عبدالله السناوي يحقق مع هيكل : هل مات ناصر بفنجان القهوة ؟

profile
  • clock 3 يونيو 2021, 1:47:07 ص
  • eye 1996
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

من كتاب  "أحاديث برقاش: هيكل بلا حواجز"الصادر عن دار الشروق للكاتب الصحفي الكبير عبد الله السناوي

  كانت الصدمة صاعقة… مات «جمال عبدالناصر».

مات في الثانية والخمسين من عمره في ذروة الصراع على المنطقة، ومصر تتأهب لتحرير أراضيها المحتلة بقوة السلاح بعدما تمكنت بتضحيات هائلة من إعادة بناء قواتها المسلحة بعد الهزيمة المروعة التي تلقتها في ٥ حزيران/يونيو ١٩٦٧.

هل مات «عبدالناصر» مسموماً؟

تواترت روايات وقصص، ثبت أنها لم تكن صحيحة، ولا تستند إلى أساس يعتد به، حتى تكشفت وثائق جديدة أعادت طرح السؤال بصورة أكثر جدية وخطورة. فالكلام عن ضرورة الوصول إلى ناصر ــ هذه المرة ــ استند إلى تسجيلات وتقارير مؤكدة.

وكان (محمد حسنين هيكل) هو الرجل الذي تولى الكشف عن هذه التسجيلات والتقارير، بعضها للمخابرات العامة المصرية، وبعضها الآخر وثائق أميركية لم يكن الاطلاع عليها متاحاً من قبل. أشار إلى تلك الوثائق في معرض حديثه التلفزيوني المسهب عن «الطريق إلى أكتوبر… في صحبة جمال عبدالناصر».

أزاح الستار في أيلول/سبتمبر ٢٠١٠ عن تسجيلات صوتية حصلت عليها المخابرات من داخل السفارة الأميركية في القاهرة في عملية أطلق عليها «الدكتور عصفور». حركة العصافير، التي تتناقل بين الأشجار الشاهقة، أوحت باسم العملية، والتسجيلات احتوت كنزاً معلوماتياً احتاجت إليه مصر بشدة في ذلك الوقت. سألتُه إن كان ممكناً أن أطل معه على النصوص الكاملة لتلك التسجيلات؟

قال: «أنت صحافي وسوف تنشر ما تجده من أسرار على درجة عالية من الخطورة، وبعضها لشخصيات ما زالت موجودة ولها دور». وقد راحت تلك التسجيلات ضمن ما راح في «حرائق برقاش».

عبدالناصر وخروشوف وهيكل ومحمود رياض في موسكو

في عملية «الدكتور عصفور» تمكن المصريون من زرع ميكروفونات حديثة في مدخل السفارة وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى في مبناها، التي تدور فيها جميعاً حوارات طوال الوقت.

في التسجيلات بدت فكرة الوصول إلى عبدالناصر، بالسم أو بأي وسيلة أخرى، الأخطر على الإطلاق.

استدعت المعلومات فائقة الخطورة أن يذهب رئيس المخابرات المصرية في ذلك الوقت، أمين هويدي، على وجه العجل إلى منشية البكري. استمع عبدالناصر إلى ما احتواه التسجيل من توجه للوصول إليه والتخلص منه، وكتب نصه على ورقة أمامه. انطوى التسجيل على حوار بين السفير الأميركي دونالد بيرجس، والوزير المفوض في السفارة الأميركية بتل أبيب ومساعدته، تبادلوا فيه ما توصل إليه قبل أيام اجتماع ضم غولدا مائير وموشيه ديان، وإيجال ألون، وياريف، من قيادات الدولة العبرية، من أن «بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر… وأنه يجب الوصول إليه بالسم، أو بالمرض».

بذات الوقت، كان هناك تقرير للمخابرات المصرية من روما، نقل كلاما منسوباً لعلي أمين من أنه سوف يجري التخلص من عبدالناصر في هذا العام، ١٩٧٠.

كشف هيكل عن وثائق خطيرة أخرى لاستهداف حياة «ناصر». ترجم بنفسه فقرات منها، وعرض صورها بالإنكليزية على الشاشة.

