- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
طه الشريف يكتب: الولاية والكرامة بين دراويش الصوفية وأهل غزة الأبية
طه الشريف يكتب: الولاية والكرامة بين دراويش الصوفية وأهل غزة الأبية
- 11 ديسمبر 2023, 2:23:00 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
خص الله عزوجل صِنفٌ من عباده بين بقية الخلائق بالولاية والكرامة لأعمال ظاهرة قامت بها جوارحهم غير مستترين بها عن أعين الناس -إلا ما توجب ستره- ، وأعمال باطنة وقِرَت في قلوبهم وصدقّتها أعمالهم، ولقد تحققت الكرامة لنفر من صحابة النبي صلى الله عليه وأئمة التابعين ومن تبعهم رضوان الله عليهم أجمعين ، وقد حظوا بما أكرمهم الله به من مُقام الولاية، وهُم في نظرالناس -بمقايسهم الفاسدة- الأقل شأننا وحظاً في الحياة الدنيا لكنهم كانوا أكثر حظوة بربهم.
ومن أدبيات الصوفية فى معنى الكرامة أنها صِلة خفية بين الدرويش وبين ربه لا تتعلق بمعايير الطاعة والعبادة ولا ترتبط بالأعمال الظاهرة من صيام وصلاة وحج وجهاد، بل هو شىء غير معلوم المعالم! يُمنح لفئة من الناس تدور في دائرة المحبين لآل البيت والسالكين دربهم بحسب معايير منظِّريهم، لا بحسب المعيار الذي وضعه نبي الإسلام والذي إكتسب آل البيت أنفسهم الشرف بإنتسابهم إليه وتبعيتهم له!، وحينما رد رسول الله على الرجل الذي سأله مرافقته في الجنة فأجابه قائلا: أعنِّي على نفسك بكثرة السجود!، فلم يطالبه بإعلان الحب والولاء لآل بيته أو لعترته صلى الله عليه وسلم أو الإنخراط في وصلات الذكر "الرقص!" أو حضور الموالد التي تقيمها الطرق الصوفية، ولقد جاءت إشارة الحبيب صلى الله عليه وسلم للرجل الذي طلب مرافقته بكثرة السجود، ودلالته هو الإكثار من الطاعات والقربات وفي مقدمتها الصلاة، وكثرة السجود بين يدي الله عزوجل لا يحدث إلا في الصلاة، فمن أين جاء منظِّروا الصوفية بتلك المعايير التي لا تستقيم عقلا ولا نقلا؟!
ولا ريب أن أعلى مراتب التعلق بالله والزهد في الدنيا متحققة في المجاهدين بأنفسهم والمرابطين على خطوط النار المستهينين بأرواحهم -أغلى ما يملكون- دون الإلتفات إلى تلبيس مُدَّعي السلفية ممن يعظّمون أعمال القيام والصيام -وهي عظيمة- لجعْلها في مرتبةٍ أعلى من مراتب الجهاد في سبيل الله!، ويستدعون الأحاديث التي قيلت بصيغ المبالغة لتبرير القعود عن نصرة المظلومين ورد المعتدين على حرمات المسلمين، وغرضهم في ذلك هو تبريد الأجواء الساخنة التي تحياها الأمة بسب التخاذل المشين عن نصرة اخواننا في الإسلام والعروبة والجوار"قطاع غزة"، وحتى تلك الأحاديث التي قيلت لبيان الأجر المنتظر للطاعات على اختلافها فقد قيلت في عصر النبوة والخلفاء والسلاطين من عصور العزة والكرامة حيث كانت تُجيّش الجيوش في أيامهم استجابة لإستغاثة إمرأة واحدة!-وليست في أيامنا هذه- التي أُبيد فيها الملايين من المسلمين في البوسنة وكوسوفا وكشمير وبورما وانتهاءاً بأهلنا في غزة ممن يواجهون وحدهم حقد الجيوش الصليبية مجتمعة تحت بيرق "إسرائيل" ولا مغيث لهم!
