- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
على الصاوي يكتب: الكلمة وحظيرة البطاريق
على الصاوي يكتب: الكلمة وحظيرة البطاريق
- 11 يناير 2023, 7:28:17 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يقول المتنبى:"وأعظم ما تُكلفني الليالي..سكوت عندما يجب الكلام" معبرا بذلك عن ألم الصمت أمام ما لا يستحق السكوت عنه في أوقات المِحن، وأهمية الجهر بالكلمة في لحظات الأمم الحرجة كطوق نجاة أخير من الغرق، مثل البوصلة بالنسبة لربّان السفينة تدله وترشده للمَرسى المراد الوقوف عنده، وكالإشارات في أبراج المراقبة الجوية ترشد الطيار إلى مكان الهبوط المناسب، وإلا انتهى بهما الأمر بالاصطدام والتحطم.
كانت الكلمة عبر كل العصور آفة من لا يريد الإصلاح، ويهوى الإفساد في البراح، كونها منشط ذهني يحفّز على العصيان وجرس إنذار يُوقظ الشعوب ويُحرّك عواطفها ويفجّر غضبها، فالكلمة لها سحر خاص يصيب الهدف من أول رمية لأنها تحمل رموزا عابرة للحدود وخارقة للحواجز، فالكلمة تثور على التقليد ولا يستبد بها الماضي التليد، وفي عصور قديمة كانت تُحرق الكتب لبعض الفلاسفة التى لم تكن على هوى الحكام، إما رفضا لأفكارها أو حجرا على صاحبها، فكيف تريد أن يعرف الناس أمورا لا نريد أن يعرفونها؟ فليس من العقل أن يزرع الإنسان ألغاما في أرضة خشية أن تنفجر في وجهه فيما بعد، فالكثرة الجاهلة أسهل في الانقياد من القلة العاقلة، وليس من صالح الوصىّ أن يبلغ الأيتام رشدهم.
لذلك يلجأ كثير من الأدباء والشعراء إلى الترميز والتشفير والتورية في عرض أفكارهم حماية من الملاحقة وبطش السلطان، وما كان غرضهم من البداية إلا الإصلاح ما استطاعوا لكن الكلمة ثقيلة ولها أغلال كثيرة، تُقيّد حركة المسؤول وأحيانا تكشف عوراته، وتفضح عجزه وتقصيره، ولو أنه سمع واستجاب لكان خيرا له وأقوم، وما لجأ هؤلاء للتخفي وراء السطور فينجوا وينجون معه، لكن كما أن للكلمة سحر وبيان، فإن البطش والغرور سمة السلطان.
وفي القصة الرمزية قد يجد الكاتب ضالته فيُفصح عما في داخله من أفكار في صورة فكاهية، أو وعظية أو اعتراضية على لسان حكيم أو حيوان أو طائر، ومما يذكرون أن أحد فلاسفة الإغريق كان بارعا في إلقاء الأمثولة القصة الرمزية على هذا النحو غير المباشر، وله قصة بعنوان حظيرة البطاريق، والقصة تقول:
حضر الجميع في مجلس حظيرة البطاريق يبحثون في الأمر حول ما إذا كانوا بحاجة إلى ضخ دماء جديدة في حظيرتهم المتجمدة منذ سنوات لقيادة تستطيع خلق فكرة مبتكرة، لتنفيذ مشروع قناة مياه دافئة لتحقيق التنمية في الحظيرة، ومنع تراكم الجليد حولها خوفا من طمس معالمها.
توجّس زعيمهم البطريق الأكبر من المقترح وأشار عليهم أن يصبروا حتى يأتي فصل الصيف لتكون تكلفة تدابير المشروع أقل وساعتها نجرى قرعة على من يتقدم لقيادة القطيع وتنفيذه، التزم الجميع بالكلام وحين جاء فصل الصيف تحجّج البطريق الأكبر بذوبان الثلج وشدة سيولته، وقال: إن الأمر بحاجة إلى بعض التجميد وصلابة الأرض فانتظروا حتى الشتاء القادم.
سمعت البطاريق كلام البطريق الأكبر، وظل الأمر على هذا النحو لسنوات، وحين امتعضت البطاريق من مماطلة البطريق الأكبر وحججه الواهية التى لا تنفد قرروا الثورة عليه، لكن الوقت فات، وسبق السيف العذل، فقد تراكم الثلج حول الحظيرة خلال سنوات المماطلة حتى صار جبلا يصعب هدمه، وفي يوم هبّت عاصفة شديدة أربكت الحظيرة فحاولت البطاريق اتخاذ تدابير الحماية والنجاة بأنفسهم، لكن البرق لم يُمهلهم حتى ضرب جبل الجليد المتراكم حول الحظيرة، فانهار عليهم ولم ينج منهم أحدا، وطُمست الحظيرة في أعماق الجليد، لكن المفاجأة أن البطريق الأكبر كان قد هرب قبل حلول العاصفة بأيام نحو الشمال حيث حظيرة حلفاؤه من البطاريق الذين شعروا باقتراب العاصفة فأخبروه أن يهرب قبل وقوع الكارثة، ثم قال الفيلسوف الإغريقي لجلسائه: هل عرفتم من هو البطريق الأكبر؟