في العمق.. الجزء الثاني

(١)

تناولنا في الجزء الأول من الموضوع وأصل الحكايه إجمالاً بإلقاء الضوء على مطامع القوى الإستعماريه بالبلدان المستهدفه والمستباحه لديهم ولا سيما منطقتنا العربيه وشرقها الأوسط على وجه الخصوص، وتطور فكر المستعمر القديم المؤقت (المقيم بآلياته وجيوشه وأنظمته الحاكمه) بعد رحيله.. إلى مستعمر دائم (متسلط متحكم من خلال الهيمنه على المؤسسات الدوليه وتحالفات المصالح الإقليميه "السياسيه والعسكريه" وكذلك أدواته المتنوعه في التحكم من الداخل في أحوال معظم تلك البلدان أو كلها وسياساتها الخارجيه والمحليه.. الإقتصاديه والإجتماعيه وسائر المقومات الأخرى التي تحقق دوماً بالنهايه أهدافه وأهداف حلفائه على إختلاف انتماءاتهم).

(2)

عموماً وجدير بالذكر أيضاً أن تطور آخر جديد قد طرأ على فكر القوى الإستعماريه الرئيسيه يتمثل في الرغبه لإخضاع مقدرات العالم كله تحت لواءها وإدارتها المركزيه بتحالف متصاعد بين العناصر التاريخيه الإستعماريه للعالم القديم ممثله ببريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص مع الولايات المتحده الأمريكيه والصهيونيه الماسونيه بدعم ثرواتها ونفوذها ومخططاتها وخاصةً في ظل ثوره تكنولوچيه ومعلوماتيه وإعلاميه تتملك وتتمكن من أغلب أدواتها عالمياً.. وبالطبع من دون تجاهل للدور الروسي المؤثر بالمعادله.. 

وكل ذلك نتيجه لكثير من المتغيرات السياسيه بالعالم الجديد والتي ساهمت سلباً أو إيجاباً في تغير عناصر المعادلات السياسيه وغير السياسيه والتي ربما فرضت واقعاً جديداً.. ويعتبر من أهم تلك المتغيرات:

= تفكيك الإتحاد السوڨيتي وتراجع الشيوعيه في شرق أوروبا والعالم مع التسليم بقدره وقوه ونفوذ غير قليل لازال لروسيا الإتحاديه وريثها الطبيعي.

= تغير الفلسفه السياسيه والإقتصاديه والسياسيه في بعض بلدان أوروبا ولاسيما بلدان الإستعمار القديم مثل إيطاليا بتراجع بعض نفوذها النوعي وقدراتها السياسيه والعسكريه نسبياً - وألمانيا بعد هدم سور برلين ووحدة شطريها شرقاً وغرباً ونهضتها الإقتصاديه مع إلتزامها بمزيد من الديمقراطيه والشفافيه والموضوعيه تجاه القضايا الداخليه والعالميه.

= ظهور قوى جديده ومٌعتبره سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً مثل الصين واليابان ودول شرق آسيا الصناعيه وإيران وكوريا الشماليه وباكستان وشبه القارة الهنديه.

= زيادة الأهميه النسبيه الإقتصاديه لبلدان الخليج العربي مع مطلع النصف الثاني من القرن الـعشرين نتيجة تصاعد ثرواتها الطبيعيه والبتروليه والإقتصاديه ونشاطاتها التجاريه في ظل أنظمة حكم أقرب للإمبراطوريه لا تتردد في إتباع ودفع ثمن كل ما يحفظ ويؤمِّن لها الملك والثروه والسلطان أياً ما كان.

 (3)

عندما تطلعت القوى الإستعماريه لوضع برنامجها ومخططاتها للسيطره على وطننا العربي كانت أمام عدة تحديات نتيجة لأدراكها بأن ذلك لن يمر إلا بعد تجاوز محطات مهمه:

أولاً.. مناهضة أية مـشروعات تنمويه أو قوميه من شأنها إرساء سيادة الأمم أو إستقلال قرارها أو بناء ما يمكنها من دعم كياناتها ذاتياً مثل تأميم قناة السويس وبناء السد العالي ودعم وإقامة البحث العلمي والصحه والتعليم والمعرفه ونـشر وتنمية الثقافه والوعي والإنتاج والتصنيع الوطني والحربي والإكتفاء الذاتي، مع حرمان الأمم من الكفاءات والخبرات الفنيه والعمليه والبحثيه بكل الطرق مع تزكية والإبقاء على حالة الفقر والتدني الإجتماعي والصحي شعبياً وحالة الإحتياج والتبعيه على مستوى كيان الدوله. 