إن أبسط ما يمكن قوله عن الولاية براءتها من المُخذّلين ولو بشطر كلمة، وإن قضوا أعمارهم بين الحِجْر والمقام في الحرم !، فلا ولاية ولا كرامة لمتخلف عن نصرة المستضعفين في غزة كائنا من كان عمله أو اسمه، والله وحده قد تكفل برد الأذى ورفع الحزن عن أفئدة المجاهدين "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"الآية.
الولاية شرفٌ لا يتحقق إلا لأولئك القابضين على الجمر، المترفعين عن الدنيا، الراضين عن ربهم رغم مُصابهم الكبير بعدما هدم المجرمون بيوتهم ، وشرّدوا عوائلهم ، وأسالوا دمائهم ، ومع ذلك كله لا تسمع إلا الحمد لربهم ، والشكر لخالقهم، وإن اللسان لينعقد من الذهول حين تنقل شاشات التلفاز تلك الحالة الرائعة لإحدى الأمهات الكريمات ممن وقفت تجهر بكلمات الرضا والتسليم مُعبِرة عن فرحتها لشرف استشهاد أولادها! حقا والله لقد بعث الله صحابة نبيه ليسكنوا قطاع غزة!
إن لم يكن هؤلاء السادة من الرجال والنساء والصبيان من أهل الولاية والكرامة فمن يكون؟! وهم يضربون أعظم الأمثال في الثبات على دينهم، والرضا عن ربهم ، والثقة في موعود خالقهم، بالله عليكم من يستحقها في زمن الشهوات والملذات وعصر الإنفلات والإلحاد غير هؤلاء الكرام ممن باعوا أرواحهم رخيصة لمولاهم بكافة شرائحهم وأعمارهم وأنواعهم رجالا ونساءاً، شيوخاً وأطفالا ؟!
شعبٌ تحاصره الألة العسكرية الغاشمة للصهاينة المجرمين طوال سبعة عشر عاماً فيُحرمونهم من أبسط ما تتأفف منه غالبية الشعوب العربية ممن يرتعون حتى ذقونهم في الرفاهية والبذخ، ومع كل ذلك التقشف والتضييق الذي ضربه الصهاينة عليهم طوال تلك الفترة ممن لا يتحملها بشر نراهم يفاجأون العالم كله بهذا الأداء!..المبهر في القتال، المذهل في التخطيط، المُعجز في التنفيذ، وهم متضامنون في الشدائد، متعاونون في المصائب، كبارٌ في المنزلة ،عِظامٌ في المكانة، أصحاب نفوس أبية وأرواح زكية وهمم علية، أما غيرهم من المُخذّلين فوحدهم أقزام لا قامة لهم.
لقد رأينا في واقعنا المعاصر ومنذ سبيعينات القرن الماضي كيف تحققت الكرامات وسطّرها المؤرخون على أيدي المجاهدين من أفغانستان، الشيشان، والبوسنة والهرسك، ومسلمي إفريقيا الوسطي ومالي..إلخ، وكل هؤلاء وغيرهم قد أبلوا بلاءاً حسناً وسطروا ملاحم عظيمة في بذل النفوس والمُهَجِ وفي الصبر على مواجهة أعتى القوى الصليبية(سرايفو) والماركسية(الشيشان) والوثنية(الهند)، وقد كانوا محل اعجاب حتى من أعدائهم، وظهرت كراماتهم في تلك المعارك الشرسة في ظل اختلال موازين القوى لمصلحة أعداءهم، لكننا لم نرى أمةً تحاصر عقدين كاملين من الزمان مع الحرمان من كل مقومات الحياة في زمن الرفاهية والمتع والملذات والشاشات ثلاثية الأبعاد والذكاء الإصطناعي وغيره، وهم يعيشون على الخبز والماء وبعض التمرات ليقاتلوا أعتى الجيوش النظامية ثم يمرغون أنوفهم في تراب "غزة" الأبية ويرددون قوله تعالى "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".. صدق الله العظيم.