وفق نصوص ما هو مسجل، فإن السبب الإسرائيلي المباشر لاستهداف حياة عبدالناصر، هو خشية قياداتها من أن يفضي أي إنجاز عسكري للقوات المصرية في أي مواجهات متوقعة إلى مد جديد لحركة التحرر الوطني في العالم العربي، لا تقدر على صده.

الاعتقاد الراجح أن عبدالناصر

توفي بصورة طبيعية في أزمة القلب الثانية بعد عام واحد من الأولى، ولكن هناك شكوكاً وظنوناً لا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها، في أنهم تمكنوا من الوصول إليه

هل مات عبدالناصر مسموماً؟

سجله الطبي معروف ومنشور، فهو كان يشكو منذ أوائل عام ١٩٦٨ من آلام في ساقه اليمنى بأثر ضعف في الدورة الدموية، وهي إحدى المضاعفات المعروفة للسكر (داء السكري). وفي أيلول/سبتمبر ١٩٦٩ أصيب بالأزمة القلبية الأولى إثر إغارة إسرائيلية على منطقة الزعفرانة قتل فيها خمسة جنود وبعض المدنيين المصريين. وأثبت الفحص الإكلينيكي ورسومات القلب المتكررة تعرض الرئيس لجلطة بالشريان التاجي. وعندما نصحه طبيبه الدكتور منصور فايز، بالراحة، ردّ عليه: «يعني إيه راحة؟».

الاعتقاد الراجح أن الرئيس توفي بصورة طبيعية في أزمة القلب الثانية بعد عام واحد من الأولى، ولكن هناك شكوكاً وظنوناً لا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها، في أنهم تمكنوا من الوصول إليه.

سألته (لهيكل): «هل تعتقد أن عبدالناصر مات مسموماً؟»

قال: «ليس عندي يقين، والجزم في مثل هذه الأحوال خطأ فادح، الوثائق تقول إنهم كانوا يريدون الوصول إليه بالسم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم نالوا منه فعلاً».

في حالة عدم اليقين لم يستطع أن يتجاهل إشارات خطرة ولها مغزى. فقد رحل عبدالناصر بعد عشرة شهور من ذلك اليوم الذي استمع فيه لما يرتب لإنهاء حياته، ووضع نص ما استمع إليه على ورقة أمامه.

«ظللت أفكر في الورقة طوال الوقت، في غرفة نومه بعدما رحل، وفي جنازته التي لم أتحمل استكمالها». «هل وصلوا إليه؟… لا أجزم بشيء فلا يوجد دليل قطعي».

وسط الإشارات الخطرة، تذكّر واقعة جرت في الجناح الذي كان يقيم فيه الرئيس في فندق «هيلتون النيل»، والعالم العربي ينتظر ما ستسفر عنه القمة العربية الطارئة، التي عقدت لوقف حمامات الدم في عَمان فيما عُرف بـ «أيلول الأسود».

احتد عبدالناصر على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في حضور هيكل والسادات، قائلاً: «إما أن ننزل متفقين، أو أعلن فشل مؤتمر القمة في التوصل إلى حل».

لم يكن مستعداً لأي فشل، أو مماطلة في التوصل إلى حل ينهي المأساة.

عند ذلك اقترح السادات أن يعد بنفسه فنجاناً من القهوة للرئيس. دخل إلى المطبخ وصرف العامل المختص واسمه محمد داود.

سألته: «هل يمكن أن يكون السادات فعلها؟».

أجاب: «والله لا أعرف».

*أين الحقيقة؟

قال: «هناك أسباب أخلاقية وسياسية وعملية تمنع تورطه في مثل هذا العمل… لكني رويت ما رأيت».

(١)

في شتاء عام ١٩٥٣ خطر لرئيس تحرير «آخر ساعة» (محمد حسنين هيكل)، وهو يقارب الثلاثين من عمره، إجراء «حوار في العمق» مع «رجل يوليو» القوي، وهو في الخامسة والثلاثين.

كان معتقداً أنه زعيم الثورة وقائدها الحقيقي، وأراد ــ بالحوار المعمق ــ أن يكشف عن شخصيته وأفكاره وتجاربه في فلسطين والسودان ومنقباد، وخلفياته الاجتماعية. وافق عبدالناصر على ما فكر فيه، ودعاه إلى منزله بشارع الجلالي في حي الوايلي، وكان منزلاً شديد التواضع.

