- ℃ 11 تركيا
- 15 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب تغيير العالم
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب تغيير العالم
- 11 يونيو 2022, 4:46:47 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بعد المئة يوم الأولى من حرب أوكرانيا، لم يعد أحد يجادل كثيرا في هوية من انتصر ومن انهزم، فالقوات الروسية مع حلفائها الأوكران، تزحف ببطء ولكن بثبات وثقة على قوس الشرق والجنوب الأوكراني، وسيطرت إلى الآن على أكثر من ربع مساحة أوكرانيا الإجمالية، بما فيها «شبه جزيرة القرم» التي ضمتها روسيا عام 2014، وفيما تتراجع معدلات خسائر الروس في تكتيكات الحرب الجديدة بعد ترك حصار «كييف»، فقد زادت خسائر ما تبقى من الجيش الأوكراني، وبلغ عدد أسراه ما يزيد على ستة آلاف، نصفهم من المقاتلين الأوكران الأشد صلابة، من عينة كتائب «آزوف» و»الجناح الأيمن» وغيرهم، وهم يوصفون في الدعاية الروسية بالقوميين الأوكران أو الجماعات النازية، وهزائمهم الأخيرة في «ماريوبول» وفي مصنع «آزوفستال» بالذات، كان لها أثرها في تواري مبالغات الدعاية الغربية الأطلسية، عن أساطير المقاومة الأوكرانية، كذا خفوت صوت «الفيلق الدولي» الداعم للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وكان يضم عشرين ألفا من عتاة اليمين المتطرف الأوروبيين والأمريكيين، وتتسابق عناصره اليوم للفرار من جحيم الهجوم الروسي.
وما من شك في طبيعة الحرب الجارية، فهي ليست حربا إقليمية محصورة بالجغرافيا الأوكرانية، بل هي حرب ذات طابع عالمي، أو قل إنها حرب عالمية تحت المستوى النووي، تواجه فيها روسيا ثلاثين دولة عضوا في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، إضافة لدول حليفة وتابعة، بينها للأسف أطراف عربية، وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة والعقوبات غير المسبوقة في التاريخ الإنساني، هدفت منها أمريكا إلى «إضعاف روسيا» وهزيمتها، كما أعلن مرارا وبالفم الملآن، وبأقصى صور التعبئة التي تستطيعها الإدارة الأمريكية، وهي تخوض حربا شاملة ضد روسيا، يصدق عليها وصف المفكر الأمريكي اليساري نعوم تشومسكي، الذي رأى أن واشنطن تخوض حربا ضد موسكو «حتى نهاية آخر أوكراني».
فليس من وجود لقوات أمريكية معلنة الحضور في الميدان الأوكراني، وإن كانت المشاركة الأمريكية المباشرة محمومة في معارك السلاح، بتخصيص 40 مليار دولار حتى الآن لدعم أوكرانيا، إضافة لدعم أوروبي مماثل، قد يقفز بحجم الإنفاق الغربي إلى نحو مئة مليار دولار، مع تدفق جنوني للسلاح الفتاك المحارب لروسيا، والتحول من الأسلحة الدفاعية إلى الأخرى الهجومية، من صواريخ «ستينجر» و»جافلين»، إلى راجمات صواريخ «إم 270» البريطانية و»هيمارس» الأمريكية، وإلى أحدث أنواع المسيرات الأمريكية ومدافع «الهاوتزر» والألغام الألمانية الذكية، إلى استنزاف مخازن السلاح السوفييتي القديم بدباباته وطائراته في دول أوروبا الشرقية، ومن بولندا بالذات، مع وجود آلاف المدربين الأمريكيين والأطلسيين على الأرض، والدعم الاستخباراتي اللحظي، وعبر