- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
خالد الحروب يكتب: فلسطين لم تعد «ورقة توظيف» في التنافس الإقليمي العربي
خالد الحروب يكتب: فلسطين لم تعد «ورقة توظيف» في التنافس الإقليمي العربي
- 27 مايو 2023, 4:09:25 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تعد الأنظمة العربية ترى ضرورة لاستخدام وتوظيف ورقة فلسطين في سياق مناكفاتها ضد بعضها البعض، أو خلال تنافسها مع بعضها لتزعم وقيادة العرب. لعقود طويلة، احتلت فلسطين وقضيتها رأس البرنامج «الانتخابي» لأي نظام عربي يطرح نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر لتلك الزعامة. الجميع كان يستشعر سخونة قضية العرب الأولى ولا يستطيع الالتفاف عليها، ويعلي الصوت بشأنها، حتى لو لم يفعل شيئا من أجلها. الآن اختلف الوضع، وصار بإمكان دول عربية أن تحاول ملء الفراغ القيادي في المنطقة العربية وتنافس على زعامة العرب من دون أن تكون فلسطين على رأس اهتماماتها، بل على العكس تنشغل بذلك وهي في علاقة دبلوماسية كاملة مع إسرائيل أو قد تكون في طور التطبيع الهادئ والمتدرج معها.
تاريخيا، استخدمت الأنظمة العربية ورقة فلسطين في صراعاتها ضد بعضها البعض، وتجاوزت تلك الممارسة أنظمة ما عُرف بـ «دول الطوق» وما جاورها الى الخليج والمغرب العربي. هذه سمة من سمات السياسة العربية الرسمية رافقت نشوء الدول العربية الحديثة، وجذرها يعود الى حقبة الاحتلال الاستعماري البريطاني لفلسطين واستقلال الدول العربية. ربما يمكن القول إن تنافسات مصر الملك فاروق وأردن الملك عبد الله على فلسطين، ومن ورائهما عراق فيصل وسعودية عبد العزيز، قد دشنت تلك السياسة منذ أربعينيات القرن الماضي. المهم هنا، وبعيدا عن التاريخ، أن تلك «السياسة» تكرست طيلة عقود الاحتلال الاستعماري الصهيوني، ووظفت فلسطين واجهة خطابية وادعائية تخفي الأنظمة وراءها مصالح وأهدافا وتطلعات، وكان لها أكلاف هائلة على فلسطين أولاً وعلى العلاقات العربية البينية ثانيا.
استخدمت الأنظمة العربية ورقة فلسطين في صراعاتها ضد بعضها، وتجاوزت تلك الممارسة أنظمة ما عُرف بـ «دول الطوق» وما جاورها الى الخليج والمغرب العربي
اختلطت «الحقيقة» في دعم فلسطين وتبني قضيتها مع «الادعاء التوظيفي». تجد نظاما هنا أكثر اخلاصا نسبيا في ادعاءاته وسياساته، وتجد نظاماً آخر في الآن ذاته مفضوح الادعاءات والتوجهات حول فلسطين. لكن في كل الأحوال كان هناك خلط بين مكوني «الحقيقة» و«الادعاء» وفر مساحات رمادية واسعة يشتغل، ويتخادع، فيها الجميع. أنظمة قدمت دعماً ماليا، وأخرى وفرت دعما سياسيا لفلسطين ولمنظمة التحرير، وثالثة استقبلت فلسطينيين في بلدانها وشغلتهم. وكل أولئك استخدموا أنواع الدعم (الذي ظل خجولاً ومحسوباً في كل المراحل) أمام شعوبهم و«الإقليم» للقول بأنهم يقفون مع فلسطين. ليس هذا إنكارا لأهمية ذلك الدعم فكله استفاد منها الفلسطينيون ولم يكلوا في شكرهم الأنظمة في كل مناسبة.
بيد أن الوجه الآخر لذلك الدعم كان الاستثمار السياسي من قبل تلك الأنظمة لتوكيد جوانب في شرعيتها الداخلية والإقليمية. كلما ظهر النظام داعما لفلسطين امتلك رأسمالا «وطنيا» يستثمره أمام شعبه وأمام الإقليم. فلسطين كانت خلال عقود طويلة ولأنظمة عديدة «صندوق الاستثمار السياسي» الذي تتم عبره تنمية موارد الشرعية السياسية على المستوى الداخلي والعربي والإقليمي. مرة أخرى، لا يمكن موضوعيا وعلميا حشر الجميع في سلة واحدة، والنسب والنسبية هي ربما الزاوية التي تتيح لنا التقدير الأقرب للدقة. قد تحوم حقيقة دعم هذا النظام لفلسطين مثلاً حول نسبة 70% مثلا، مقابل 30٪ ادعاء وتوظيف سياسي. وقد لا تجاوز حقيقة دعم نظام آخر لفلسطين نسبة 20% مقابل 80% ادعاء وتوظيف سياسي. في كل الحالات يختبئ النظام خلف نسبة الدعم الحقيقي، حتى لو كانت واحد في المئة ويضخم منها وأحياناً كثيرة يتجمل بها على الفلسطينيين ويقرع رؤوسهم بها. ثمة هامش عابر يستدعي حضورا مُراً هنا وهو أن جزءً كبيرا من الدعم المالي كان أصلاً يأتي من الاقتطاع الشهري من رواتب الفلسطينيين، تقريبا 5%، ويذهب الى ميزانية منظمة التحرير مباشرة، ولاحقاً حسبته الدول المُستضيفة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين العاملين فيها جزءاً من الدعم المالي المقدم من الدولة نفسها!
