- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: إذا انتصر بوتين
عبد الحليم قنديل يكتب: إذا انتصر بوتين
- 5 مارس 2022, 5:57:20 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل يخسر فلاديمير بوتين حربه في أوكرانيا؟ يبدو الجواب بالإيجاب محسوما عند بعضهم، الذين يتعيشون على عقيدة سياسية ضالة باتت خشبية، مفادها أن أمريكا قادرة على كل شيء، وأن ما تخطط له يتحقق بالضرورة، وأنها أوقعت الرئيس الروسي في فخ حرب أوكرانيا، على أمل تحويلها إلى أفغانستان أخرى، تستنزف الاتحاد الروسي، تماما كما استنفدت حرب أفغانستان الأقدم قوة الاتحاد السوفييتي، وأضافت لعوامل انهياره أوائل تسعينيات القرن العشرين.
وقد لا تعدم رؤية استطرادات عظيمة السذاجة، من نوع المغالاة في التأثير المدمر لعقوبات الغرب الاقتصادية والمالية القاسية، حتى على فرص بقاء بوتين نفسه في «الكرملين»، وعلى نحو ما يذهب إليه الساسة البريطانيون بالذات، ودوائر أمريكية تريد شد عصب إدارة الرئيس المتهالك جو بايدن، وتبالغ في قيمة مكاسب موقوتة تحققت لواشنطن، أهمها توحيد الغرب من جديد تحت القيادة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي «الناتو»، واستخدام منابر الأمم المتحدة للتشهير بروسيا البوتينية، في قراءة قاصرة مبتذلة لحقائق العالم اليوم، فرغم أن ثلاثة أصوات فقط وقفت مع الفيتو الروسي، بامتناعها عن التصويت لصالح مشروع القرار الأمريكي بإدانة روسيا في مجلس الأمن الدولي، بينما انجرفت عشر دول وراء رغبة واشنطن، لكن قراءة الحالة من وجهة نظر مغايرة، تكشف الفارق الهائل في التوازن، ربما لصالح روسيا، فدولتان فقط امتنعتا عن التصويت هما الصين والهند، تملكان من قوة التمثيل والوزن الاقتصادي والعسكري والسكاني طبعا، ما قد يجاوز ما يمثله الحلف الأمريكي في أحوال الدنيا المعاصرة، وقس على ذلك ما جرى في مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لجأت إليها واشنطن، هربا من مأزق الانسداد في مجلس الأمن، وتذرعا بمبادئ القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، الذي خرقته روسيا، تماما كما فعلت أمريكا مرات دونما عقاب، وكان لمزيج الترهيب والترغيب أثره في صدور قرار رمزي معنوي الطابع ضد روسيا، أيدته 141 دولة عضو في المنظمة الدولية.
ورغم القلة العددية للدول التي رفضت أو امتنعت عن إدانة روسيا، فإنها تمثل على الأقل نصف سكان العالم اليوم، وهو ما يعني ببساطة، أن انقساما رأسيا وأفقيا يحكم اللحظة، وأن الاستقطاب الجديد على القمة الدولية، بين الحلف الروسي الصيني من جهة، والحلف الأمريكي الأوروبي الغربي من جهة أخرى، قد تشكلت ملامحه الفارقة، وأنه ليس بوسع واشنطن، ومهما فعلت، أن تعزل دولة بحجم روسيا، بقوتها التسليحية والنووية الفائقة التطور، خصوصا مع استناد موسكو إلى جدار الصين، القوة كاملة الأوصاف الزاحفة إلى قمة العالم اقتصادا وسلاحا وتكنولوجيا.
