- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
حكاية الديون فى مصر(4)
حتى نعرف كارثة الديون فى عهد السيسى فلنبدأ حكاية الديون من البداية
( ب ) الدين المحلى الإجمالى :
أما الدين العام المحلى؛ فهو وأن كان أقل تكلفة بالنسبة لتمويل عجز الموازنة العامة من مصادر محلية (أوعية ادخارية مختلفة) ، فلا يمكن لها أن تحقق أغراضها ألا بتوافر ثلاث شروط هي :
- الأول : أن يكون مصدر القرض المحلى أموالاً كانت في الأصل أموالاً مكتنزة.
- الثاني : أن تستخدم حصيلة القرض لأغراض إنتاجية ، أي في استثمارات تضيف للمجتمع ، وليس لأغراض استهلاكية ، أو نفقات جارية ، أو تغطية جانب من العجز في الموازنة العامة للدولة .
- الثالث : عدم تجاوز القروض العامة المحلية نسبة معينة تتمثل في قدرة الاقتصاد الوطني على تحمل الأعباء المترتبة عليها (قدرتها اتفاقية ماسترخت للوحدة الاقتصادية الأوروبية بما لا يزيد عن 65% من الناتج المحلى الإجمالي).
- لقد زاد الدين العام المحلى في الفترة الأولى من الانفتاح الاقتصادي (1974-1982) ، من أقل من ثلاثة مليارات جنيه عام 1973 ، إلى 15.4 مليار جنيه عام 1982 ، وواصل ارتفاعه بعد ذلك حتى بلغ 45.0 مليار جنيه في يونية عام 1989 ، وبحلول عام 1998 كانت هذه الديون قد تجاوزت 136 مليارا (بخلاف ديون الهيئات الاقتصادية وصافى الموقف في بنك الاستثمار القومي ) ، ثم بلغ عام 2002 نحو 241 مليار جنيه ، وبنهاية عام 2010 وعشية خلع الرئيس حسنى مبارك من الحكم ، كان قد تجاوز 888 مليار جنيه ، وأستمر في التزايد بعد ثورة 25 يناير عام 2011 بسبب سوء الإدارة المالية للدولة حتى تجاوز 2.3 تريليون جنيه في يناير عام 2016 (101)، ثم قاربت في يونيه 2018 حوالى 3.5 تريليون جنيه (102)، ثم زادت بحلول شهر سبتمبر عام 2019 إلى 4.4 تريليون جنيه ، وهى فى مجملها تشكل لغما خطيرا فى الهيكل المالي والاقتصادي المصري الآن.
وبمراجعة هيكل هذا الاقتراض المحلى خلال الفترة الأولى ( 1974- 1981 ) نجد أن حوالى نصف هذا الدين المحلى عبارة عن اقتراض من الجهاز المصرفي (تمويل بالعجز أو طبع بنكنوت دون رصيد ) (103) ، وهو ما أدى لتفاقم نسبة التضخم وارتفاع الأسعار في المجتمع، ثم تحول بعد ذلك إلى الاعتماد على الأوراق المالية ( أذون الخزانة وسندات الدين الحكومي ) ، وبعدها زحف على أموال أصحاب المعاشات منذ عام 2005 في ظل وزير مالية محل كثير من التساؤلات والريبة الوطنية.
وبينما كانت الدولة المصرية غارقة في ديونها المحلية والأجنبية ، كان وزير المالية ( يوسف بطرس غالى ) يسجل في مشروع موازنة عام 2005/2006 التي تقدم بها بعد تعيينه في هذا المنصب مبدأ خطيرا وضارا حينما قال ( أن من باب تحفيز وتشجيع المستثمرين هو استخدام معدلات مرتفعة للإهلاك ) (104) ، فاتحا بذلك بابا واسعا لطبقة رجال المال والأعمال ورأسمالية المحاسيب للتهرب الضريبي ، والتلاعب الضريبي ، ويزيد عليها بإقرار مبدأ (استرداد ضريبة المبيعات على الآلات والسلع الرأسمالية لتشجيع المستثمرين ) (105) .، وإذا قارنا هذا السلوك المخرب ، بما أورده وزير المالية الأسبق " د. محمود صلاح الدين " فى مشروع موازنة عام 85/1986 ، الذى قال فيه :( أن جزءا كبيرا من مشاكل مصر الاقتصادية يرجع إلى زيادة الاعتماد على الخارج (106) .
