دلاوي نصر الدين يكتب: بين معركة غزّة و معركة ستالينجراد.. الدّلالات والمآل

profile
  • clock 23 أغسطس 2024, 10:57:13 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لقد شهد العصر الحديث معارك كبرى خلّدها التاريخ بسبب ضراوتها و شراستها، أو بسبب نسبة الضّحايا فيها و الخسائر النّاجمة عنها، أو لأسباب أخرى كالمدّة التي استغرقتها، أو أساليب القتال المتَّبعة فيها، أو طبيعة الأسلحة المستعملة و الاستراتيجيّات المتَّبعة...و لكنّ هذه المعارك كلّها مهما تشابهت في بعض مظاهرها، تظلّ متمتِّعة بخصوصيّتها لأنها مرتبطة بالزّمان و المكان.و لا يمكن الجزم بوجود تطابق كلّي بين معركتَين أو أكثر لأنّ كلّ معركة لها مِيسَمُها، و كلّ معركة هي نَسِيجُ وَحْدِها.

 

معركة ستالينجراد في الحرب العالميّة الثّانية

معركة ستالينجراد هي إحدى المعارك الكبرى في العصر الحديث، و هي سلسلة من المعارك الضّارية بين جيش الاتّحاد السّوفياتي،سابقًا، و قوّات الجيش الألمانيّ للسّيطرة على مدينة ستالينجراد الاستراتيجيّة الواقعة بين القوقاز،و بقيّة دول الاتّحاد السّوفياتي ،سابقًا،و يمرّ بها نهر الفُولغا، و هو أطول نهر في أوروبّا و طوله 3690 كلم.

و قد تعرّضت مدينة ستالينجراد للحصار و التّجويع، و دام القتال فيها أكثر من 6 أشهر أيْ  بين11 يوليو 1942- 2 فبراير 1943.و قد انتهت هذه المعارك بإنهاك القوات الألمانيّة، و استسلامها بعد مقتل أو جرح ما يقارب 1.130.000 جنديّ سّوفياتيّ، و حوالي 760 ألف جنديّ من الألمان و حلفائهم.و إذا أُضيف عدد الضّحايا،في الجانبَين إلى عدد المدنيّين، فإنّ العدد الإجماليّ لضحايا معركة ستالينجراد قد يقارب مليونَي ضحيّة.

أمّا المقصود بمعركة غزّة فهو هذا القتال الضّاري،بفصوله المتلاحقة، الذي يتابعه العالم على المباشر، و الجاري منذ 11 شهرًا بين الجيش الصّهيوني،من جهة، الذي عاد لاحتلال غزة من جديد، بعد انكسار منظومته الأمنيّة و العسكريّة في السّابع من أكتوبر 2023 و المقاومة الفلسطينية بأطيافها المختلفة،من جهة أخرى،  التي تتصدّى لتوغّله و وحشيّته و تقاتله.

 

بين معركتي غزّة و ستالينغراد: المظاهر و الدّلالات        

لقد سبق القول بأنّ المعارك الكبرى،في العصر الحديث، مع وجود بعض التشابه في بعض مظاهرها، تظلّ متمتِّعة بخصوصيّتها لأنّها مرتبطة بجملة من العوامل قد تقدّم بيانُها.و لكنّ التّأكيد على هذا الأمر لا يمنع من الاهتداء،عند الفحص و التّحليل، إلى بعض الملاحظات التي توشك أن تكون مظاهر مشتركة، أو وجوهًا مشتركة بين هذه المعارك.

و في الخطوط التّالية محاولة لرصد بعضٍ من هذه الوجوه المشتركة،مع الإشارة إلى دلالاتها و الملاحظات التي يمكن استنباطها، بين معركتَي مدينتَين، تعرّضتا للحصار و التّجويع و هما: معركة ستالينغراد في الاتّحاد السّوفياتي سابقًا،أثناء الحرب العالميّة الثّانية، و معركة غزّة الجارية فصولُها الآن، و التي يتابع العالم على المباشر مشاهدها و تقلّباتها.

1- الرّوح القتالية العالية التي لا تتأثّر بأعداد الضّحايا و قوافل الشّهداء: تلجأ قوّات الاحتلال،دائمًا، إلى الانتقام من المدنيّين العُزَّل و التّنكيل بهم، و قتل أكبر عدد منهم  و تدمير كلّ مرافق الحياة، و القضاء على كلّ موارد العيش للتّأثير على الرّوح القتاليّة العالية لدى القوّات المقاومة، و دفعها إلى إعادة حساباتها أو إعلان الهزيمة و الاستسلام.ففي معركة ستالينجراد تمّ حصار المدينة، و قطع كلّ إمدادات الحياة عنها فأصبح المدنيّون العزَّل نَهْبًا لثالوث الجوع و البرد، و حُمم الموت التي تقذفها المدافع و الدّبابات.و قد بلغ حجم الدّمار،في المدينة، مستوًى لا يُتصوَّر، و أصبح الموت هو الواقع و هو الحال.و قد استطاع فيلم Stalingrad ستالينجراد سنة 2001 للمخرج الفرنسيّ Jean-Jacques Annaud الذي تناول حصار الجيش الألماني النّازي لهذه المدينة-  استطاع أن يصوّر جوانب من هذا الدّمار الكبير و الخراب.