أمريكا لا تملك ترف الدخول في حرب لا فرصة فيها لفوز أكيد، وتفضل مبدأ القيادة من الخلف، بإرسال شحنات الأسلحة «الفتاكة» إلى أوكرانيا
وفي التفاصيل، وعلى مسرح أوكرانيا الملتهب، وحيث يجري الاختبار بالنار لملامح العالم الجديد، لا يبدو أن بوتين في سبيله لخسارة الرهان، وهو ما اعترفت به مجلة «نيوزويك» الأمريكية مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، قالت «نيوزويك» باختصار إن «بوتين لم يخسر حربا أبداً»، عبر عشرين سنة مضت، لا في الشيشيان ولا في جورجيا ولا في القرم ولا في سوريا ولا في كازاخستان، وتوقعت المجلة، أن بوتين سيكسب أيضا حربه الجديدة في أوكرانيا، والتفسير مفهوم في ظننا، فهو لا يدفع قواته إلى حروب استنزاف طويلة الأمد، ويرسم أهدافا عسكرية وسياسية قابلة للتحقيق، وبأقل خسارة ميدانية ممكنة، والذي يراقب ما جرى في أيام الحرب الراهنة الأولى، يلحظ مزج بوتين السلس المفاجئ لخصومه، بين اعتبارات السياسة وقوة السلاح، وإذا كان يقال عادة، إن الحرب هي امتداد للسياسية بوسائل أخرى، وهو ما يصح عكسه بالدرجة نفسها، فقد بدأ بوتين الحرب بقصف صاروخي مركز خاطف، وبهدف تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، وهو ما استمر بوتيرة أبطأ في الأيام التالية، وباستعراض مقصود لقدرات العسكرية الروسية المتفوقة، من صواريخ «كاليبر» إلى صواريخ «إسكندر» بعيدة المدى عالية الدقة، مع دفع تدريجي محسوب للقوات إلى داخل أوكرانيا، التي يعرف الروس سلاحها «السوفييتي» وتضاريسها جيدا، وخاضوا من فوقها حروبا تاريخية، أهمها ما يعرف روسياً باسم «الحرب الوطنية العظمى»، التي توالت من بعدها هزائم جيوش هتلر، وتدمير عاصمته برلين، التي كانت قوات الروس أول من دخلها منتصرا في نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تطبق دروسها الباقية في حرب أوكرانيا اليوم، ذات النطاق الأضيق، القابل نظريا للتوسع إلى ما لا حدود، وفي ما يشبه حربا عالمية ثالثة، لن تندلع قريبا على الأغلب، خصوصا بعد تعمد بوتين استخدام المطرقة النووية، وأوامره لقواته باستنفار حالة التأهب النووي القصوى، وروسيا هي القوة النووية الأكبر في عالم اليوم، وقد أراد بوتين بإعلانه المرعب، أن يرسم حدودا للتدخل الأمريكي الأوروبي في حرب أوكرانيا، ظهر أثرها الفوري بإعلان البيت الأبيض و»البنتاغون»، ومعه بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، عن امتناعها ورفضها مسايرة صيحات استغاثة الرئيس الأوكراني المذعور فولوديمير زيلينسكي، ومناشدته اللحوحة لواشنطن بفرض منطقة حظر طيران في أجواء أوكرانيا، أو أقله في سماء الجزء الأوكراني الغربي الملاصق لدول منضمة بالفعل لحلف «الناتو»، وهو ما رفضته واشنطن على نحو قطعي، بدعوى الرغبة في عدم التورط بقتال مباشر مع الروس، قد يشعل الحرب العالمية الثالثة، فأمريكا لا تملك ترف الدخول في حرب لا فرصة فيها لفوز أكيد، وتفضل مبدأ القيادة من الخلف، بإرسال آلاف الأطنان من شحنات الأسلحة «الفتاكة» إلى أوكرانيا، والتضحية بالأوكران على مذبح حرب لا يمكنهم كسبها، رغم