرأسمالية واقتصاد السوق، الذي سرّع الاتصال الدولي وحجم تدفق رؤوس الأموال ضمن مسارات مُكمّلة لإجماع واشنطن المشكّل للنظام النيوليبرالي، الذي نصّ على تحرير قطاعي المال والتّجارة، والقضاء على التضخّم وخصخصة المنشآت الحكومية والسماح للأسواق بتحديد الأسعار بشكل حرّ. وكان هذا الإجماع في حقيقته بمثابة عهد امبراطوريّ جديد، أقصى الحكومات المحلّية وأصبحت معه المصلحة الوطنية بمثابة الوهم والكذبة التي تباع في سوق الكساد السياسي والعلاقات الدولية. لقد صُودر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية بشكل واضح، حيث لم تعد تتحكّم في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، واُخضعت للإملاءات من المؤسّسات المالية الخانقة. والمسارات الليبرالية لا يمكن أن تنتج سوى ما نراه حاليّا.. ومؤسف فعلا أن يتواصل هذا الوضع. واقع اليوم بأزماته العالمية الخانقة مرتبط بشكل عميق وممنهج، بصعود النيوليبرالية، أو هذه النسخة من المطالبة بالحريات، التي سلطت اهتمامها على الربح أكثر من أي شيء آخر، وأدخلت العالم في مرحلة من الكساد، لتعزيز نوعين من التفاوت الاقتصادي، النوع الأول هو التفاوت بين الطبقات داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، ثم ثانيا التفاوت بين الدول الغربية التي لم تنفق بعد كل الامتيازات التي حظيت بها من الاستعمار، ودول العالم الثالث التي كانت ضحية هذا الاستعمار. لم تساعد إذن المخرجات الإيجابية للعولمة كالمؤسّسات الدولية والاعتماد المتبادل والترابط الثقافي بين الأمم في القضاء على هوس الهيمنة والشعور بالخوف، بل عززت الاتجاه نحو تعزيز وضع الهيمنة والنفوذ بين الدول، ناهيك من إحياء سياسات توازن القوى والتصوّرات الواقعية المحضة لطريقة سير العالم كما كان من قبل. لقد كان النظام الاقتصادي في الأربعين عاما الماضية كارثيا بشكل خاص، تسبب في مصاعب كبيرة لمعظم الناس، ما أدى إلى زيادة هائلة في مستوى عدم المساواة والهجمات على الديمقراطية والبيئة، ومع ذلك يمكننا أن نصنع مستقبلا قابلا للعيش في تقدير تشومسكي، لسنا مضطرين للعيش في نظام يدفع فيه أصحاب المليارات معدلات ضريبية أقل من العاملين، لسنا مضطرين للعيش في شكل من أشكال رأسمالية الدولة، حيث تتم سرقة ما يقرب من 90% من أصحاب الدخل الأدنى لمصلحة جزء بسيط من السكان يشكلون 1%. يجب عليهم التغيير، والسؤال هو: هل يمكننا منع كارثة مناخية في إطار مؤسسات رأسمالية حكومية أقل وحشية؟ هناك سبب للاعتقاد بأننا نستطيع ذلك، ولكن هناك حواجز خطيرة تتمثل في صناعات الوقود الأحفوري، والبنوك، والمؤسسات الكبرى الأخرى، التي تم تصميمها لتعظيم الأرباح وعدم الاهتمام بأي شيء آخر، وغالبا ما تصور شركات الوقود الأحفوري، نفسها على أنها عاطفية وخيّرة، وتعمل ليلا ونهارا من أجل الصالح العام. وهذا ما يسمى «بالغسيل الأخضر»، وهو طرح بعض الشركات منتجات بحجة التزامها بحماية البيئة من أجل كسب التعاطف والمال لا أكثر.

قيم الحرية والعدل والديمقراطية يتمّ إجهاضها منذ نشأة الرأسمالية الكلاسيكية وصولا إلى النيوليبرالية وتحرير السوق

العالم المتقدّم يتجاهل على نحو خطير مشكلات البلاد النامية وخاصّة القارّة الافريقية، التي جعلوها فقيرة، فلسفة قائمة على مفهوم الغلبة للأقوى. ومفهوم التوحش الذي عالجه المفكر الافريقي الكامروني أشيل مبيمبي، في دعوته فرنسا خاصة إلى تغيير أساليبها في التعامل مع مستعمراتها القديمة، بالتوقف عن الدعم العسكري للديكتاتوريات الدموية والمرتشية، وإنهاء التبعية المتجسدة في الفرنك الافريقي ومؤسسة الفرنكوفونية وسياسة القواعد العسكرية. فافريقيا ليست مجرد احتياطي للموارد، ويمكن أن تكون مكانا للإبداع والقدرات والتفاعل بوجود الإمكانات التي يتم تغييب الاستفادة منها. من المسؤول عن أزمات العالم وتفاقم الهوة بين الشمال والجنوب وتزايد معدلات الفقر والتهجير القسري، وأزمات الغذاء والطاقة والمناخ؟ بالتأكيد المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يتحمل الجزء الأكبر مما آلت إليه أوضاع العالم والشعوب، بعد عقود من بيع الأوهام والتبشير بقيم ليبرالية زائفة.
كاتب تونسي

كلمات دليلية
التعليقات (0)