الأقمار الصناعية من أمريكا وبريطانيا بالذات، وقد أغراهم ما جرى في الأسابيع الأولى من فك القوات الروسية لطوق حصار العاصمة الأوكرانية «كييف»، وصورت وقتها التقارير اليومية للبنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية والمخابرات الأمريكية والبريطانية، أن روسيا وقعت في الفخ المنصوب بعناية، وعلى مدى ثماني سنوات مضت قبل انطلاق «العملية العسكرية الروسية الخاصة» في 24 فبراير 2022، وأن موسكو تنتظر الهزيمة المؤكدة في حرب تستمر لعشر سنوات، كما جرى للاتحاد السوفييتي من قبل في حرب أفغانستان، ومع اتصال الحرب وتحول التكتيكات الروسية، بدأت الرياح تأتي بما لا تشتهي سفن الغرب الأمريكي والأوروبي، وتباعد شبح إمكانية هزيمة الجيش الروسي، ودفعت روسيا إلى الميدان بأسلحة جديدة على نحو متدرج، من «كاليبر» والصواريخ فرط الصوتية إلى الأسلحة الحرارية ومدافع الليزر، وصارت تلتقط أحدث أجيال الأسلحة الأمريكية، وتكسرها كما «حبات الجوز» بتعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي خيب الظنون الغربية، ولم يعلن الحرب على أوكرانيا رسميا إلى اليوم، ولم يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ والتعبئة العسكرية العامة، واكتفي بدفع عشرات آلاف الجنود، مع حسن استثمار أدوار القوات الحليفة من كتائب الشيشان وقوات جمهوريتي «الدونباس» في الشرق الأوكراني، وتعامل بثبات عصبي مذهل، يثق بأن الحروب بخواتيمها، وأن أهدافه الأوكرانية كلها قابلة للتحقق، وقد تصل في حدها المنظور إلى ضم ثلث مساحة أوكرانيا، بما فيها إقليم «الدونباس» كله، إضافة إلى «خيرسون» و»زابوريجيا»، وربما «خاركيف» و»ميكولايف»، وصولا إلى «أوديسا»، وفرض خرائط جديدة، تفقد فيها أوكرانيا أراضيها ومدنها الصناعية الكبرى، وينقطع فيها اتصال ما يتبقى من أوكرانيا بالبحر الأسود، بعد أن تحول «بحر آزوف» بكامله إلى بحيرة روسية داخلية، وكلها مهمات حربية مباشرة، قد تتدحرج مواعيد إتمامها كما نقدر إلى نهايات الصيف ومطالع الخريف على الأقل.
بوسع روسيا مع الحرب وبعدها، أن تحول محنة العقوبات إلى منحة فريدة، وبالذات مع تبين فشل خطة أمريكا العبثية في عزلها
ولكل حرب كما هو معروف روايتان، كذا في حرب أوكرانيا الجارية فصولها، تسترت الرواية الأمريكية الغربية وراء حق أوكرانيا المفترض في وحدة أراضيها ودفع العدوان الروسي عنها، وفي الرواية بعض المنطق المجرد المدون في المواثيق الدولية، لكن العوار الذي يصادف هذه الرواية، أنها تصدر عن آخر طرف يحق له الحديث عنها، فقد شنت واشنطن عشرات الحروب على سيادة دول تبعد عنها آلاف الأميال، بينما الرواية الروسية لها منطق مختلف، فأوكرانيا عند بوتين ليست دولة أخرى وحقا قوميا منفصلا، وأوكرانيا في رواية بوتين، لم تكن لها دولة قبل قيام الاتحاد السوفييتي، وكانت من أملاك الإمبراطورية الروسية، والروس هم الذين أضافوا حوض «الدونباس» ومدن الشرق والجنوب وشبه جزيرة «القرم» إلى أوكرانيا السوفييتية سابقا، وضمان الأمن القومي الروسي، يستلزم رد الأرض إلى أهلها الروس، خصوصا بعد تمادي