- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
عبد الباسط سيدا يكتب: مشكلاتنا تكمن في الهوة بين الشعارات والسلوكيات
عبد الباسط سيدا يكتب: مشكلاتنا تكمن في الهوة بين الشعارات والسلوكيات
- 2 أبريل 2023, 2:08:42 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كنت في بدايات تسعينيات القرن المنصرم في مدينة سبها عاصمة فزان الليبية، حيث كنت أدرّس في قسم الفلسفة (أو قسم التفسير كما كان يسمى في ذلك الحين بموجب المصطلحات القذافية المفروضة). وسبها كانت في ذلك الحين واحة في قلب الصحراء الكبرى (لا أعلم وضعها الآن)، وكانت تتميز بمياهها العذبة الجوفية التي كانت تعد المصدر الأساس لتأمين مياه الشرب والسقاية، وذلك نظرا لبعد المنطقة عن المصادر المائية الأخرى. أما الأمطار فقد كانت شحيحة للغاية، ومع ذلك كان السكان يحاولون الاستفادة منها قدر الامكان عبر تخزينها في خزانات خاصة كانوا يسمون الواحد منها باللهجة الليبية: الماجن. وكانت سبها في ذلك الوقت، ونتمنى أن تكون ما زالت، شهيرة على مدار العام بخضرواتها الطازجة المتنوعة التي كانت تجذب بمنظرها وعبقها الزبائن في السوق المخصص لها. كنا نتوجه كل أسبوع إلى السوق لشراء ما نحتاجه، وكان يضم إلى جانب الخضروات والفواكه، كل ما يخطر وما لا يخطر على البال، من الأطعمة والمواد: اللحوم بأنواعها، والأدوات المنزلية، والبخور والحناء والبهارات ومواد حجرية وخشبية ومنتوجات أفريقية، إلى جانب الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وغيرها.
ومن بين الطرائف التي سمعتها من زميل ليبي في الجامعة، والرجل كان يؤكد أن القصة حقيقية وليست مجرد طرفة، إلا أنها انتشرت انتشار الطرفة بين الناس نظراً لعفويتها وروحية الفكاهة فيها. فما ذكره الزميل الليبي هو أن رجلا مسنّاً كان يقود شاحنة صغيرة تحمل البطيخ الأحمر ويسمى باللهجة الليبية (الدّلاع)، يبدو أنه كان في طريقه إلى السوق لبيع بضاعته؛ ولدى توقفه أمام شارة المرور الضوئية، أعطى الإشارة بـ «غمّاز» السيارة مبيناً أنه سينعطف نحو اليسار حيث كانت توجد صيدلية؛ ومع فتح الإشارة انعطف نحو اليمين حيث السوق؛ الأمر الذي أربك سائق السيارة التي كانت خلفه، وحدث الاصطدام. توقف الاثنان، ونزلا من سيارتيهما لمعاينة الخسائر. عاتبه السائق الآخر قائلاً: يا حاج أنت أعطيت إشارة اليسار ولكنك انعطفت نحو اليمين. فضحك سائق الشاحنة المسن، قائلاً: يا راجل اترك الإشارة جانباً، ودقق النظر في حملي، هل من المعقول أن أذهب بهذا الدّلاع إلى الصيدلية، وسوق الخضروات على اليمين؟
ما ذكّرني بهذه الحكاية التي مرّ عليها أكثر من ثلاثين عاماً، هو ما نسمعه من السوريين من تأكيدات مستمرة تبدي الحرص على الوحدة السورية شعباً وأرضاً، ولا تتساهل مطلقاً مع أية نزعات انفصالية أو تقسيمية، لدرجة أن المتهم بها يشيطن، بل ويخوّن ويكفّر.
بينما التصرفات الواقعية على الأرض لا توحي بوجود رؤية وطنية عامة متماسكة واضحة مؤثرة، تحترم التنوع المجتمعي السوري على مستوى الانتماءات
القومية والدينية والمذهبية والفكرية؛ رؤية تستلهم الوقائع الجغرافية والتاريخية بموضوعية وبمنأى عن النزعات القومية أو الدينية، وتعترف بالخصوصيات والحقوق على قاعدة احترام وحدة الشعب والوطن.
فما نسمعه من خطاب عنصري وطائفي مذهبي لا يبشّر. والملاحظ أن هذا الخطاب يتسع مداه نتيجة استثمار بعض الجهات في المظالم والجهل، وركوبها الموجة عبر التجييش العاطفي الذي يمكّنها من تصدّر المشهد، وتحقيق المكاسب سواء الشخصية منها أم الحزبية أو الشللية.
وبالتكامل مع هذا النزوع، توجه تهم التكفير إلى القوى العلمانية والليبرالية؛ بينما تقوم أوساط ضمن هذه الأخيرة بالتهجم على كل ما يمت إلى الدين بصلة، وتدعو إلى علمانية متوحشة لا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية السورية وطبيعة ودور الدين فيها. ولا تميّز بين التدين والتعصب الديني أو الاسلام السياسي الذي حوّل الدين إلى ايديولوجية، أو أداة أيديولوجية، لبلوغ مآرب سياسية، تماما كما فعلت الأحزاب القومية التي اعتمدت الأيديولوجية القومية، ورفعت شعارات قوموية كبرى لم تكن سوى وسيلة لتعزيز سلطتها وتصفية خصومها عبر تخوينهم، ولنا في التجربتين السورية والعراقية خير مثال في هذا المجال.
فالوحدة التي يدّعي الجميع أنهم يريدونها لسوريا على صعيد الشعب والوطن لن تتحقق ما لم نتمكن من إعادة ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وهو النسيج الذي هتكته السلطة البعثية والأسدية على مدى ستة عقود، وذلك باستغلال الأولى للمشاعر القومية، وعزف الثانية على وتر الهواجس والنزعات الطائفية.