«في اللقاء تلاقت أفكار وتصورات».

في هذا اليوم الفارق في العلاقة بين الرجلين، وبينما الحوار يستفيض ويسهب في الوقائع والتفاصيل، متطرقاً إلى حرب فلسطين، توقف عبدالناصر فجأة عن الكلام، وطلب من ضيفه الانتظار قليلاً، غادر حجرة الاستقبال ليعود بعد قليل ومعه صور ومتعلقات شخصية ورزمة خطابات، بعضها تلقاها بعد العودة من الحرب من أهالي الفالوجة (في فلسطين)، وبعضها من زوجته تحية ووالده وعمه، وبرطمان مملوء برمل المنطقة التي حارب فيها، معتقداً أنه سوف يعود إليها ليقاتل مرة أخرى.

غير أن أهم ما أحضره دفتر مذكرات شخصية على غلافه الخارجي بقعة من دمه.

سأله هيكل: «هل هذه إصابة حرب؟».

أجاب: «لا»… وأخذ يروي قصة بقعة الدم على غلاف دفتر اليوميات، فأثناء كتابته اليومية مسجلاً وقائع القتال وانتقاداته ومشاعره، حدث أن قصفت القوات اليهودية مقر رئاسة الكتيبة المصرية السادسة، وأدى الارتجاج الشديد، الذي نتج عن القصف، إلى سقوط «لمبة الغاز». خشي أن يؤدي سقوطها على أرضية الغرفة إلى حريق، حاول أن يمسك بها دون جدوى، فأدى ذلك إلى جرح في يده، وسقطت قطرات من دمه على الدفتر.

في حرب فلسطين وخلفه المصور الصحافي محمد يوسف

بدت القصة الإنسانية البسيطة التي رواها عبدالناصر مثيرة للالتفات من الصحافي الشاب، الذي غطى العمليات العسكرية في فلسطين، وتعرف إلى أعداد كبيرة من أبطال هذه الحرب، ويعرف ــ باليقين ــ أن البطولات فيها بلا حصر، وأنها حقيقية، ولكنه يعرف ــ باليقين أيضاً ــ أن عدداً آخر ادعوا الإصابات فيها، وحصلوا على أنواط ونياشين. ثم إنه يعرف بالتفاصيل قصة الصمود الأسطوري للكتيبة السادسة في حصار الفالوجة، وكان عبدالناصر أحد أبطالها، وأنه دخل المستشفى الميداني أكثر من مرة بإصابات خطرة، إحداها بالقرب من قلبه، وقاد عمليات كاد يستشهد فيها.

بدا أمام محاوره واثقاً من قدرته على حسم صراع السلطة، وتجاهل الحديث في هذا الموضوع، وأخذ يتحدث عن «فلسفة الثورة»، وكانت المفاوضات مع الإنكليز للجلاء عن مصر على رأس مشاغله.

كان يرغب في تأسيس فكرة جوهرية لثورة يوليو ومستقبلها، ووجد في ما كتبه هيكل تعبيراً حقيقياً عنه، فأفسح المجال لحوار مفتوح بغير تكلف رسمي… وفي بيته، وأن يسأل كما يشاء.

في تلك اللحظة تجسرت العلاقة بين الرجلين وذاب الجليد، فقبلها كان إحسان عبدالقدوس، وأحمد أبو الفتح، وحسين فهمي، وحلمي سلام، هم الأقرب إلى يوليو ورجالها.

رغم أن هيكل التقى عبدالناصر قبل الثورة وبعدها عدة مرات، بعضها مثير، فإنه لم يكن الأقرب.. حتى هذا اليوم من مطلع عام ١٩٥٣.

كان رأي عبدالناصر أن اليوميات، التي كتبها أثناء حرب فلسطين، قد تساعد في استدعاء الوقائع وإدارة الحوار بصورة أفضل، وأودعها أمانة عند هيكل، الذي استند إلى الجو العام لليوميات في اكتشاف ملامح شخصية رجل يوليو القوي.