وهكذا زادت أعباء خدمة الدين المحلى حتى ابتلعت نحو 21% من استخدامات الموازنة العامة لعام 98/1999؛ وفى موازنة 2002 / 2003 ، زادت إلى 28% ، وبحلول عام 2010/2011 كانت فوائد الدين فقط تلتهم أكثر من ثلث الموازنة العامة للدولة (35% ) .وبهذا أستمرت الدائرة الشيطانية ، متمثلة في عجز متزايد ومتراكم سنويا في الموازنة العامة للدولة ، يمول من خلال الاقتراض الداخلي أو الاقتراض الخارجي ، فيزداد خدمة الدين ( الفوائد + الأقساط ) ، فتلجأ الحكومات المصرية لمزيد من الاقتراض ، دون أن يبدو في الأفق أية رغبة حقيقية في إصلاح مالي واقتصادي حقيقي ، لسبب بسيط أن لهذا الإصلاح الحقيقي تكاليفه التي تتطلب تحميل الأغنياء ورجال المال والأعمال بالعبء الجاد لهذا الإصلاح ، وفى طليعتها إصلاح النظام الضريبى .
ومن هنا أستمرت الحكومات المصرية منذ عام 1975 تتسول المساعدات من الدول العربية والحلفاء الغربيين ، وكان الثمن أن أصبحت مصر وسياساتها وقراراتها ورجالاتها مجرد أداة طيعة وتابعة لمراكز صنع القرار في هذه الدول ، بما أوصلنا إلى التنازل عن بعض أراضينا ( تيران وصنافير) في عام 2016 ، مقابل مساعدات تنقذ النظام والحكم والطبقة الحاكمة من هاوية لا قرار لها .
وزاد الأمر سوءا ، لجوء الحكومات المصرية المتعاقبة منذ عام 1974 حتى اندلاع الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، إلى الخديعة وعدم الإفصاح عن الحجم الحقيقي للدين سواء المحلى أو الأجنبي ، فبينما نشرت فرنسا حجم دينها العام في نهاية الربع الثاني من عام 2012 المقدر بحوالي 1833 مليار يورو ، بما يعادل 91% من الناتج المحلى الإجمالي للدولة الفرنسية (107) ، فأن الحكومة المصرية تلجأ لأساليب أخصائية ومحاسبية مخادعة لإظهار نسبة الدين العام بأقل من قيمته الحقيقية ، حيث تتمسك سنة بعد أخرى بأن هذا الدين لا يزيد على 90% من الناتج المحلى الإجمالي .
وتظهر البيانات الحكومية مقدار التزايد في أعباء خدمة الدين العام المحلى ( الفوائد + الإقساط ) ، التي بلغت عام 95/1996 حوالى 15.4 مليار جنيه، وقفزت إلى 285 مليار جنيه عام 2012/2013 ، ثم إلى 296.5مليار جنيه عام 2013/2014 ، ثم إلى 587.1 مليار جنيه فى مشروع موازنة عام 2017/2018، وهكذا فإن ازدياد الدين المحلى ، وما يترتب عليه من زيادة أعباء خدمة الدين ( الفوائد + الاقساط ) ، يمثل عبئا على المدى المتوسط والطويل على الموازنة العامة وعلى الاقتصاد المصري في مجموعة.
فإذا أخذنا حجم خدمة الدين العام المحلى والخارجي مجتمعين ، عبر الزمن سوف نكتشف مقدار الاندحار في السياسات المالية المصرية ، خاصة أن الجزء الأكبر من هذه الديون كانت قد ذهبت في مسارب ثلاثة ، أولها كانت للاستثمار في تأهيل البنية التحتية المصرية التي تأثرت من توقف الاستثمار فيها بعد العدوان الإسرائيلي في الخامس من يونيه عام 1967 ، وعلى فيضان هذا الانفاق الاستثماري ذهبت نسب لا يستهان بها من العمولات والرشى في قطاع المقاولين والموردين ، وهى التي راكمت أعلى معدل للثروات شهدته مصر في تاريخها حيث أغنى الفئات في البلاد هم المقاولين الكبار والتجار الكبار ، والجزء الثالث من هذه الأموال ذهبت إلى أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية كما سوف نعرض في الفصول القادمة من هذا الكتاب
ومنذ عام 96/1997 ، قفزت المبالغ المخصصة لخدمة الدين المحلى والأجنبي معا عاما بعد أخر حتى بلغت حوالى 817.3 مليار جنيه في عام 2018/2019 ، ليدق ناقوس الخطر دون أن تنتبه جماعات المصالح الضارة التي تقود الدولة المصرية سواء من الجنرالات أو رجال المال والأعمال .
وهكذا تحولت إدارة الدين العام المصري إلى كارثة اقتصادية ومالية أضافية ، خصوصا بعد أن تولى الجنرال عبد الفتاح السيسي منصب رئيس الجمهورية في يونيه عام 2014 ، فبدأ عصر جديد من الديون والإنفاق السفيه وغير المسئول ( القصور الرئاسية والعاصمة الإدارية الجديدة ) ، بما يذكرنا بمصيبة الخديوي إسماعيل والمصير البائس الذى واجهته مصر فى أواخر القرن التاسع عشر .
المقال القادم يوم الاحد