ضمن «صندوق الاستثمار السياسي» لفلسطين هناك سند استخدام فلسطين في التنافس على قيادة الإقليم. كانت «مؤهلات» الترشح للقيادة الإقليمية تتضمن ضرورة تبني فلسطين من قبل النظام المعين، حقيقة أو ادعاء، حربا أم سلماً، بهدف جلب التأييد الشعبي (كما في حالة مصر عبد الناصر، عراق صدام حسين، سوريا حافظ الأسد، وسعودية الملك عبدالله في «مبادرة السلام العربية» سنة 2002). دفع تموضع فلسطين على رأس الاجندة العربية الرسمية، ولو مظهريا، الى فرضها على أجندة الدول العربية حتى البعيدة جغرافيا عن فلسطين، فالمغرب مثلاً تزعمت رئاسة لجنة القدس التابعة لمنظمة دول التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا). الدول العربية المجاورة لـ «دول الطوق» مثل السودان والسعودية ودول الخليج احتضنت منظمة التحرير بالدعم المالي والإعلامي، ووضعت فلسطين في أجندة خطابها السياسي على الدوام، نسجاً على المنوال ذاته.
اتسعت عضوية «صندوق الاستثمار السياسي» لفلسطين وانضمت له دول إقليمية أخرى غير عربية، تحديداً إيران وتركيا، مُدركين أهمية المكون الفلسطيني في أي سياسة تهدف تعزيز الحضور الإقليمي والشرعية المحلية وتوسيع دائرة التأييد الشعبي وسواه. تمظهر الدعم لفلسطين، وهو خليط بين ما هو حقيقي وادعائي بنسب متفاوتة، في سياسة البلدين في أشكال عديدة خلال العقود الأربعة الماضية (بالنسبة لإيران) والعقدين الماضيين بالنسبة لتركيا، وما زال هذا التمظهر باديا وقويا حتى الآن. لكن فلسطين على الأجندة الإيرانية تغيب تماماً في مفاوضات الملف النووي الإيراني وهو الملف الأهم والأخطر الذي يشغل بال طهران وما يترتب عليه من فك حصار يحدد مستقبلها في المنطقة، وهنا لا تضع إيران شروطاً تخص فلسطين في مفاوضاتها مع أمريكا والغرب. وكذا الأمر حول الأجندة التركية، حيث تغيب فلسطين تماما في خضم العلاقات التجارية والاقتصادية الكثيفة والمتصاعدة مع إسرائيل، فلا تضع انقرة شروطاً تخص فلسطين مقابل توسيع نطاق تجارتها واقتصاداتها مع إسرائيل.
عربيا، انسحبت معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها، من «صندوق الاستثمار السياسي» لفلسطين، ربما باستثناء النظام السوري الذي تقوم شرعيته بقضها وقضيضها على الاستثمار في هذا الصندوق. لم تعد الدول العربية الكبرى ترى ضرورة حتى للادعاء بأن فلسطين تمثل شيئاً مهما لها. صار من المعروف المر تخفيض مرتبة فلسطين والاحتلال الصهيوني الى مواضع دنيا على أجندة القضايا التي تنشغل بها المنطقة. لكن مرارة أخرى تنضاف وهذا التخفيض يتم حتى في مجال «الادعاء» وذر الرماد في العيون. الآن لم تعد الأنظمة المُتنافسة على القيادة الإقليمية ترى حاجة لمجرد التظاهر بدعم فلسطين أو تبني قضيتها في سياق منافساتها تلك. والمثل الأبرز هنا هو مصر والسعودية. كلاهما تنافسان تركيا وإيران، وتنافسان بعضهما البعض، على احتلال موقع ريادة الكتلة العربية ومع ذلك لا ترى أي منهما أن «استخدام الورقة الفلسطينية» يعزز حظوظها. السعودية تقدم حالة مثيرة جدا في التقدم نحو قيادة الكتلة العربية من دون إيلاء فلسطين أهمية مركزية حقيقية، حتى من منظور المبادرة السعودية التي طرحتها للسلام خلال الانتفاضة الثانية، في قمة بيروت 2002. وتوالي التقارير والتسريبات الأمريكية والإسرائيلية حول تسريع التطبيع الإسرائيلي مع السعودية والشروط التي تضعها الأخيرة، يشير الى تجاوز مبادرة السلام التي قدمتها السعودية ذاتها.