كانت تلك الأحاديث، مضافاً إليها يومياته في حرب فلسطين، هي الأساس الذي صيغت عليه «فلسفة الثورة».

بعد نحو سنتين استند هيكل إلى ذات اليوميات في كتابة «مذكرات الرئيس عن حرب فلسطين»، لكن الأصول ــ ذاتها ــ لم يطلع عليها أحد حتى قمت بنشرها مطلع عام ٢٠٠٨ في كتاب أهديته إليه «أستاذاً ومعلماً وأباً».

(٢)

كان الحوار طويلاً ومثيراً بين الصحافي الكبير، الذي خرج للتو من المعتقل، والرئيس الجديد، الذي تولى مهامه عقب اغتيال سلفه أنور السادات في حادث المنصة خريف عام ١٩٨١.

كل منهما أراد استكشاف الآخر، وكانت النتيجة قطيعة مبكرة. لم يلتقيا مرة أخرى على مدى ثلاثين سنة.

في الحوار جرى التطرق لطبيعة العلاقة التي جمعت محمد حسنين هيكل مع الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات.

قال حسني مبارك: «كنت أعتقد طوال الوقت من كلام أنور السادات أنك رجل جمال عبدالناصر، حتى أخبرني أنيس منصور أن عبدالناصر كان رجلك».

رد هيكل: «أرجو يا سيادة الرئيس، وأنت الآن تجلس على مقعد جمال عبدالناصر، ألا تسمح لأحد في حضورك أن يتحدث عنه بهذه الطريقة».

هكذا كانت القصة بحروفها ومغزاها كما نشرتُها مطلع القرن الجديد.

اقترح أنور السادات أن يعدّ بنفسه فنجاناً من القهوة للرئيس. دخل إلى المطبخ وصرف العامل المختص. سألته: «هل يمكن أن يكون السادات فعلها؟». أجاب: «والله لا أعرف… لكني رويت ما رأيت»

من جانب تاريخي، كان الرد حاسماً حتى لا تختلط الأوهام بالحقائق، كما أن الكلام لا يليق بحجم دور زعيم يوليو في التاريخ الحديث، ولا كان الصمت عليه جائزاً وإلا فإنه إقرار بالفرية.

ومن جانب إنساني، فإن الألفاظ التي جرت على لسان الرئيس الجديد بدت على درجة غير متصورة من السوقية، حيث استخدم تعبيراً آخر في وصف العلاقة بين عبدالناصر وهيكل بحروف قريبة من «رجلك»، فقد كانت «على حجرك».

لم يكن لذلك أي ظل من حقيقة لا في التاريخ ولا في رأيه.

كان يرى عبدالناصر: «ثائراً عظيماً وإنساناً بديعاً»… «لقد رأيناه رؤية عين لا بخيال رواة السير الشعبية»… «عشنا تجربته ولم نستمع إليها كسيرة الظاهر بيبرس».

في الجانب الآخر من تجربته السياسية، ثمة شيء عميق ربطه بعبدالناصر يتجاوز كل ما هو معتاد بين رئيس وصحافي إلى شراكة فكر أقرب إلى «التوأمة» ــ بتعبير مؤسس صوت العرب أحمد سعيد.

سألته: «هل أعدت اكتشاف جمال عبدالناصر من جديد بعد كل ما جرى في مصر وعالمها العربي من تحولات وانقلابات على خياراته الرئيسية؟».

قال: «لا، فقد كنت أعرف قدر دوره، ما جرى بعده يؤكد ويثبت أنه رجل استثنائي، وما طالعته من وثائق غربية لم تكن متاحة في أيام يوليو، تؤكد وتثبت ما تعرضت له تجربته من مؤامرات»… «تعرف أن التاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة موجودة فيه»… «وتعرف أن بعض الرجال يتحولون إلى عقد مستحكمة تقلق وتطارد من يخلفونهم».

وقد شاءت أقداره أن يعاصر عهوداً متوالية، وأن يكون طرفاً رئيسياً في صناعة القرار، أو الجدل من حوله، ولعله ــ دون أن يقصد أو يطلب ــ تحوّل إلى عقدة مستحكمة ثانية بتصور أنه «مخرج ثورة ٢٣ يوليو» ــ والتعبير للرئيس «السادات».

