- ℃ 11 تركيا
- 26 ديسمبر 2024
حسن نافعة يكتب: قراءة سياسية لرواية علاء الأسواني عن الثورة المصري
حسن نافعة يكتب: قراءة سياسية لرواية علاء الأسواني عن الثورة المصري
- 29 أبريل 2023, 3:09:27 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قرأتُ رواية علاء الأسواني "جمهورية كأن" مرّتين. الأولى بعد أشهر قليلة من صدورها في بيروت في فبراير/ شباط عام 2018، والثانية قبل أيام. ولّدت القراءة الأولى لدي مشاعر وانطباعات مختلطة، جمعت بين الإعجاب والدهشة والحيرة وعدم الفهم، في مزيج بدا لي كافيا لدفعي نحو عدم المغامرة بالتعليق عليها آنذاك. إعجاب بجرأة الكاتب وشجاعته في وقتٍ بدت فيه معظم الأفواه مكمّمة والأقلام مكسورة والقلوب مرتعشة وواجفة، ودهشة من استخدام الكاتب أسماء أشخاص حقيقيين شاركوا في الثورة ونشطوا في الميدان، مثل المهندس يحي حسين، واستعانته بشهاداتٍ بدت منقولة حرفياً من محاضر التحقيقات أو أقوال شهود العيان، ما جعل الرواية تبدو خليطا غير متجانس بين العمل الإبداعي والجهد التوثيقي، ما شكّل، في تقديري، عبئاً مزدوجاً على كليهما دونما ضرورة فنية، وحيرة من أمر كاتبٍ شارك بنفسه في حدث تاريخي جرى في عام 2011، لكنه انتظر حتى عام 2018 ليكتب عنه رواية أرادها توثيقية لهذا الحدث. والأغرب أنه نشر فيما بين التاريخين رواية أخرى لا علاقة لها بالثورة "نادي السيارات". ولأنه سبق لعلاء الأسواني أن نشر مقالاتٍ وكتباً عديدة عرض فيها تفصيلا لوجهة نظره عن ثورة 25 يناير، بل واستعار عنوان روايته نفسها من مقال سابق له حمل عنوان "تسقط جمهورية كأن"، فقد بدا لي هذا الحرص "التوثيقي" غير مفهوم، خصوصاً أن الرواية لم تُضف جديداً لم يكن معروفاً من قبل عن وجهة نظره الشخصية في ما جرى. فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن أحداث روايته عن الثورة غطّت فترة محدودة لحدث تاريخي ظلت تفاعلاته مستمرّة حتى وقوع أحداث 30 يونيو/ حزيران و3 يوليو/ تموز (2013) على الأقل، فقد خيّل لي أن "جمهورية كأن" سيعقُبها جزء ثان على الأقل، وهو ما لم يحدُث بعد فترة طالت أكثر من خمس سنوات. لكل هذه الأسباب، فحين وقعت عليها عيناي مصادفة في أثناء بحثي عن كتاب آخر في مكتبتي، خطر لي أن قراءة ثانية لها قد تنجح في تغيير بعض ما تولد لديّ من انطباعات متعجّلة إبّان القراءة الأولى.
استطاع علاء الأسواني في روايته أن يرسم صورة أدبية مثيرة وواضحة للعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسبّبت، من وجهة نظره، في اندلاع ثورة يناير المصرية، وبما يكفي لتفسير المسار الذي سلكته وشرح الأسباب التي أدّت إلى إخفاق هذه الثورة أو إجهاضها، وذلك من خلال شخصياتٍ تشابكت وتفاعلت علاقاتها الاجتماعية والإنسانية، وتطابقت أو تضاربت مصالحها الاقتصادية والطبقية، ما دفعها إلى ممارسة سلوكٍ أفضى بها إلى الوقوف في خندق الثورة أو في صفوف الثورة المضادّة أو مع الأغلبية "الصامتة" أو "المتأرجحة" أو "الانتهازية"، فالرواية تبدأ بعرض ملامح لشخصية رئيسية، جسّدها اللواء أحمد علواني، قائد جهاز أمن الدولة، وعائلته المكونة من ولدين، يعمل أحدهما ضابطاً في الحرس الجمهوري والآخر قاضياً، وابنته دانية، الطالبة في كلية الطب. ومن خلال هذه الشخصية المحورية، التي ستتولى قيادة الثورة المضادّة، وشبكة علاقاتها العائلية والاجتماعية، راحت الرواية تفصح تدريجياً عن باقي مكونات الثورة المضادّة التي جسدتها شخصيات من أمثال: شامل، الشيخ السلفي المزواج الذي دفعته مصالحه إلى تسخير الدين في خدمة السلطة الحاكمة. والحاج شنواني، الرأسمالي المزواج أيضا والمالك قناة إعلامية ستستخدم بكثافة في تشويه الثورة وتلطيخ سمعة الثوار. ونورهان، الإعلامية الجميلة ذات الأصول المتواضعة التي ستوظّف كل مواهبها لخدمة ليس طموحاتها الطبقية فحسب، وإنما أهداف الثورة المضادّة أيضا. وبالتوازي مع هذا الخط الدرامي، راحت الرواية ترسم ملامح شخصية محورية أخرى، أشرف ويصا، الأرستقراطي