- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
عمرو كريم يكتب: قمع الحراك الطلابي.. كيف يؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية؟
عمرو كريم يكتب: قمع الحراك الطلابي.. كيف يؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية؟
- 8 مايو 2024, 5:26:56 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
انتفضت الجامعات الأمريكية بحراك طلابي واسع داعما لفلسطين مطالبا بوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، قوبلت تلك الانتفاضة الطلابية بقمع عنيف من الشرطة، بل امتد الأمر إلى الفصل النهائي أحيانا من الجامعات، في مشهد غير مألوف بتاتا من أكثر الدول التي صدعت رؤوسنا عن حرية التعبير المقدسة.
لكن هل هذا الحراك مجرد "هبه" مؤقتة، والأهم من ذلك ما تأثيره على ثوابت السياسة الأمريكية في دعم دولة الاحتلال، وكيف سيكون رد فعل هؤلاء الطلاب على ذلك القمع غير المسبوق تجاههم، خاصة أن العديد منهم سيكونون في المستقبل في دوائر المسؤولية واتخاذ القرار، وماذا عن المواطن الأمريكي الذي يرى أن التعديل الأول للدستور الضامن للحريات أصبح حبرا على ورق، كيف سيكون رد فعله هو الآخر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في السطور القادمة.
بداية فإن المشهد في أمريكا خلال الأيام الماضية بدا كالآتي، طلاب خائفون من التعبير عن آرائهم، يخفون وجوههم خشية الملاحقات الأمنية، يظهر أحدهم في لقاء مع قناة "بي بي سي" عربي من دون أن يذكر اسمه، يُفصلون من الجامعات ويُعتقلون ويُسحلون على الأرض.
لكن كيف انتهت الأمور على هذا النحو في إحدى أكبر الدول التي تسوق لنفسها على أنها منارة الحرية الأولى في العالم؟!
الإجابة ببساطة في "اللوبي الصهيوني" داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أكدت تلك الأحداث على تغلغل اللوبي الصهيوني في واشنطن، وتوليه زمام الحكم فعليا واتخاذ القرار، حتى وإن تعارض ذلك مع الأساس الذي قامت عليه مبادئ الليبرالية في أمريكا، ألا وهي حرية التعبير، أو عرضّ الأمن القومي الأمريكي للخطر.
لكن إلى أي مدى يؤثر اللوبي الصهيوني على السياسات الأمريكية الخارجية؟! يجيب الرئيس السابق بيل كلينتون بأن جماعة "الشؤون العامة الأمريكية الصهيونية المعروفة اختصارا بـ آيباك" هي أفضل من أي طرف آخر يمارس الضغط في واشنطن، وأنها أكثر جماعات المصالح العامة تأثيراً في الكون، وأكد على ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون حين قال "إن الولايات المتحدة تحت سيطرتنا".
وهذا ليس مجرد كلام نظري فهناك وقائع تثبت صحة تلك التصريحات، فاللوبي الصهيوني يسيطر فعليا على غالبية الكونجرس الأمريكي من الحزبين، إذ يفتخر اللوبي الصهيوني أنهم يستطيعون تمرير 100 تشريع سنويا في الكونجرس لمصلحة الكيان المحتل.
والدليل على ذلك ما حدث عام 2009 حين أبدى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما اعتراضه على التوسع في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
فما كان من أعضاء الكونجرس من الحزبين إلا أن اعتبروا بناء المستوطنات أمرا مشروعا وشنوا هجوما على أوباما مطالبين إياه بالعدول عن دعوته وقف الاستيطان، وقد نجحوا في ذلك.
وبذلك تتضح الصورة، ولا يكون من المستغرب التعامل الأمني الغير مسبوق ضد المظاهرات الطلابية، إذ يُخشي ايضا أن يتحول الأمر لأنتفاضة طلابية ضخمة على غرار ما حدث في الجامعات الأمريكية قبل 56 عاما.
إذ كما انطلقت شرارة تلك الموجة الحالية من الاحتجاج من جامعة كولومبيا، انطلقت أيضا في العام 1968 انتفاضة طلابية ضخمة من نفس الجامعة، تطالب بانسحاب الجيش الأميركي من فيتنام ووقف الحرب.
والمخيف للوبي الصهيوني أن الحراك الطلابي قبل نحو نصف قرن نجح بالفعل في التأثير على صانع القرار الأمريكي فيما يتعلق بالحرب في فيتنام، أو حتى فيما بعد، حول دعم نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا، فضلا على تأثير الحركات الطلابية الأمريكية على التأثير الحركات الطلابية الأمريكية على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الداخلي كذلك في المجتمع الأمريكي.
ويبدو للعديد من المراقبين أن الحراك الحالي يتشابه إلى حد بعيد مع حراك عام 1968، إذ كان يركز الاحتجاج الطلابي في جامعة كولومبيا على إنهاء علاقة الجامعة بمركز أبحاث دفاعي لدوره في حرب فيتنام، الآن أيضا تتكرر نفس المطالب، فالطلاب الغاضبون يطالبون أن تقطع الجامعات الأمريكية صلتها نهائيا بأي نشاط بحثي وأكاديمي و مالي مرتبط بإسرائيل.
