- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: أنياب روسيا النووية
عبد الحليم قنديل يكتب: أنياب روسيا النووية
- 25 يونيو 2022, 3:42:59 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل يتحول صراع روسيا والغرب إلى حرب نووية شاملة؟ التخوف مطروح من شهور، لكن حدته زادت في الأيام الأخيرة، وبالذات مع فرض ليتوانيا حظرا جزئيا على نقل بضائع ومواد خام روسية إلى جيب كالينينغراد الروسي على بحر البلطيق، ولم يكن لدولة صغيرة مثل ليتوانيا أن تفعل، إلا أن تكون لقيت تشجيعا خفيا، ودفعا من القيادة الأمريكية لحلف شمال الأطلنطي «الناتو»، وهو ما بدا ظاهرا في الدعم العلني من الخارجية الأمريكية لإجراءات ليتوانيا العضو بالحلف، وتأكيد التزام واشنطن بتطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تعتبر تهديدات روسيا بمثابة إعلان حرب، يوجب الرد الفوري العسكري الجماعي.
وكانت موسكو قد هددت بإطلاق اليد ردا على إجراءات ليتوانيا، واستدعت ممثليها، كما ممثل الاتحاد الأوروبي الذي تنتمي ليتوانيا لعضويته، وأبلغتهم بضرورة إلغاء تقييد نقل بعض البضائع عبر خط سكك حديدية يصل إلى كالينينغراد، والأخير إقليم روسي صار منفصلا عن بقية اليابسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن العشرين، ثم إعلان انفصال واستقلال ليتوانيا الواقعة بين الأراضي الروسية وإقليم كالينينغراد، الذي ضمه الروس إلى أراضيهم في معارك نهايات الحرب العالمية الثانية، وانتزعوه من ألمانيا النازية، وكان تابعا في مراحل تاريخية أقدم للامبراطورية الروسية ثم لألمانيا بحسب سير التحولات في موازين القوة، وهو اليوم مركز صناعي كبير، ويسكنه ما يزيد على مليون روسي، فوق مساحة 15 ألف كيلومتر مربع.
باتت نغمة التصعيد ضد روسيا ضعيفة باهتة معزولة، فالكل خائفون من الدب الروسي وأنيابه «النووية» في معناها ومبناها
وفي كالينينغراد مقر قيادة أسطول البلطيق الروسي، إضافة لنحو 30 ألف جندي، ونشرت موسكو على أراضيه صواريخ «إسكندر» طويلة المدى، وزادت أهميته بعد ترك فنلندا البلطيقية لحيادها الذي كان معلنا، وحسم رغبتها في الانضمام لحلف «الناتو»، فإقليم كالينينغراد على خرائط أوروبا أشبه بخنجر روسي، وتحوله المتزايد إلى قاعدة صواريخ نووية متقدمة، يجعله خنجرا نوويا روسيا مغروسا في قلب أوروبا الأطلنطية، وما من ترف عند موسكو في التسامح بقضية كالينينغراد، ولا في التضييق على حياة سكانه الروس، صحيح أن لروسيا إطلالة أخرى على بحر البلطيق عبر ميناء سانت بطرسبورغ الأشهر، وبوسعها أن تزود إقليمها المنفصل جغرافيا بما تريد عبر البحر، لكن روسيا اليوم لا تعرف لغة التهاون في حقوق، بقدر ما تحرص على تكريس ومضاعفة الحقوق، وهو ما يفسر عنف لغتها إزاء ليتوانيا والاتحاد الأوروبي والغرب بعامة، فهي التي أنشأت خط السكك الحديدية عبر ليتوانيا العضو السابق في الاتحاد السوفييتي، ثم عقدت اتفاق شراكة وتعاون جمعها مع ليتوانيا والاتحاد الأوروبي عام 2002، اشترط حرية النقل والتجارة لتحصيل موافقة موسكو على انضمام ليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتعتبر روسيا أن نكوص ليتوانيا عن تنفيذ الشرط يلغي الاتفاق كله، ويطلق يد موسكو في فتح الطريق بالقوة المباشرة، وهو الطريق المعروف باسم «سوالكي»، ويمتد إلى كالينينغراد من نقطة التقاء حدود ليتوانيا وبولندا مع بيلاروسيا، والأخيرة حليف ثابت لروسيا، وبوسعها تسهيل مهمة القوات الروسية عند الاقتضاء، إضافة لإمكانية تحرك القوات الروسية لفك الحصار الجزئي على كالينينغراد، حتى بافتراض معارضة بيلاروسيا المستبعدة، ورغم ارتفاع نبرة الأوروبيين والأمريكيين المعادية لروسيا، وصولا إلى حديث لقائد الجيش البريطاني الجديد عن خوض حرب مباشرة مع موسكو، إلا أن أصواتهم تبدو كطبل أجوف، فقد حرضوا ليتوانيا الصغيرة على ما فعلت، وبدعوى تطبيق عقوبات «الاتحاد الأوروبي» ضد موسكو، مع إدراكهم لحقيقة التصرف، الذي يعد عملا عدوانيا فجاً، يلزم موسكو بحسب عقيدتها العسكرية، أن تستخدم كل قوتها بما فيها النووية لرد كل عدوان على أراضيها، وهو ما يفسر تراجع لغة الاتحاد الأوروبي، ودعوته موسكو لإيجاد حل دبلوماسي لمسألة نقل البضائع إلى إقليم كالينينغراد، بينما تتمسك موسكو بشرط الإلغاء الأوروبي الفوري لإجراءات التقييد، وجعل سيادتها وشؤونها الداخلية بمنأى عن أي تفاوض، والرد بالإجراءات العملية الأصدق إنباء من المناشدات والمكاتبات.
ونحسب أنه لا فرصة لأوروبا ولا لليتوانيا في التشدد كثيرا بالموضوع، ولا في التلاعب بناره خضوعا للتحريض الأمريكي، فليس بوسع أوروبا احتمال تداعيات قد تكون نووية، وهي تعلم أن روسيا أكبر قوة نووية في عالمنا اليوم، ولديها ما يزيد كثيرا على نصف 13 ألف رأس نووي موجودة في تسع دول، بينها أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين، إضافة إلى الهند وباكستان و»إسرائيل» وكوريا الشمالية، وكل هذه الدول حصلت على ما يمكن تسميته «بوليصة تأمين نووي» لوجودها، لكنها لا تملك فرصة منازعة روسيا في التفوق النووي الرادع، عبر شبكة هائلة من القاذفات الاستراتيجية والغواصات النووية والدرون النووي «بوسيدون» والصواريخ العابرة للقارات، وأحدثها صواريخ «سارمات2 « الروسية المقرر نشرها في نوفمبر المقبل، وسرعتها تفوق سرعة الصوت بعشرين مرة، وبوسع الصاروخ الواحد حمل عشرة أطنان من القنابل النووية، ولا توجد أي وسيلة لاعتراض «سارمات» بطبعته «الشيطانية» الجديدة، وهو ما يثير رعب العواصم الغربية بعامة، فلا يحتاج «سارمات» سوى إلى بضع ثوان لتدمير برلين أو لندن أو باريس، صحيح أن الدمار النووي إن بدأت حربه، فلن يستثني أحدا، وصار يكفي لإفناء البشرية كلها في دقائق، وهو ما يفسر ميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استخدام سياسة الحافة النووية، وإعلان التأهب النووي مبكرا، وهو يدرك تماما أن التهديد بالردع النووي له وظيفة محددة، مفادها إطلاق يده في بلوغ ما يريد بوسائل وبحروب تحت نووية كالجارية اليوم. ولم يعد من جدال في طبيعة الصدام المتصل على أرض أوكرانيا، فهي ليست حربا روسية أوكرانية محصورة، ولا مجرد «عملية عسكرية خاصة» كما تصفها موسكو، بل تطورت إلى حرب ذات طابع عالمي تجري في الميدان الأوكراني، تصورت معها أمريكا والغرب عموما، أن بوسعها استخدام الحرب بهدف إضعاف روسيا، وربما تفتيتها، وخلع رئاسة بوتين نفسه، واستنزاف القوة الروسية في أوكرانيا، على طريقة استنزاف الاتحاد السوفييتي السابق في حرب أفغانستان القديمة ذات السنوات العشر، وبعد مضي أربعة شهور على بدء العمليات الحربية في أوكرانيا، وفرض أقسى عقوبات شاملة عرفها التاريخ ضد موسكو، ودفع الغرب بكل أسلحته العسكرية إلى الميدان الأوكراني، وبتكلفة جاوزت المئة مليار دولار إلى اليوم، دفعت منها واشنطن وحدها 54 مليار دولار، وترويج «الميديا الغربية» المسيطرة عالميا لأكاذيب وقصص مثيرة للسخرية، عن هزائم روسيا وتدهور صحة بوتين، وعن خراب شامل مستعجل للاقتصاد الروسي، إلا أن الحقائق الصلبة عادت فصفعتهم على الوجوه وركلت المؤخرات المترهلة، واضطروا للاعتراف علنا بها، فالقوات الروسية تتقدم ببطء ولكن بثبات وحزم، وتدفع الرئيس الأوكراني الصهيوني الكوميدي فلولديمير زيلينسكي إلى بكائيات الاستغاثة والصراخ اليومي، فقد ذهب ما يزيد على ربع مساحة أوكرانيا إلى أيدي الروس، وصار بوسعهم أن يسيطروا سريعا على ثلث أوكرانيا الأغنى المتقدم صناعيا والأهم استراتيجيا، في زحف لا يرحم على قوس الشرق والجنوب الأوكراني، فيما بدت لغة بوتين كاشفة لثبات عصبى مذهل، ولثقة بلا حدود في تحقيق كامل أهداف «عمليته العسكرية الخاصة»، وإخراجه كل أسبوع لأسلحة روسية جديدة، تبطل عمل أحدث الأسلحة الأمريكية المتدفقة بلا حساب إلى الميدان، وتصادر مخازنها لحساب الجيش الروسي، وتنقل تقنياتها المتقدمة كهدايا مجانية للمصانع الحربية الروسية، فوق أن أسلحة روسيا أنهت عصر ودور الطائرات المسيرة «الدرونز» في الحروب الحديثة، وباتت تسقطها جماعيا كأسراب العصافير، تماما كما يسقط المرتزقة الأمريكيون والبريطانيون أسرى وقتلى، في الوقت الذي صمد فيه الاقتصاد الروسي على نحو فاق كل توقع، وصار «الروبل» الروسي أفضل عملات العالم أداء، وتبين حجم المزايا النوعية الفريدة للموارد الروسية المتحكمة بالمصائر، وبالذات في مجالات الوقود النووي اللازم لتشغيل مفاعلات العالم، وفي إنتاج «الغازات النبيلة» الخاملة وحيدة الذرات، كالهليوم والنيون والرادون المشع، وقد حظرت روسيا تصديرها، وأوقعت مستشفيات الغرب بعد أجهزة الرنين المغناطيسي والرقائق الإلكترونية والصناعات والألبان في أزمة ندرة خانقة، فوق أزمات البترول والغاز الطبيعي والغلاء والركود التضخمي ونقص الحبوب والأسمدة، وهو ما دفع جوزيب بوريل مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي لإعلانها صريحة مستغيثة، فقد قال إن أوروبا لم تحظر استيراد الحبوب والأسمدة من روسيا، وموسكو على رأس قائمة مصدري القمح في الدنيا كلها، وهو اعتراف بالعجز عن مقاطعة وحصار روسيا بأوهام عزلها، بينما باتت نغمة التصعيد ضد روسيا ضعيفة باهتة معزولة، فالكل خائفون من الدب الروسي وأنيابه «النووية» في معناها ومبناها.
كاتب مصري