- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
سامح المحاريق يكتب: أزمة السودان.. نموذجاً للعنة الدولة المركزية
سامح المحاريق يكتب: أزمة السودان.. نموذجاً للعنة الدولة المركزية
- 9 يونيو 2023, 2:51:50 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تنبني الدولة في الغرب من أسفل إلى أعلى، القرية الألمانية على سبيل المثال، تدير مصرفها المحلي بصورة تعاونية، وتصنع مؤسساتها الخاصة، وهذه المؤسسات تتكامل مع الأدوار التي تقدمها الدولة المركزية، وللأسف فهذه ليست الحال في معظم الدول العربية، حيث تستولي العاصمة على جميع الأدوار لأنها وريثة المدينة الإدارية الاستعمارية، التي يعتاد الموظفون الممثلون للقوى المستعمرة على العيش فيها، والعاصمة في هذه الحالة، ومعها بعض المدن الحيوية جغرافياً، تقوم بأدوار مناطق التجميع للثروات التي تتشكل في الأقاليم، وابن العاصمة، هو الابن المعترف به للسلطة، حيث يشرف على عملية التراكم التي تحدث لمصلحة الدولة المركزية، التي لم تشكل مخيلة تصلح للتنمية من الأساس، فهي تنظر إلى الدولة بشكل عام بوصفها وعاء للموارد ومنتجاً للثورة، قبل أن تكون وسيلة لتنظيم سبل العيش للمواطنين.
في فوضى تحديد الفضاءات الجغرافية للدول العربية، نشأت فوضى سكانية أدت إلى إجهاض فكرة تأسيس شعوب تتغذى من المواطنة
يقدم السودان صورة الدولة المركزية التي وقعت في فخاخ الرؤية الاستعمارية، وورثتها لتعيد إنتاجها ضمن أوهام فكرة الشعب السوداني القائم هو بحد ذاته، على فكرة عامة حول استنساخ المواطن في العاصمة، فالشعب لا يعني جموع المواطنين، ولكنه محصلة مواطن متخيل تجري صياغته بوصفه نمطاً عمومياً وشاملاً، وتعمل الكتب الدراسية والمناهج على تعزيز وجوده في المخيلة الجمعية، ولرفض فكرة التنوع والتعدد يصبح الفرد في هذه الدولة في عداء مع فكرة التفرد والخصوصية للآخرين ممن يفترض أنهم شركاؤه في الوطن.
يتلقى ابني على حافة المراهقة تكليفاً مدرسياً بالحديث عن انفصال جنوب السودان، ومع المناقشة والخلاف على أرضية تفاصيل كثيرة، وجدنا أن فرضية الأرض العربية لوصف أرض جنوب السودان تحتاج إلى كثير من التفحص، فهذه الأرض الواسعة والثرية، التي حرمت من تنمية حقيقية أو مقبولة، هي أرض لشعوب تستوطنها منذ أزمنة قديمة، وتمتلك لغتها وثقافتها الخاصة، وبعض المميزات المظهرية مثل طول القامة الفارع، ومع ذلك، لم يكن أمامنا سوى الاعتراف بأن هذه الأرض سودانية فشلت الدولة في الخرطوم في المحافظة عليها، لأنها فشلت في بناء المخيلة الجمعية لما يمكن أن يعنيه السودان، فالسودان هو ميراث استعماري، شأن الدول العربية الأخرى، أخذ يتشكل في حدود الزخم العسكري واللوجيستي للجيوش المستعمرة، وهي التي قامت بالامتداد من أم درمان والخرطوم، تحاول خلق هوية مطاطة تتسع للشعوب الأخرى المجاورة، ولأن عملية الشد كانت سريعة وواسعة، فقدت المرونة وأصبحت مجرد غطاء تكنس تحته الكثير من الأزمات. فشلت الدول العربية في ظل انشغالها بالمحافظة على الميراث القائم في حقبة التحرر الوطني من بناء تصورات للشعب تقوم على التعدد واحترام الخصوصية، وكان