لم تكن ثورة يوليو شريطاً سينمائياً يبحث عمن يكتب مشاهده ويخرجها، فـ«هذا هزل في رؤية التاريخ غير جدير بأي اعتبار».

اقترب من عبدالناصر من قلبه وفكره كما لم يقترب أحد آخر، كان الوحيد الذي يمكنه دخول غرفة نوم الرئيس بالطابق الثاني في بيت منشية البكري، وكان عبدالناصر يقول دائماً «إنه الوحيد الذي يفهمني بسرعة».

واقترب من السادات، ساعده في الوصول إلى السلطة وحسم الصراع عليها، قبل أن تفترق الطرق ويجد نفسه في بداية الثمانينيات داخل زنزانة معتقل ضمت نحو ألف وخمسمئة شخصية معارضة من جميع أطياف السياسة المصرية.

لماذا اقترب من عبدالناصر إلى درجة التماهي؟ ولماذا ابتعد عن «السادات» إلى درجة الصدام؟ سؤالان في التاريخ، إجابتهما في السياسات والتوجهات والخيارات الرئيسية.

لمرة نادرة، ألمح في حوار صحافي إلى أسباب إلحاحه في معارضة السادات: «هو ظني بأنني قمت بدور أساسي في مجيء السادات رئيساً بعد رحيل عبدالناصر، وبدور كذلك في تأييده بظروف أحاطت بمصر أيامها» ــ قاصداً أحداث ١٥ مايو التي تردد أنه مهندسها.

مع البطل أحمد عبدالعزيز قائد الفدائيين في حرب ١٩٤٨

اختلف ــ أولاً ــ على الإدارة السياسية لحرب أكتوبر. واختلف ــ ثانياً ــ على التوجهات الاجتماعية الجديدة. وقد كانت هناك صلة عند الجذور بين السلام مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرى بها.

«حاول السادات أن ينشئ طبقة جديدة تساند فكرة السلام»… «كان سؤال هنري كيسنجر: أين الطبقة الاجتماعية التي يمكن أن تسند أي تحول استراتيجي؟»… «وقد أسفر الانقلاب الاجتماعي عن خلق طبقة أكثر تديناً وأقل أخلاقاً»… «في سنة ١٩٧٥ كنت أمام وضع اجتماعي يتغير دون أن يقول لنا أحد من أين جاءت القطط السمان، ولا كيف حصلت على ثرواتها؟».

كان ذلك هو المشروع النقيض لما دعا إليه عبدالناصر، وشارك هو في صناعة حلمه.

في الجانب الآخر من تجربة يوليو التزامات لم يتخلّ عنها تحت أي ظرف تجاه ما يعتقده من أفكار، فالوفاء للأفكار قبل الرجال.

على الجانب الأيمن من غرفة مكتبه تمثال صغير، ربما لنحات يوغوسلافي، نصف الوجه لعبدالناصر والنصف الآخر لهيكل، كأنهما واحد.

شيء من ذلك التصور الفني هو صلب رؤيته لدوره في تجربة يوليو.

هو ابن الحرب العالمية الثانية، التي كانت الخلفية والصورة العامة، نشأ فيها جيله وبدأ حياته العملية، وكان أبرز أبناء هذا الجيل رجل ولد قبله بخمس سنوات في عام ١٩١٨.

ظلت في مخيلته حتى لحظاته الأخيرة قصة ذلك المساء من عام ١٩٥٢، قبل ثورة يوليو بأيام، عندما زاره البكباشي جمال عبدالناصر، ومعه الصاغ عبدالحكيم عامر بالمنزل الذي كان يقطنه بشارع شجرة الدر في حي الزمالك.

أرسل ساعيه الخاص عبدالرسول لشراء عشاء خفيف للضيفين عبارة عن علب من «السيمون فيميه».

«قال عبدالناصر: أنت طلعت ارستقراطي؟».

«أجبته: أبدا أنا من أسرة بسيطة، وما صنعته من مستوى حياة بعملي وحده».

«كان عبدالناصر زاهداً في متع الحياة، لا يأكل وهو رئيس ما لم يكن يأكله وهو ضابط، ولا يلبس ما لم يلبسه من قبل السلطة، عازفاً عن مغريات النساء والمال».