ثانياً.. القضاء على أية مـشروعات أو أفكار وحدويه مثل مـشروع القوميه العربيه أو مايشبهها ومحاولة نسفه وإفشالها من الأساس بل العبث وتخريب العلاقات وبث الفرقه بين الأمم العربيه كلما كان خياراً ممكناً ومتاحاً عبر كل المؤديات والوسائل.

ثالثــــــــــاً.. العمل على إنهاك الجيوش العربيه الكبرى بزرع الفتن وإقحامها في حروب ونزاعات مستمره ما يستنزف معه الدم والجهد والمال والسلاح أو بالعمل عبر العديد من السبل على تغيير عقيدتها العسكريه والقتاليه والوطنيه وبث فكر السلام الزائف والمصالح الشخصيه والمال.

رابــــعاً.. العمل على إستنزاف ثروات الأمم ومقدراتها وإغراقها بالقروض والديون عبر آليات دقيقه وسياسات ممنهجه من الخارج ومن خلال محاولة التحكم غير المباشر في مسارات الاقتصاد والسياسات الخارجيه والداخليه والديمقراطيه والحقوق والحريات ومؤسسات الدول وسلطاتها وإعلامها ونظم الحكم فيها.

خامساً.. تقسيم الوطن العربي من حيث السياسات الملائمه للتعامل معه لثلاثة مناطق جغرافياً وما يترتب عليه من إختلاف الواقع الثقافي ونمط الحياة الإجتماعي والاقتصادي والرؤى السياسيه والجيوش والأولويات والمصالح للشعوب أو الحكام.. 

- منطقة دول الخليج العربي.. بلاد المال والملك والسلطان.

- منطقة دول المغرب العربي.. بعيداً عن الصراعات المباشره. 

- منطقة دول الـشرق الأوسط ومحيطها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.. هي منطقة الـصراعات وقلب الأمه.. وفلسطين بالقلب منها.. هي منطقة الجيوش العربيه التاريخيه الكبرى تتقدمها مصر وسوريا والعراق.. لذلك كانت تلك المنطقه هي أولى بإهتمام قوى الإستعمار وكانت ولازالت تلك البلاد وحكامها وجيوشها هدفهم منذ الأزل.. وهي سعيهم المستمر لتطبيق كل مناهجهم وسياساتهم الدنيئة وأفكارهم الخبيثه للإيقاع بالأمه ونــشر جواسيسهم وعملائهم فيها من خارجها وداخلها وعلى كل المستويات بل وإختراق أغلب المؤسسات والسلطات ونظم الحكم ربما وعلى نطاق الثلاثة مناطق العربيه كذلك..

(4) 

قصة " إيلي كوهين    אלי כהן" وأفكار حتماً لم تغادر قوى الإستعمار وحلفائها إلى اليوم

(26 ديسمبر 1924 - 18 مايو 1965)

ولد إيلي كوهين بمدينة الإسكندريه لعائله يهوديه هاجرت من حلب السوريه لمصـر في 1924 لم يكمل تعليمه بهندسة جامعة فؤاد الأول (القاهره)، أجاد العبريه والعربيه والفرنسيه بطلاقه وإنضم لمنظمة الشباب اليهودي الصهيوني بالإسكندريه 1944 للدعوه لهجرة اليهود العرب لفلسطين.

عمل كعضو ناشط بالمنظمه الصهيونيه تحت قيادة أكبر عملاء الموساد في مصر هو إبرهام دار أو"چون دارلنج" وتم القبض عليه في 1954 ضمن المتورطين اليهود في أعمال تفجير المنشآت بمصر إلا أنه لم يتم إدانته وأفرج عنه، هاجر إلى إسرائيل عام 1957 وتزوج من "ناديه" يهوديه من أصل عراقي في 1959.