ما يحدث في السودان يمثل مشكلة عميقة نظراً للتنوع الكبير الذي تأسس على أرضية الأرض الواسعة، وأصبحت فكرة السيطرة هي القائمة قبل فكرة استثمار هذه المقومات الكبرى، ليسيطر الخوف والحذر والتهافت على ملكية الموارد، بما يجعلها غير قابلة لتوضع في خدمة مشروع وطني. في عمق مخاوف الدولة العربية الموزعة بين الخارج والداخل، تكمن فكرة التمركز في العاصمة، وعدم وجود عمق حقيقي للدولة، خاصة في حالة الدولة الكبيرة جغرافياً، إلى حالة من الهشاشة، لتصبح السيطرة على العاصمة مساويةً عملياً للسيطرة على الدولة الكاملة، وخلافاً لدول يمكن أن تتجمع فيها فكرة المقاومة في الخطوط الخلفية، مثلما حدث مع الفرنسيين في المنطقة الجنوبية من بلادهم أثناء الحرب العالمية الثانية. تبدأ مرحلة البناء من الأرض، ومن شعور المواطنين بأنهم المستفيدون من الموارد، أو أن الدولة على الأقل تعمل على توزيعها بصورة عادلة، بحيث تتشابه أنماط الحياة في الحدود المقبولة، لما يعني الحياة الكريمة، وبحيث لا يحدث الانفصام بين الدولة المركزية وأقاليمها، والذي كانت نتيجته انفصال جنوب السودان، وما يحدث حالياً في الخرطوم من صراع بين الجيش السوداني، ممثل الدول التقليدية، وقوات الدعم السريع التي تحاول فرض واقع جديد، جهوي وفئوي هو الآخر، ولكنه الثمن الذي كانت تعنيه محاولة تجاوز أزمة إقليم دارفور، بالقفز على ضرورة تفهم خصوصيته ومشكلاته ورؤية سكانه وأهله للدولة ودورها، إلى عملية الإخضاع والاستعادة من غير تحديد ما هو المشروع الذي تتوجه السودان الدولة لتأسيسه والتقدم به، وما دور جميع مكونات الشعب السوداني في المشروع، وفي إخضاع دارفور وكنس مشكلتها تحت التراب تظهر قوات الدعم السريع لتنقلب على الدولة التي أنتجتها. يتجاوز متوسط مساحة الدولة الأوروبية مئتي ألف كيلومتر بقليل، مقابل قرابة 650 ألف كيلومتر في الدول العربية، وبعض الدول العربية مثل السودان، وحتى بعد انفصال الجنوب، تتجاوز مساحة بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال مجتمعة، وهذه الوفرة في الأراضي، تتطلب أكثر مما تستطيع المركزية أن توفره، خاصة أنها مركزية ورثت أوضاعاً استعمارية ولم تنشأ على أرضية تجربة تاريخية تحمل التسويات التي تؤدي إلى التجانس الهادئ، والوصول إلى شخصية وطنية معبرة عن الجميع. تظهر الأزمة المركبة في ممارسات الدولة المركزية، ونخب العواصم، لتعكس فشلاً في مفهوم الدولة وخللاً بنيوياً عميقاً، وفي فوضى تحديد الفضاءات الجغرافية للدول العربية، نشأت فوضى سكانية أدت إلى إجهاض فكرة تأسيس شعوب تتغذى من المواطنة لتصبح الدولة مشروعاً وفكرةً مكبلة بتجمعات بشرية ترى بعضها أنها مجمل الدولة، وتعتبر واجبها الأساسي التضحية من أجل الدولة، وترى غيرها في المقابل الدولة ثوباً ضيقاً يدفعهم إلى حياة تفتقد للراحة والحرية التي يتطلبها التعبير عن الذات، في الحيز المكاني والزماني، وتنتهي التجربة بانفصال مثل الجنوب، وانفصالات محتملة في جنوب اليمن وقضايا مظلومية متعددة ومقلقة، أو بدولة لا تستطيع أن تتجاوز مخيلتها وحلمها ومشروعها فكرة السيطرة من غير إنتاجية حقيقية.