«السادات اقترح ذات مرة على عبدالناصر أن يجرب طباخاً آخر يعرف في فنون الطهي الحديثة، بعد يومين أو ثلاثة أعاد الطباخ، فلم يكن يأكل سوى الأرز والخضار، كأي مواطن عادي».

عندما توفي عبدالرسول بكاه من القلب.

بدا مكتبه كمأتم صامت، لفتني بعض العاملين قبل أن أدخل إليه أنه في حالة صعبة لم يروه عليها من قبل.

رأيت في عينيه بقايا دموع، لم يحاول أن يكتم مشاعره كما تعوّد، عبدالرسول قضية أخرى، فهو ظله المرافق منذ بواكير الشباب.

(٣)

تجربة عبدالناصر عنده لم تكن «دروشة» في الماضي بقدر ما كانت إلهاماً للمستقبل، فكل ما له قيمة يبقى، وأي أخطاء شابتها لا تسحب منها جدارتها (…).

«عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية في التاريخ المصري الحديث».

كان يرى أن «هناك ناصريين ولا توجد ناصرية».

ربما أراد نفي الصفة الأيديولوجية، التي ترتبط بالضرورة مع مثل تلك الانتماءات، خشية الجمود بعدوى الصور النمطية، وربما أراد أن يؤكد اتساع رؤيته لمجمل الحركة السياسية العامة، دون انحياز إلى فريق أو آخر، غير أن أحداً لم يقتنع بالعمق، فهو شريك بالتجربة والكاتب الرئيسي لوثائقها.

«لم أصدق يوماً أن هيكل ليس ناصرياً، باعتقاد أن ما يكتبه من رؤى وأفكار تنتسب بصورة مباشرة لمشروع جمال عبدالناصر، الذي هو ــ كما يرى ــ المشروع القومي المتجدد.

قال هيكل: أنا ناصري بهذا المعنى وحده.

قلت له على الفور: وأنا ناصري بهذا المعنى وحده».

نشر ذلك في كانون الثاني/يناير ٢٠٠٤.

كانت قضيته المشروع باتساع حركة فعله، لا الأيديولوجيا بانغلاقها على مقولاتها.

لم يكن معنياً بالتصنيف الأيديولوجي بقدر ما كان متنبهاً إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئاً له قيمة أو فكرة لها أثر.

سألته: «كيف تصنف نفسك فكرياً وسياسياً؟».

أجاب: «يسار وسط».

قلت: «لماذا يعتقد كثيرون أنك أقرب إلى اليمين؟».

قال: «إنهم يظنون أن تجربتي في أخبار اليوم أثرت على تكويني الفكري والسياسي».

«كيف أكون يمينيا وأناً من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطني وبيان ٣٠ مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التي أعلن فيها عبدالناصر التأميمات».

«أنت تعرف أنني لا أكتب شيئاً لا أقتنع به».

«ثم لا تنس أنني أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة ودولة المخابرات لإدانة أسلوب في الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها».

«ثم إن انتمائي العروبي هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران وصدمة النكبة».

ما أن بدأت علاقته تتوطد مع جمال عبدالناصر حتى فرض على نفسه، وعلى حياته العامة والخاصة ستاراً كثيفاً من الصمت والكتمان.

قال لي: «ما كان يجري بيني وبين الرئيس ملكه وحده، وما يصل إليه من قرارات بعد حوارات معي ومع غيري، ملكه وحده، يعلنها في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يراها مناسبة، لا أنقل عنه ولا أسمح لأحد بأن ينقل عني».

سألته: «ما تفسيرك أن بعض الذين عاصروا حقبة الستينيات قالوا لي إن ما أنشره عنك من قصص سياسية تشوبها روح إنسانية ظاهرة تختلف مع صورتك التي يعرفونها؟».

قال: «عندهم حق… فقد كنت أعمل وأحيا من خلف ستائر كثيفة».

في فيض ذكرياته عن عبدالناصر واستهداف مشروعه ظل السؤال يلح عليه: هل وصلوا إليه بالسم؟

ولم تكن هناك إجابة حاسمة .

التعليقات (0)