النخبة الأوكرانية القومية في الالتحاق بالغرب وأطماع «الناتو» في تفكيك روسيا، ومع هذه الرواية الروسية البوتينية، فقد لا يجدي الدفع بالمنطق الدولي الصوري، وباعتراف روسيا السابق بأوكرانيا وقت الإذلال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد عاد الروس لتملك القوة العسكرية بالذات، ولا يريدون أن يفلتوا لحظة تاريخ تبدو لهم مواتية، ويهدفون لإنهاء عقود إذلال روسيا والاستخفاف الغربي بها، وتصويرها كقوة إقليمية لا كقوة عالمية، وهو ما كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ينطق به زراية بروسيا، لكن تحركات بوتين العسكرية في «جورجيا» والقرم وسوريا قلبت الموازين، وجعلت واشنطن تدرج موسكو كعدو عالمي ثان بعد الصين في استراتيجيات الأولوية الأمريكية، خصوصا بعد نجاح بوتين في توثيق عرى علاقة «بلا حدود» مع الصين، قبل عشرين يوما من بدء عمليته العسكرية في أوكرانيا، ما منح موسكو مرونة هائلة في الحركة، وفي امتصاص صدمات سلاسل العقوبات الأمريكية الأوروبية، التي بلغت حتى اليوم ما يزيد على عشرة آلاف عقوبة، إضافة لحملات الشيطنة ونشر الكراهية لكل ما هو روسي، ومع ما بدا من جبروت ظاهر في العقوبات الجزافية، فقد ارتد السحر على الساحر، ودخلت اقتصادات الغرب الكبرى في ركود تضخمي، فيما أبدى الاقتصاد الروسي ـ متوسط الحجم ـ صمودا عكس التوقع، وصار الروبل الروسي أفضل عملات العالم أداء باعتراف المؤسسات الأمريكية المالية ذاتها، وبدأ العمل في روسيا على بناء هيكل اقتصاد جديد، يكافئ موارد روسيا المعدنية والطاقية والزراعية اللامتناهية، ففي روسيا ربع إيراد العالم كله من المياه العذبة، والقصور النسبي في صناعاتها المدنية، يثير المفارقة والتناقض مع قوتها العسكرية والنووية فائقة التكنولوجيا، فوق أن سرقة عقوبات الغرب لثروات «الأوليغارشية» الروسية، قد تفيد للمفارقة فكرة البعث الروسي مجددا، و»الأوليغارشية» داء استشرى في روسيا كما غيرها من دول الاتحاد السوفييتي السابق، فالخصخصة السريعة المنفلتة، راكمت ثروات فلكية من الهواء لرجال أعمال وحيتان من الأقلية «الأوليغارشية»، وبوسع روسيا مع الحرب وبعدها، أن تحول محنة العقوبات إلى منحة فريدة، وبالذات مع تبين فشل خطة أمريكا العبثية في عزل روسيا، وتبين حيازة موسكو لتأييد صريح وضمني من قوى العالم الجديد الصاعدة، والتكون الفعلي لعالم متعدد الأقطاب، لم تنشئه الحرب الأوكرانية، بل كشفت وتكشف حقائقه باطراد، وكان أول ما سقط ويسقط فيه، هو تلك الهيمنة الأمريكية الأحادية على مصائر الكون، فلن تعود أمريكا أبدا إلى مكانة القطب الأوحد، ولا إلى امتياز «القوة العظمى» الوحيدة بألف ولام التعريف، وبوسعها فقط، أن تكون «قوة عظمى» بين متعددين، لن تصبح أولاهم مع صعود المارد الصيني إلى عرش الاقتصاد والتكنولوجيا، وربما تكون مخاوف أمريكا الغريزية مما جرى ويجري، هي التي دفعت مفكرا استراتيجيا بوزن هنري كيسنجر على عتبة عامه المئة، أن ينصح واشنطن بالتنازل لروسيا بما تريده في أوكرانيا، وفض الاشتباك معها تفرغا لمواجهة التنين الصيني.
كاتب مصري