- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
د.علي الحفناوي : حرب الجريدة
عندما عاد الدكتور مصطفى الحفناوى إلى مصر، وقد حمل معه آلاف المستندات التي تظهر مخالفات شركة قناة السويس، وفساد أجهزتها، وتلاعب الإدارة في الأرقام الفعلية لعوائد القناة، قرر نشر تلك المستندات على الرأي العام المصرى.. أسس لذلك مطبعة خاصة بامكانيات تسمح بنشر وتوزيع جريدة أسبوعية حملت اسم "قناة السويس". وعن تلك الجريدة، يقول د. مصطفى الحفناوى فى مذكراته:
كنت قد أصدرت العدد الأول من جريدة "قناة السويس" في أيام الوزارة الأولى للمرحوم نجيب الهلالي، واشترك في تحرير هذا العدد الأساتذة: المرحوم محمد علي علوبة باشا، والدكتور محمد صلاح الدين باشا، آخر وزير خارجية فى حكومة الوفد، الذي حرر افتتاحيته، وساهم في تحرير أعداد تالية الزعيم المغربي الأستاذ علال الفاسي رئيس حزب الاستقلال في مراكش، وكان يقـيم يومئذ بالقاهرة.
وزلزلت الشركة، وشنت ضدي حربا جنونية ولجأت فيها لأقذر الأساليب وأكثرها خسة، ذلك أن هذه الصحيفة لم تكن لديها الموارد التي تعيش عليها الصحف؛ فلا إعلانات ولا إعانات، وكان العدد الواحد يتكلف مبلغا لا يستهان به، يسدد من مالي الخاص. حاربتني الشركة العالمية لقناة السويس بحيلة خبيثة، إذ اتصل مكتب العلاقات العامة فيها، وموظفوها المصريون، ومنهم ضباط بوليس سابقا، بمتعهدي توزيع الصحف - ماهر فراج وأمثاله - وعقدوا معهم اتفاقية مفادها أن تشتري الشركة منهم نسخ عدد بالكامل، وتدفع المبلغ للمتعهد فور تسليمه الأعداد، لا لكى تحرق بمعرفة الشركة أو المتعهد، ولكن لكي ترد الأعداد مربوطة بالدوبارة كما سلمت للمتعهد، وتعاد إليَ. وكنا نبحث عن الصحيفة في أي كشك ولـدى أي بائع فلا نجدها، ويوزع من العدد عدد لا يبلغ خمسين نسخة في أحسن الظروف، والباقي "مرتجع". وبعد العدد الـرابع عجزت عن الاستمرار فامتنعت عن تسليم الأعداد للمتعهدين وألحقت بمكتبي موظفين كتابيين كانت مهمتهم نسخ عناوين قراء من الدليل العام، وأدلة التليفونات وغيرها، وإرسال الأعداد بالبريد لأكبر عدد ممكن من القراء. وكان عجبا أن كثيرين كانوا يردون الأعداد بالبريد خوفا من مطالبتهم بالاشتراك السنوي، فكنا نكتب لهم معلنين أننا لن نطالب باشتراكات، ونكتفي منهم بالتفضل بقراءة الصحيفة، والله وحده يعلم ما إذا كانوا قرءوها.
وكان لا بد أن أرد على تحرش الشركة بجريدة قناة السويس على النحو الذي ذكرته بضربة موجعة سددتها إلى قلبها في سهولة ويسر. ذلـك أني نشرت في أحد أعداد الصحيفة، وفي داخل إطار لافت للنظر بيانا مضمونه أن:
((مصطفى الحفناوي بوصفه محاميا بالنقض يعلن عن استعداده للمرافعة مجانا وبلا أتعاب في أية قضية ترفع من كائن كان ضد شركة قناة السويس)).
وفور ظهور هذا النبأ، زحفت إلى مكتبي في القاهرة جحافل عمال الشركة وأعضاء نقابات العمال في مـدن القناة الثلاث، في بورسعيد برئاسة الرجل الشجاع المرحوم عبد الحميد الألفي، وفي الإسماعيلية برئاسة محمد علي قنديل، وفي السويس، وسرعان ما تكتل من ورائي خمسة آلاف رجل كانوا يعملون في القناة في خدمة الشركة مباشرة أو تحت ستار مقاولين كانت تستعملهم الشركة ستارا للمباعدة بين العمال وبين الشركة في الحقوق، وإنكار أنها رب العمل بالنسبة لهم... وكان العمال يُتوارثون، حتى إن امرأة اسمها مدام "جاران" ورثت صفتها كمقاول توريد عمال عن زوجها المتوفى.