تولى الموساد تدريبه وتعلم القرآن والتعاليم الإسلاميه واللهجه السوريه وتاريخها وكبار شخصياتها ومسئوليها والكتابه بالحبر السري وأستخدام أجهزة الإتصال اللاسلكيه بعد ترتيب "قصة حياه مختلقه يبدو بها سورياً مسلماً يحمل اسم كامل أمين ثابت وسبق هجرته مع عائلته من سوريا لمصر ثم للأرچنتين وأنه عمل بالتجاره هناك بعد ما رحل والديه"

وبالفعل غادر إسرائيل لزيورخ ثم للأرچنتين في 3 فبراير 1961 بعد ترتيبات مناسبه من الموساد، وبعد أن تعلم الإسبانيه في وقت قصير بقي بالأرچنتين في حدود عام بني وجوده كرجل أعمال سوري ناجح واكتسب وضعا متميزاً لدي الجالية العربيه في الأرجنتين، باعتباره رجلاً وطنياً شديد الحماس لبلده سوريا وبعد أن تحول لشخصيه مرموقه أصبح الدبلوماسيون السوريون بالأرچنتين على رأس ضيوفه، ولم يكن يخفي لهم رغبته في العوده لدمشق و بالفعل في يناير 1962 دخل سوريا حاملاً معه آلات التجسس الدقيقه للتجسس، و موشحاً بتوصيات رسميه لأكبر عدد من الشخصيات الهامه بسوريا، مع الإشادة بوطنيته اللافته والتي تستحق أن يكون محل ترحيب واهتمام من كبار المسئولين في سوريا.

تقرب كامل أمين ثابت من كبار مسئولي حزب البعث السوري وكل القيادات العسكريه العليا والقيادات الحاكمه بل وأصبح أيقونه وطنيه تستحق الزعامه عند أغلب السوريين.

وفي الوقت الذي كان يمارس فيه عمله بجداره وإمتياز كجاسوس أصبح قاب قوسين لتولي موقع عليا بل وذهب الكثيرون لدعوته بتولي موقع قيادة الدوله.

وفجأه ومن دون إعلان عن أية تفاصيل حتى اليوم تم فضح أمره بعد أن قام جهاز مكافحة التجسس السوريه بمهاجمة منزله والعثور على كل الدلائل التي تؤيد القبض عليه من أجهزه ووثائق وأيضاً قنابل يدوية مخزنه لديه.

.. بعد التحقيق والإجراءات وإعترافه الكامل بتفاصيل القصه تم الحكم عليه بالإعدام شنقاً وتم تنفيذ الحكم علناً بساحة المرجه بدمشق في 18 مايو 1965.

وتحكي الروايه المصريه لأجهزة المخابرات وهي أقرب للصحه أن إفتضاح أمر إيلي أو كامل أمين ثابت يرجع لعميل المخابرات المصريه رفعت الجمال "رأفت الهجان" والذي أبلغ بشكوكه بالرجل لقياداته بالمخابرات المصريه والتي أبلغت الرئيس جمال عبد الناصر بالأمر حين رأى صوره بالصحف مع القيادات السوريه ضمن فعالياتها وأنشطتها في حين كان يعرفه من خلال صوره وسيرته كيهودي صهيوني مع معارف مشتركين..

الأمر الذي إستوجب الإتصال بالقيادات العليا والسلطات السوريه المختصه وإتباع التحريات الدقيقه والمتابعه والمراقبه حتى تم التأكد من صحة تلك الشكوك والقبض عليه.

 (5)

ربما قد يبدو الأمر للبعض يشبه الـسرد التاريخي أحياناً.. وهذا غير صحيح على الإطلاق لأن الأمر جد مهم والربط بين عناصره من فكر وتخطيط وتنفيذ تلك القوى بين الماضي والحاضر مع متابعة وفحص المتغيرات هو في غاية الأهميه لتكوين رؤية متكامله لكل من يهمه الأمر سواء من منظور وضوح الصوره للجميع أو بناء مناهج التعامل مع الواقع لأولئك الأحرار المتجردون الساعون دوماً لتحقيق الغايات الوطنيه والإنسانيه النبيله والإعتصام برايات العزه والكرامه لمستقبل كريم للشعوب والأوطان.

وللحديث بقية مع الجزء الثالث والأخير من الموضوع والذي سنستعرض فيه

- إلقاء الضوء على بعض الأحداث المهمه بالمنطقه العربيه مؤخراً وذات الصله بالموضوع.

- إلقاء الضوء على نضال الشعوب الواجب للتعامل مع قضايانا المصيريه الراهنه والمرتبطه بالأمر.

- طرح مجموعه من الرؤى المتعلقه بدور النخبه العربيه من أحرار المثقفين وأصحاب الرأي والمبدعين والعلماء في سبيل تحرير الأوطان من عبث الواقع.