والخطير هذه المرة في مطالب الطلاب انها تتعلق بأمور واضحة يمكن تطبيقها بسهولة من رؤساء جامعتهم، فوقف التعامل الأكاديمي مع دولة الإحتلال وجامعاتها، ووقف استقبال تبرعاتهم هي أمور ليست من صلب السياسة الخارجية الأمريكية ولا يشوبها التعقيد والتطورات الميدانية مثل المطالبة بوقف الحرب.
لذلك كان هناك قلق متنامي للوبي الصهيوني من تلك الاحتجاجات، إذ أنها وفقا لمنظميها لن تُفض إلا بتحقيق تلك المطالب التي يقع تنفيذها حصرا في يد إدارة الجامعات لا الخارجية الأمريكية، فلا يمكن التحجج تلك المرة من مسؤولي الجامعات بقرارات البيت الأبيض، كما لا يمكن تجاهلها كذلك إذ ستنتشر أكثر وتصبح حراكا أوسع، وحتى إن نجح القمع في تحجيم النشاط الطلابي في عدد ضئيل من الجامعات، فإن السواد الأعظم من الجامعات تشتعل بالحراك الطلابي، وما زال ينمو أكثر وتزداد أعداد المنضمين له، لذلك يبدو التيار الصهيوني في أمريكا عاجزا بحق عن التعامل مع تلك الأزمة الشديدة.
ويبقى السؤال الأهم، ما تأثير تلك الاحتجاجات على الدعم الأمريكي السخي للاحتلال؟
يجب قبل الإجابة أولا، أن نرى ما يحدث في الجامعات والشارع الأمريكي بعين المواطن الأمريكي نفسه.
الشعب الأمريكي يقدس حرية التعبير بشكل مطلق، وأغلب المواطنين خاصة الشباب والطلاب لم يشهدوا في تاريخهم هذا الكم من العنف المفرط من قبل الشرطة داخل الجامعات الأمريكية المرموقة، إنهم يعيشون الآن حالة صدمة شديدة، لأول مرة يشعرون أنهم خائفون من التعبير عن رأيهم.
يُضطهدون ويسحلون من المعارضين لهم أمام أعين الأمن الذي يقف متفرجا ولا يحرك ساكنا، مستقبلهم ينهار إثر قرارات ظالمة من إدارة جامعاتهم بالفصل النهائي، لقد استيقظوا فوجدوا أنفسهم فجأة في روسيا أو الصين أو أحد الدول الاستبدادية من العالم الثالث.
والذى لا يدركه البعض، أن من يُمارس عليهم ذلك القمع هم طلاب "النخبة" مما يعنى أن جزء منهم ولابد، سيصل لدوائر صنع القرار الأمريكي في المستقبل، وحينها سيبدأ الحساب على ما يحدث الآن من انتهاكات بحقهم.
ووفق بحث أجرته بي بي سي عربي، حول أبرز الجامعات الأمريكية التي تخرج فيها عدد كبير من صانعي القرار والمشرعين والمؤثرين في الولايات المتحدة، فإن أغلب هذه الجامعات تشهد تظاهرات واعتصامات تضامناً مع غزة.
لكن كيف سيكون شكل هذا الحساب المنتظر؟ علينا أن ندرك أن أمريكا رغم كل ما يحدث ما زالت حتى اللحظة دولة ديمقراطية، ويستطيع طلابها أن يعاقبوا النخب الحاكمة على قمع حرية التعبير، وعلى الفزع الذي عاشوه في أيامهم الأخيرة، عبر آليات الانتخابات والوسائل الديمقراطية عموما للتغيير،
لكن إلى حين، فإن الغضب سيبقى مشتعلا في داخلهم حتى يصلوا للحظة مناسبة يصوبون بها موقف بلادهم من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
والحديث هنا ليس مقتصرا على مؤيدي فلسطين فقط من الطلاب، بل حتى هؤلاء "المحايدين" سيتخذون موقفا حاسما إزاء الضيق والعداء الذي مورس من قبل السلطات على زملائهم، بل وعليهم في انتهاك حرمة جامعتهم باقتحام الشرطة لها.
ويؤكد هذا المعنى عالم النفس ليون فستنغر الذي قال بأن القمع قد يؤدي إلى زيادة جاذبية الشيء الممنوع، حيث يسعى الناس إلى تقليل التنافر المعرفي من خلال تجربة الشيء المحظور وإثبات أن القاعدة خاطئة.
فبعد قمع احتجاجات الجامعات الأمريكية الأخيرة، من لن يكون مؤيدا لفلسطين، فسيكون على الأقل معارضا للوبي الصهيوني في أمريكا، وتدخله الفج في رسم السياسات الخارجية، بل وتأثيره على الحريات العامة في البلاد، وتهديده للجامعات والشعب الأمريكي.
حتى ذلك المواطن العادي، والمتقدم في السن، لن يستمر في تأييد إسرائيل بنفس القوة المعهودة، عندما تمس حياة المواطن الأمريكي بشكل مباشر ويرى حقوقه تُنتهك فإنه سيتخذ موقفا ضد إسرائيل، لأنها حرضت على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، على قمع المواطن الأمريكي، وهذا التحريض لا تجرؤ دولة معادية أو حتى صديقة لواشنطن أن تدعو له.