ما ظهر من بسالة المقاومة الأوكرانية ضد الزحف الروسي، الذي يجري بوتيرة متباطئة، تتدرج في الزج بحجم القوات البرية ونوعيات جنودها، وتعمد إلى عدم التسرع في اقتحام المدن الأوكرانية الكبرى، وتخفيف عواقب الانزلاق إلى حروب مدن مستعجلة باهظة التكاليف، وتفضيل تكتيك حروب التطويق وحصار المسلحين وجيش الأوكران داخل المدن، ثم طلب التفاوض أو دفعهم للاستسلام بالتفوق النيراني الحاسم، وبحسب تصور محدد، بدأ بقطع اتصال أوكرانيا بالبحر الأسود وبحر آزوف، وصولا لقضم «خيرسون»، وتقطيع تواصل القوات الأوكرانية، ودفع قوات الانفصاليين الروس لإنهاك الجيش الأوكراني في إقليم «دونباس» الأغنى بموارده وصناعاته، والاستيلاء المتتابع على المدن والبلدان الصغيرة، وحصار «ماريوبول» كبرى مدن «الدونباس»، الذي تريد روسيا كسبه نهائيا وبصورة دائمة، وربما ضمه إلى أراضيها في ما بعد، في حين لا تريد روسيا احتلالا دائما لباقي أوكرانيا غربا، وتصر على نزع سلاح شبه شامل للجيش الأوكراني، والسيطرة على المحطات النووية الأربع، وقهر من تسميهم بالنازيين الجدد والقوميين الأوكران، وعزل جماعة الرئيس اليهودي الصهيوني زيلينسكي، عبر عملية «خض ورج» لأوضاع الداخل الأوكراني، والاستخدام المزدوج للسلاح وعروض التفاوض في نفس واحد، على طريقة دفع زيلينسكي إلى مفاوضات، جرى بعضها في بيلاروسيا الحليفة لروسيا، تريد منها موسكو أن تمهد لاتفاق استسلام أوكراني كامل، مع اقتحام العاصمة «كييف»، وإثبات خيبة الغرب الذي لجأ لتكتيكات قديمة، سبق أن زودت بها واشنطن كتائب «المجاهدين» في حرب استنزاف الروس ـ السوفييت ـ بأفغانستان، وربما عن طريق طرازات الأسلحة ذاتها، من نوع صواريخ «ستينجر»، التي يطلق عليها لقب «قاتل الطائرات»، وإضافة صواريخ «جافلين» جزار الدبابات، وكلها أسلحة ذاهبة غالبا إلى مخازن السلاح الروسي في النهاية، وبالذات حين تمد موسكو ذراعها العسكرية إلى حدود أوكرانيا الغربية، وتوقف تدفق السلاح والنازيين الأوروبيين الراغبين بالانضمام لما يسمى اصطلاحا «فيلق الأجانب» أو كتائب «الجهاد الأوكراني»، وهو ما يدعم دعوى موسكو في تحول أوكرانيا إلى بؤرة نازية، وإلى خطر قابل للتطور نوويا على أمن روسيا، التي لا تريد اليوم منع انضمام أوكرانيا إلى «الناتو» فحسب، بل تحويلها إلى فضاء مفتوح خاضع تماما للإدارة الروسية، وليس الاكتفاء بجعلها منطقة محايدة عازلة على حدود روسيا مع دول «الناتو»، وجعل الاكتساح الروسي لها، سابقة تخيف أخواتها في أوروبا، وفي شرقها بالذات، تدفعهم إلى ميل للتخفف من عبء عداوة موسكو، والسعي لكسب فرص البقاء الآمن إلى جوار الدب الروسي، وبالذات بعد إخفاق أمريكا و«الناتو» المرجح في إنقاذ أوكرانيا، إضافة للإخفاق المتوقع في تركيع الاقتصاد الروسي، فالعقوبات سلاح الأغبياء، وزادت قوة إيران رغم أربعين سنة من العقوبات، فما بالك بروسيا ذات الإمكانيات الأوفر بما لا يقاس، وخبراتها المتراكمة في صنع البدائل، وحلفها الوثيق الذي «بلا حدود» مع التنين الصيني، بوصلة الكسب الأعظم في تحولات اللحظة الدولية.
كاتب مصري