ولكن الذي حدث في مرحلة عسكرة الثورة السورية، وسيطرة الإسلاميين المتشددين على الفصائل، واعتمادهم أسلوب تعيين الشرعيين في محاولة لتطبيق الأحكام الشرعية بطرق بدائية تؤكد الجهل بالدين ورسالته من جهة، وعدم احترام واقع التنوع السوري على صعيد الانتماءات والتوجهات من جهة ثانية، وتجاهل مستوى تطور وعي السوريين بجميع انتماءاتهم من جهة ثالثة. وبناء على تصورات بعض هؤلاء من المتشددين اُعتبر العلويون والدروز جماعات «منحرفة عن الإسلام» وعُومل الكرد على انهم من «العلمانيين الكفّار»، أو ربما من «المرتدين»؛ أما بالنسبة إلى المسيحيين فهم، بموجب أحكام المشار إليهم، من «أهل الذمة» الذين عليهم أن يدفعوا الجزية مقابل الحماية؛ في حين ان الليبراليين والعلمانيين من العرب السنة يمثلون مجموعة من «المارقين والملاحدة والزنادقة»، وكل ذلك أثار، ويثير، الرعب لدى سائر السوريين المناهضين لسلطة بشار الأسد، الذين لا يتشارك معظمهم مع هذه الطروحات الغريبة على المجتمع السوري وتاريخه القديم والوسيط والحديث.
ولعل الحادثة الأخيرة التي شهدتها بلدة جنديريس في منطقة عفرين عشية الاحتفال بنوروز تُعد مثالاً ملموساً في هذا المجال، يلقي الضوء على حالة التناقض التي نعيشها بين الرغبة المعلنة في الحفاظ على وحدة سوريا شعباً وأرضاً، وبين الممارسات التي تقيم الحواجز بين السوريين، وتساهم في ترسيخ الهواجس وزيادة منسوب عدم الثقة بين المكونات السورية نتيجة عقود من السياسات التمييزية.
فقد أقدمت عناصر تابعة لفصيل مسلح في المدينة على إطلاق النار بدم بارد على أفراد عائلة كانوا يوقدون شعلة نوروز، وهو تقليد معروف لدى الكرد، بل ولدى شعوب المنطقة، له دلالات ميثولوجية تتمثل في الصراع بين الخير والشر والنور والظلام، وذلك بالتزامن مع الانقلاب الربيعي. هذا مع أهمية أخذ السرديات الخاصة بالذاكرة الشعبية لبعض الشعوب بعين الاعتبار، ومنها سردية الكرد التي أصبح بموجبها نوروز عيداً قومياً له مكانة خاصة تستوجب الاحتفاء والاحتفال.
وكانت حصيلة الاعتداء المذكور خمس ضحايا، وعدداً من الجرحى، الأمر الذي أدّى إلى حملة غضب عامة شملت مختلف أنحاء منطقة عفرين ومنطقة الجزيرة، وقد كشفت هذه الحادثة عن الواقع الصعب الذي تعيشه منطقة عفرين منذ خمس سنوات في ظل حكم الفصائل المسلحة التي دخلت المنطقة مع الجيش التركي في كانون الثاني/يناير 2018. فسكان المنطقة المذكورة عانوا، ويعانون، من انتهاكات جسيمة شملت الأرزاق والممتلكات والأعراض والحريات. ولتبرير كل تلك الانتهاكات كانت التهم المفبركة جاهزة، وهي الاتصال والعمل مع حزب العمال وواجهاته السورية. ورغم الاتصالات مع السلطات التركية وهيئات المعارضة السورية، وحتى مع المجلس الإسلامي السوري والشخصيات المؤثرة بغية التدخل لوضع حد لتلك الانتهاكات، لم تتحسن الأوضاع، بل تفاقمت، حتى وصلت إلى حد إطلاق النار بصور متعمدة على المحتفين بنوروز، وهو الأمر الذي سبق وأن أقدمت عليه السلطة الأسدية في مناسبات مختلفة.
وكان اللافت أن الكثير من السوريين قد تضامنوا من خلال البيانات والتعليقات عبر وسائط التواصل الاجتماعي مع ذوي الضحايا؛ وأعلنوا عن ادانتهم لما حصل في جنديريس، ورفضهم القطعي له. ولكن في المقابل، كان من الملاحظ أيضا أن الكثيرين حاولوا في الوقت ذاته تمييع الموقف عبر الادعاء مثلاً بأن ما حصل هو مجرد تصرف فردي طارئ، سيحاسب من قام به؛ ومن دون الربط بين هذه الجريمة وسلسلة الانتهاكات المتواصلة على مدى خمسة أعوام في منطقة عفرين. بل أن بعضهم مارس صيغة من الوصاية على الكرد، وأدّعى أن هذا العيد يخص المجوس، ولا يمكن السماح به بناء على اعتبارات دينية، هذا ناهيك عن بعض التوجهات القوموية التي ما زال أصحابها يرون انطلاقاً من منظومتهم الفكرية البعثية أن سوريا تخص العرب وحدهم.
من واجب النخب السورية، المناهضة لحكم الاستبداد والفساد والإفساد، أن تقطع مع النزعات الشعبوية، وتتجاوز الحسابات الانتهازية، وتبين مواقفها بوضوح من المشروع الوطني السوري الذي ما زال، رغم كل ما حصل ويحصل، يشكّل الحل الأمثل لإنهاء المحنة التي طال أمدها، وكلّفت السوريين الكثير من القتل والتشريد والتهجير والتدمير على صعيد الاجتماع والعمران.