و بسبب القتال في المناطق الحَضَريّة فقد بلغ عدد الضّحايا المدنيّين،في ستالينجراد، 100.000.و رغم هذه الأعداد المرعبة للضّحايا، فإنّها لم تَكسر إرادة الجيش السّوفياتي الذي أبلى بلاءً حسنًا،في هذه المعركة، و أبْدَى مقاومة شرسة للقوّات النّازية كانت إحدى أسباب هزيمتها و انكسارها.            

أمّا في غزّة المحاصرة منذ 2007، فقد فُرض عليها حصار آخر في أكتوبر 2023، و قُطع عنها الإمدادات الضّروريّة كالماء و الغذاء، و الوقود و الكهرباء.و قد تجاوز عدد الضّحايا 40.000،حسب وزارة الصّحة في غزّة، باستثناء المصابين و المفقودين و الذين هم تحت الهدم و الحُطام.و لكنّ عدد هؤلاء الضّحايا قد يصل إلى 186.000 كما تذكر The Lancet ،المجلّة الطبّية الأسبوعيّة الدّولية المستقلّة، في عددها يوم 5 جويلية 2024.و قد  استندت المجلّة إلى تقرير نشرته،عام 2008، أمانة إعلان جنيف حول النّزاعات المسلّحة الذي يعتمد على حساب الضّحايا الذين يموتون بالاستهداف المباشر، أيْ بالشّكل العنيف، و أولئك الذين يموتون بشكل غير مباشر بسبب انهيار المرافق الحيويّة، و نقص الماء و الغذاء و الدّواء و الكهرباء...

و الذي يلفت الانتباه،في معركة غزّة، أنّه في وسط الخراب و الحُطام، و مع التّضحيات الكبرى و سيول الدّماء و أكوام الجثث و الأشلاء، فإنّ الرّوح القتاليّة العالية لدى المقاومة الفلسطينيّة،بأطيافها المختلفة، لم يُصبها أذًى و لم يَمسسها سوء،بعد 11 شهرًا من القتال، بل هي في تطوُّر و تصعيد، و تمكّن و اقتدار مع مرور الأيّام، و توالي الضّربات الهمجيّة.و لا تزال المقاومة الفلسطينيّة صامدة،رغم العدد الكبير من الضّحايا المدنيّين و رغم حجم الدّمار، تُبدي مستويات كبرى من الاستبسال، و تتمتّع بدرجات عليا من الصّمود، لم تنكسر إرادتها و لم تَلِنْ عريكتُها، متّأبِّيةً على الهزيمة و الاستسلام.

و الملاحظ،في مثل هذه المعارك، أنه كلّما ازدادت المقاومة صمودًا و استبسالاً، ازداد الانتقام من المدنيّين العُزَّل و البطش بهم و التّنكيل.و في هذه الحال يصبح الصّراع قويًّا بين إرادتَين: إرادة القوّة الباغية التي تستعجل تحقيق النّصر بالانتقام من المدنيّين، و إرادة المقاومة التي يُمْتَحَنُ صمودُها، و تحمّلُها لكلّ الخسائر و التّضحيات.

 

2- القَنص و تصيّد جنود الأعداء و قتلهم من مكان قريب: إنّ القنص هو أسلوب من أساليب القتال وظيفتُه هي إرباك العدوّ، و تحطيم معنويّاته و التّشكيك في قدراته، و دفعه إلى مراجعة حساباته.و مهمّة القنّاص ذات أهمّية كبرى في سَير المعارك، و هي ذات شقَّين: المراقبة و جمع المعلومات، ثمّ إطلاق النّار لتدمير الأهداف النّوعية و ذات الأولويّة.

و لقد كان أكبر تحدٍّ واجهه الجنود الألمان،في ستالينجراد، هو العمليّات النّوعية للقنّاص السّوفياتي فاسيلي زايتساف ( 1915–1991 ) الذي تمكّن من قتل 225 جنديًّا، و ضابطًا من الجيش الألمانيّ النّازيّ.و قد حاز لقب (بطل الاتّحاد السّوفياتي ) و هو أعلى وسام يُمنح تقديرًا للأعمال البطوليّة، و الإنجازات التي تصبّ في خدمة الدّولة و المجتمع السّوفياتي آنذاك.أمّا في غزّة فإنّ بندقيّة الغول،نسبة إلى مطوّرها الشّهيد عدنان الغول (1958–2004 )، تتولّى بكفاءة كبيرة اصطياد الجنود، و الضّباط الصّهاينة و اقتناصهم.و يبلغ طول بندقيّة الغول مترين، و هي من عيار 14.5 ملم، ويصل مداها القاتل إلى 2 كلم.و تقوم المقاومة الفلسطينيّة بتوثيق مشاهد القَنص، و تصيّد جنود الأعداء و قتلهم من مكان قريب، للتّأكيد على قدرتها على الوصول إلى العدوّ أينما كان، و معرفتها بالأرض و التّضاريس، و الإشارة إلى أنّ الجيش الإسرائيلي واقعٌ في المَصْيدة، و هو لا محالة،غير ناجٍ منها.