جاءني هؤلاء لأطالب لهم بحقوقهم طبقا لتشريعات العمل. وتخاذلت وتقاعست ومالت ضد الشركة نقابات موظفيها؛ فكان بعض أعضائها يقابلوني سرا لشكوى، ولا يظهرون ولا يقاضون الشركة.
ورفعت العديد من الدعاوى لـصالح النقابات أمام دوائر العمال، وهيئات التحكيم في منازعات العمل الملحقة بمحكمة الاستئناف العليا، وكانت تشكل دائرة من دوائر المحكمة، وبلغ عدد القضايا المنظورة ضد الشركة أكثر من أربعين قضية شغلت مكاتبها ليل نهار، وشلت حركتها، واستغرقت نشاط القسم الإداري فيها. وكان رئيسه فرنسي اسمه "مينيسيه"، وكانت مكاتب الترجمة بإدارة الشركة تشتغل إلى ساعات متأخرة من الليل في ترجمة الإعلانات والمذكرات، وكانت مكاتب أخرى تشتغل في إعداد الرسائل والبرقيات لإدارة الشركة في باريس. وقام "مينيسيه" باطلاق اسم "مكتب مكافحة الحفناوى" على هذا القسم المستجد في شركة قناة السويس.
واستعانت الشركة بنخبة من كبار المحامين حصلوا منها على عشرات الألوف من الجنيهات كأتعاب في هذه القضايا، ونذكر من هؤلاء المحاميين: المرحوم محمد علي رشدي، ومقصود بالإسكندرية، وسالجوينتي بالإسكندرية، وأيوب بالإسكتدرية، والـبير تاجر بالقاهرة. وقد طرحناهم أرضا ودوخناهم واحدا بعد الأخر. وكانت الادعاءات العمالية خطيرة وأهمها:
"المطالبة بمساواة العامل المصري بالأجنبي في الأجر وبجمـيع المزايا وبأثر رجعي منذ الـتحاق كل من العمال بخدمة الشركة".
وقد نظرت هذه القضية في دائرة برئاسة المستشار يحيى مسعود، وعضوية المستشار مهدي الديواني، وكـان الـرجلان مثلا رائعا في القوة وفي الحق، وفي الإيمان الوطني. وقد قررت المحكمة نظر النزاع في جلسة خاصة، وطلب مني الأستاذ يحيى مسعود أن أستهل مرافعتي بشرح ظروف وجود شركة قناة السويس في بلادنا، فكانت المرافعة - التي استمرت ساعات طوالاً محاضرة عن قناة السويس، ولون الشركة الاستعماري، وجرائم الشركة. وكانت القاعة تضيق بالجمهور، وفيهم بعض رجال القضاء.
وحكمت الهيئة لصالح النقابات في هذا النزاع، وطعنت الشركة في الحكم بالنقض وخسرت الدعوى، وطعنت في مجلس الدولة ورفض طعنها. وشكلت لجان في وزارة التجارة لترجمة الحكم إلى أرقام، وبين أنه بالنسبة للأثر الرجعي يرتب على الشركة التزاما بمبلغ أكثر من أربعة عشر ملـيونا من الجنيهات. وتخاذلت الشركة وتراخت وتلاعبت وتمنعت في ذلك برعاية خاصة من بعض رجال وزارة التجارة المشرفة على الشركة، ووقع التأميم قبل تنفيذ الحكم، ثم وقع العدوان الثلاثي الغاشم الـذي باء بخيبة الأمل، وجرت المفاوضات بيننا وبين مساهمي شركة قناة السويس السابقة، وحوسبت الشركة، وخصمت الحكومة تلك الملايين من التعويض الذي كان قد استحق للمساهمين، ثم تنازل العمال عن الملايين التي استحقت لهم لصالح خزانة الدولة تنازلا شفع بقانون نص على عدم الاعتداد بذلك الحكم، وهذا مع إبرام اتفاقية تعويض مساهمي الشركة المؤممة. وترافعنا في قضايا أخرى لا نستطيع أن نحصيها، وأصيبت الشركة من فرط ما أصابها قضاء بما يشبه اللوثة...
وكان العمال أشداء في منازلة شركة قناة السويس، أمناء في تنفيذ تعليماتنا، وكانوا يوزعون جريدة قناة السويس في مكاتب الشركة، وفعلوا أكثر من ذلك...