بل واستطاع اللوبي الصهيوني إقناع الجامعات بإلغاء حفلات التخرج السنوية، وهي لحظة ينتظرها الطالب طيلة حياته، يجد نفسه فجأة قد مُنعت عنه والسبب الانصياع لرغبات الصهيونية، حتى أشد "المحايدين" الذين لا يشغلهم ما يحدث أصلا في الشرق الأوسط، سيشعر بضيق بالغ فقد تأثرت حياته الشخصية نتيجة ذلك الصراع.
سيرى بوضوح أن إسرائيل تخشى من مجرد رفع علم فلسطين أو هتاف باسم غزة، سيدرك حتما أنها لو كانت على حق لما اعتراها ذلك الرعب، سيبحث عن تفاصيل وتاريخ الصراع، ثم يصل إلى الحقيقة الواضحة، سيكون الآن ضد الصهيونية ودولتها العفنة التي زُرعت غصبا في منطقتنا، وسينضم إلى كرة الثلج التي تزداد في أمريكا ضد إسرائيل.
كل ذلك القمع العنيف ضد الشعب الأمريكي، سيؤثر حتما ولا بد على المدى الطويل، على الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني، لا نقول أنه سيحدث انقلاب أمريكي تجاه القضية الفلسطينية فتصبح من أشد الداعمين لفلسطين، أو أنه بالضرورة أن يحدث ذلك الان، لا، أمامنا سنوات حتى نبدأ نرى بوضوح تأثير قمع الحراك الطلابي في الجامعات السياسية الخارجية الأمريكية، قد يحدث الان بعضا من التأثير البسيط للغاية والمؤقت، لكن على المدى الطويل سنشهد تغيرا كبيرا في تعاطي صانع القرار الأمريكي مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
حيث خرجت أصوات وما زالت تخرج تدعو بوضوح إلى إعلاء المصلحة القومية الأمريكية بالصدارة المطلقة في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.
إذا، نحن أمام حقيقة جلية، الدعم المستمر للاحتلال لن يستمر، سيقيد بشدة على المدى الطويل، وإسرائيل بالأساس كيان يقتات على المعونات، وذلك ما أوضحه بيان موجز لدائرة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي في يوليو/تموز 2004 تحت عنوان "إسرائيل والمساعدة الخارجية الأمريكية" أشار فيه أن الاحتلال غير مكتفي ذاتيا على الصعيد الاقتصادي، ويعتمد على المساعدة الخارجية والاستدانة للحفاظ على اقتصاده.
وبذلك يمكن القول، أن حملة العنف الأمنية ضد المتظاهرين في الولايات المتحدة الأمريكية، ستنعكس سلبا على المدى الطويل في مستوي الدعم المقدم من واشنطن للاحتلال.
وفي الواقع فإن واشنطن تعرضت لأزمة أزمة كبرى فيما يتعلق بالطريقة المثالية للتعامل مع تلك الإنتفاضة، فإنها إن تركت ذلك الحراك سيتمدد، وإن قمعته سيتمدد أيضا لكن بصورة أكبر، وإن كان ليس بالضرورة أن يتخذ حينها شكل الاحتجاجات، بل قد يتخذ شكلا آخر أكثر مؤسسية وتنظيما ليصبح مؤثرا بشكل أكثر فاعلية على السياسة الأمريكية الخارجية في دعم الاحتلال.
لذلك ما يحدث من عنف مفرط ضد الطلاب ليس قرارا غبيا أو غير مدروس، إنما دوائر صنع القرار في واشنطن تستشعر انها هزمت أكثر من مرة، خلال السنوات الماضية.
مرة في الحرب الروسية الاوكرانية، حين صمد الاقتصاد الروسي أمام ماكينة العقوبات الغربية، ثم مرات أخرى حين لفظت دول أفريقيا التي شهدت انقلابات عسكرية الغرب وعلى رأسهم واشنطن، وغيرت بوصلتها نحو موسكو، والآن حين ترى كيف تخسر إسرائيل ميدانيا على أرض الواقع، وإعلاميا في الرأي العام العالمي، وحين يشعر متخذ القرار بالعجز والغضب والخسارة فإنه يبدأ في التصرف بعنف، وهذا ما حدث بوضوح في مظاهرات الجامعات الأمريكية.
ختاما، هذه المرة التأييد الشعبي العالمي لفلسطين بلغ مداه، فلم تكن إسرائيل في عزلة دولية أكثر مما هي فيه اليوم، وفي الغرب حيث ما زالت الديمقراطية تنبض سترتد جرائم الصهيونية على المسؤولين الداعمين للاحتلال، خاصة بعد أن شعر المواطن الأمريكي أن اسرائيل تتحكم في بلاده التى تدعي أنها القوة العظمى الأولى في العالم، في نهاية المطاف كل تلك الضغوطات ستجعل الساسة ينفضون أيديهم عن دعم آلة الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ولو بعد حين.