القبطي الذي لا يحبّ زوجته، لكن عقيدته الدينية لا تتيح له الطلاق منها. أراد أن يكون نجماً سينمائياً، لكنه فشل بسب مظاهر الزيف والفساد المتغلغلين في أحشاء المجتمع، ما دفعه إلى الهروب من عالمه المليء بالإحباطات عبر تعاطي الحشيش والرغبة في ممارسة الجنس خارج نطاق العلاقة الزوجية الرتيبة. لذا سيحاول إقامة علاقة بخادمته إكرام، وهي فقيرة متزوجة من مدمنٍ لا يكفّ عن طلب المال، لكنها في الوقت نفسه شديدة الاعتزاز بكرامتها الشخصية، لكن هذه العلاقة، التي بدأت جنسية خالصة، سرعان ما تطوّرت إلى علاقة حب حقيقية صقلتها أحداث الثورة التي ستدفعهما معا، وبطريق المصادفة، للتعرف على شبابها والانخراط فيها بكل قوة، خصوصاً بعد أن قرّر أشرف تخصيص إحدى شقق عمارته المطلّة على ميدان التحرير لاجتماعات الثوار ومدّهم بكل احتياجاتهم المادية. أما شباب الثورة فسنتعرّف عليهم في الرواية من خلال مازن وأسماء، عضوي حركة كفاية اللذين سيرتبطان معا بعلاقة حب. وسنتعرف منهما على المسار الذي سلكته أحداث الثورة، بانتصاراتها وانتكاساتها، من خلال رسائل كانا يتبادلانها عبر البريد الإلكتروني، وأيضا من خلال خالد، ابن السائق الفقير والطالب المتفوّق في كلية الطب الذي سيقع في حبّ زميلته دانية، ابنة اللواء علواني، لكنه سيموت في ميدان التحرير برصاصة وجهها إلى جبهته عامداً متعمّداً أحد ضباط الأمن. ولأن القضاء برّأه مع زملائه الآخرين من قتلة الثوار، لم يكن أمام الوالد الفقير الذي كرّس حياته من أجل عائلته، ولم يصبح لها معنى بعد اغتيال ابنه الوحيد، سوى سحب كل مدّخراته المحدودة، واستخدامها في تأجير قتلة محترفين اغتالوا الضابط المجرم، مشهد النهاية في الرواية.
الثورة المصرية لم تبدأ بتظاهرات 25 يناير وما أعقبها من حشود في ميدان التحرير، ولم تنته بمصادمات مجلس الوزراء، وهي فترة أحداث الرواية
لا أدّعي معرفةً بأصول النقد الأدبي، فلا أجرؤ على تقديم قراءةٍ نقديةٍ من هذه الزاوية لرواية أثارت جدلاً كثيراً. ولأن مثقفين وروائيين عرباً، إلياس خوري مثلا، رأوا في "جمهورية كأن" توثيقاً لثورة يناير المصرية (راجع مقالته في موقع القنطرة بتاريخ 9/8/2018)، فمن الطبيعي أن نتوقف عند هذه المسألة المثيرة لالتباسٍ ولغطٍ كثيرَيْن. وفي تقديري أن النهج الذي اختاره الأسواني في معالجة موضوعه، وجمع فيه بين خصائص الأدب الروائي والعمل شبه التوثيقي، أحال روايته إلى شكلٍ هجين غير محدّد الملامح. لذا في وسعي أن أقول، باطمئنان كامل، إن استعانة الكاتب بشهاداتٍ حقيقيةٍ لا علاقة لها بأبطال الرواية حمّلتها عبئاً أثقل كاهلها، وأفقدها جانباً كبيراً من عناصر التشويق والإثارة. ومن ثمّ، كان من الأفضل كثيراً أن تظل الرواية محتفظة بطابعها رؤيةً فنيةً تخص صاحبها لحدث تاريخي مهم، يحتمل رؤىً أخرى متنوعة. فإذا ما نحّينا هذا البعد جانباً، وحاولنا إخضاعها لقراءة سياسية متفحّصة، خصوصاً في ضوء ما يقال عنها كـ"توثيق" لثورة يناير، فستكون لنا عليها ملاحظات عديدة، يمكن إيجاز أهمها:
الأولى: تتعلق بسردية الثورة كما تتجلى من خلال فصول الرواية، فالثورة المصرية لم تبدأ بتظاهرات 25 يناير وما أعقبها من حشود في ميدان التحرير، ولم تنته بمصادمات مجلس الوزراء، وهي فترة أحداث الرواية، وإنما مرّت مسيرتُها بمراحل أخرى كثيرة لا تقلّ خطورة، أهمها مرحلة ما بعد انتخابات الرئاسة، التي جرت عام 2012 وأسفرت عن فوز مرشّح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، وردود فعل شباب الثورة والنخب السياسية المختلفة تجاه هذا المنعطف التاريخي، وكذلك مرحلة ما بعد 30 يونيو و3 يوليو 2013، التي أفضت إلى انفراد المؤسسة العسكرية بإحكام قبضتها على مفاصل الدولة والمجتمع. فتلك المراحل تشكّل حلقات في سلسلة واحدة لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، وبالتالي لا يمكن لأي عمل روائي يدّعي أنه يحكي "قصة الثورة" سوى الحرص على تغطية مختلف مراحلها الزمنية وانعطافاتها الحادة.