 

3- الجغرافيا و العوامل المناخيّة ليست في صالح المعتدي: إنّ كلّ العمليّات القتاليّة،في القديم أو الحديث، تتحكّم فيها طبيعة البيئة التي يجري فيها القتال و عناصرُها المختلفة.و بالموازاة مع وجود السّلاح الفعّال و القيادة الحازمة، و التّدريب المناسب و التّخطيط النّاجح، فإنّ الجغرافيا و العوامل الطّبيعية كالأرض و تضاريسها المختلفة، و المناخ و التّربة و الغطاء النّباتي، و الطّرق و طبيعة المراكز العمرانيّة...كلّ أولئك له تأثير حاسم في رسم فصول المعركة، و تحديد نتائجها أو التّكهن بمآلاتها.

و منذ أكثر من 2400 سنة، أشار الفيلسوف الصّيني سان تزو Sun Tzu، في كتابه ( فنّ الحرب )، إلى علاقة الحرب و نتائجها بالأرض و الجغرافيا، و العوامل الطّبيعية المختلفة إذ قال ما معناه: (...إذا تجاهل المرء الظّروف الجغرافيّة المتعلّقة بالجبال والغابات و الممرّات الخطرة، و المستنقعات فلا يمكنه قيادة الجيش...).

و في العصر الحديث تهتمّ الجغرافيا العسكريّة بهذا الأمر، إذْ إنّ موضوعها هو دراسة الأرض بواقعها الطّبيعي و البشريّ التي تجري عليها العمليّات العسكرية، لأنّها مسرح لهذه العمليّات، و هي ذات أهمّية كبرى في سَيرها، و فاعليّتها و نجاحها.

و بالعودة إلى معركة ستالينجراد، و ربط ما سبق بالموضوع، فقد كان للعوامل الطّبيعية التي لم يَعْهدها الجنود الألمان، كالبرد الشّديد و كثافة الثّلوج مضافًا إليها قلّة المؤونة و الإنهاك، دورٌ في هزيمة الجيش الألمانيّ و استسلام قياداته العسكريّة.أمّا في غزّة فقد أثبتت العمليّات القتاليّة و المشاهد الموثَّقة، أنّ صاحب الأرض الذي يقاوم المحتلّ متفوّقٌ،أبدًا، على المحتلّ المعتدي، و أنّ معرفته بالبيئة هي سَنَده في المعركة، و أنّ ارتباطه بالمحيط و اندماجه فيه قد يضاعف من قدراته القتاليّة، و يزيد من ضرباته المُوجعة للعدوّ.و توضيح هذا الأمر أنّ المقاومة الفلسطينيّة، و هي صاحبة البلد الخبيرة بطبيعة الأرض و منافذها، و العارفة بأحيائها و أزقّتها و دروبها، يحقّق مقاتلُوها بطولاتٍ كبرى في التّصدي لجنود الاحتلال الصّهيوني: ينتقلون،بسهولة و يُسر، بين المباني و الدّيار، أو في وسط الهدم و الحُطام ، يُباغتون عدوّهم من كلّ الجهات، يخرجون من الأنفاق، أو من تحت الأنقاض فيفجّرون الدّبابات من مسافة الصّفر، و يفخّخون المنازل و مداخل الأنفاق، و يضعون كمائن الموت و العبوات المتفجّرة، و يقتنصون جنود الاحتلال و هم قَابَ قَوْسَين أو أدنَى، و يفاجئون تجمّعاتهم في كل ظرف و حين، فيأتيهم الموت من حيث لم يكونوا يحتسبون.و يعتبر القتال ليلاً، و تحريك المعدّات الحربيّة ليلاً،رغم عدم امتلاك المقاومة الفلسطينيّة لنظّارات الرؤية الليليّة، دليلاً آخر على معرفة المقاومين الفلسطينيّين بالأرض و تضاريسها، و تحكّمهم في مسالكها.

 

معركة غزّة: الحال و المآل 

يُجمع المؤرّخون على أنّ هزيمة الألمان في معركة ستالينغراد، تُعدّ أحد العوامل الحاسمة في تحديد مآل الحرب العالميّة الثانية، إذْ قضت على أسطورة الجيش الألماني الذي لا يُقهر، و مهّدت الطريق أمام جيوش الحلفاء،بعد عامين، للوصول إلى برلين و دَكّ معاقل القيادات العسكريّة النّازية.   

و ما يحدث،اليوم، في غزّة شبيهٌ،في بعض مظاهره، بما حدث في معركة ستالينجراد، بعد المَصْيدة التي دخل إليها الجيش الصّهيونيّ، و بعد الخسائر المتلاحقة التي تُصيب عتاده و آلياته، و رصاص المقاومة الذي يحصد جنوده و ضبّاطه.فهل تكون غزّة مقبرة الصّهاينة،أو النّازيّين الجُدد، كما كانت ستالينجراد جحيم أسيادهم، و مُلْهميهم من النّازيّين الألمان ؟

التعليقات (0)