كان يمكن أن تكون "جمهورية كأن" أكثر تشويقاً وإثارة ودقّة لو كانت أقلّ حجماً، وغطّت مختلف مراحل الثورة المصرية
الثانية: تتعلق بالصورة التي رسمتها الرواية لدور جماعة الإخوان، وهي صورة القوة السياسية المناهضة للثورة على طول الخط والأداة الطيّعة في أيدي أجهزة الأمن في الوقت نفسه. وتلك رؤية تعكس طابعاً أيديولوجياً يحقّ للروائي أن يتبنّاه، لكنها تجافي الحقيقة التاريخية، فالكاتب يدرك يقيناً أن الجماعة تحالفت قبل الثورة مع قوىً عديدة فجّرتها، خصوصا من خلال مشاركتها في أنشطة "الحملة ضد التوريث" و"الجمعية الوطنية للتغيير" التي شارك فيها بنفسه، لا سيما في الفترة التي قمتُ فيها شخصياً بدور المنسّق العام لكل من الحملة والجمعية. كما يدرك، في الوقت نفسه، أن الجماعة لعبت دوراً لا يمكن التقليل من شأنه في إسقاط حسني مبارك عقب مشاركة قواعدها رسمياً في التظاهرات اعتباراً من يوم 28 يناير. صحيحٌ أن الجماعة لم تشارك في تفجير الثورة، وكانت أول من ترك ميدان التحرير للتحاور مع عمر سليمان (نائب مبارك)، غير أن هذه المواقف المتقلبة، مع الثورة أو ضدها، كانت مكرسة لخدمة مشروعها السياسي الخاص، وليس بالضرورة بسبب عمالتها للنظام الحاكم، وهو ما لم تنجح الرواية في إلقاء الضوء على أبعاده الأكثر عمقاً بالأمانة الواجبة. وللمفارقة، كان لافتاً هنا أن الكاتب برّأ الجماعة تماماً من تهمة افتحام وفتح السجون وفتحها، وألصقها كلياً بأجهزة الأمن، رغم أن هذه قضية ما زال يكتنفها غموضٌ كثير، ولا تعدّ محسومة تاريخياً.
الثالثة: تتعلق بالصورة التي رسمتها الرواية لشباب الثورة من ناحية، ولجموع الشعب المصري و"أغلبيته الصامتة" من ناحية أخرى، فبينما بدا شباب الثورة مستقيماً وصلباً وجاهزاً لتقديم أغلى التضحيات، بدت جموع الشعب، في غالبيته، خانعة وانتهازية. وتلك صورة تبدو تبسيطية ومخلّة بأكثر مما ينبغي، وربما متناقضة أيضاً.
ولأن المقام لم يعد يتّسع هنا لملاحظات أخرى، ربما لا تقل أهمية، أختم بأن رواية "جمهورية كأن"، على أهميتها، ليست أفضل ما أبدعه الكاتب الموهوب علاء الأسواني. وكان يمكن أن تكون أكثر تشويقاً وإثارة ودقّة لو كانت أقلّ حجماً، وغطّت مختلف مراحل الثورة، وكشفت عن كل أوجه تعقيدات الصراع الاجتماعي والإنساني الذي مكّن الشعب المصري من تفجير واحدة من أرقى الثورات وأجملها في تاريخه الحديث، ولم تمكّنه، في الوقت نفسه، من حمايتها والوصول بها إلى برّ الأمان.